الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصطفى السعيد يكتب: هكذا سمعت «أقبل الليل»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم أسمع فى حياتى لحناً مثل «أقبل الليل» الذى إمتطى فيه السنباطى براق الإبداع، فلم يكن إلهاماً أو وحياً فقط.. لقد تجول بنا اللحن فى رحلة كونية بين سرمديات المجرات باحثا عن أجوبة لأسئلة وجودية لا يمكن للكلمات وحدها أن تجد إليها سبيلاً، عندما سمعت الأغنية لأول مرة وأنا فى ثانوي، إرتعدت كأن الحمى مستني، وكنت أعيد سماع كل شطر، وأنا أتساءل، هل كان أحمد رامى يعتقد أن أغنية «أقبل الليل» ستصل إلى هذا المدى؟ لا أعتقد، ولا حتى أم كلثوم التى كانت أسيرة اللحن، لا تستطيع الفكاك منه، بل كان السنباطى من يجرها من أحبالها الصوتية إلى عنان السماء، لنتصور وكأنها تكمل سيرة رابعة العدوية، أو تشارك الحلاج رحلة بحثه المضنية عن الحقيقة، مخضبة بالتعب والشجن والحزن الوجودى الذى لا تعرف كنهه ولا مصدره، عبر عنها برحلة بين الأمل والرجاء والخيبة والإشتياق والخذلان. ماذا كان يريد أحمد رامى عندما كتب «أقبل الليل»؟، وإلى أين أخذها السنباطى بعيداً؟.. دعونا نتأمل اللحن الذى حطم فيه السنباطى القواعد بين المقامات، خلطها وتنقل بينها بسلاسة العارف، وأخذ قماشات الكرد والراست والبياتي، وصنع منها ثوباً جديداً، وأدخل الأورج إلى جانب الناى والقانون، وجعلها توائم، لا تدرى أى منها حل مكان الآخر، فى هارمونى جعل من اللحن فى بعض تجلياته أقرب إلى السيمفوني، الذى لا تعرفه الألحان العربية، وجعل من الآلات تحل محل الكورال أحياناً، لترد وتجيب على صوت أم كلثوم.

لقد عثر السنباطى على ضالته فى مفردات وجمل قصيدة «أقبل الليل»، التى لم تكن كلمات قصة بسيطة ومعتادة عن الحب والشوق والهجر وما عدا ذلك، بل عن الذكريات التى تولد مع الليل، عن المعانى المجردة الواسعة الدلالات، وتجاوز بها رائعته «الأطلال»، التى توصف بتاج الأغنية العربية، إلى درة التاج «أقبل الليل».

يبدأ اللحن بالعزف الحر بلا إيقاع، المعروف باسم «الأدليب»، ليتقدم الناى بشجنه من مقام الكرد بهدوء، وتعود باقى الآلات على نفس المقام، لتقدم الأورج الذى يبدو متناغما مع الناى والكمان والقانون، حتى يعلن الليل عن إقباله رسميا بصوت أم كلثوم، الذى يقود الآلات كواحدة منها، لكنه صوت آلة موسيقية مهيبة ومتعددة النغمات، وموظفة فى اللحن الرهيب، يقودها مايسترو ومؤلف موسيقى واسع الموهبة، ليس بين أبناء جيله فحسب، بل أبعد من ذلك بكثير.

الوتريات تأخذك ما بين المجرات والسماوات الواسعة والمحيرة عندما تبحث عن مغزى الوجود ورهبته، وترتعد مع إهتزازات القوس على الوتر بطريقة «التريمولى».

وعندما تغنى أم كلثوم كوبليه «يا بعيد الدار عن عينى ومن قلبى قريبا، كم أناديلك، أناديك، كم أناديك» وتكرر النداء مرات. هنا ندرك أن الموضوع ليس مجرد نداء حبيب يحن ويشتاق إلى المحبوب، إنما أبعد من ذلك، إنه القلق الوجودى الباحث دوما عن شاطئ الحقيقة، وهو فى حالة إشتياق، ولا يلقى مجيباً، وفى كل مرة كانت تصدح فيها أم كلثوم «كم أناديك» كان الصوت يتدرج بالإرتفاع، وكأنها تنتقل من سماء إلى أخرى، والسنباطى يحثها على الإستمرار فى الصعود، بل يجرها جراً، حتى يحل بها التعب بعد السماء الخامسة، وتخر من التعب واليأس عندما لا تلقى مجيباً.

وعندما تصل أم كلثوم إلى مقطع «أواه يا ليل، طال بى سهري، وسألتنى النجوم عن خبري، مازلتُ فى وحدتى أسامرها، حتى سرت فيك نسمة السحر، وأنا أسبح فى دنيا تراءت لعيوني، قصة أقرأ فيها صفحات من شجونى».. هنا تكون أم كلثوم قد بلغت مع اللحن والقصيدة ذروة الرحلة، ويحتفى بها السنباطي، ويصنع لها أجنحة موسيقية، تطوف بها بين النجوم، وتشعر بقشعريرة مع رفرفة الأجنحة الموسيقية، التى تلفها مثل كبسولة فضائية، تجوب النجوم والمجرات والزمن، «بين ماضٍ لم يدع لى غير ذكرى عن خيالى لا تغيب، وآمالٍ صورت لى فى غدٍ لقيا حبيبٍ لحبيب». وفى هذه الذروة يكون «النوم ودع مقلتي، والليل ردد أنتى، والفجر من غير إبتسامك لا يبدد وحشتى»، وهنا تبتهل أم كلثوم داعية، «يا هدى الحيران، فى ليل الضنا، أين أنت الآن، بل أين أنا؟» وتصف أم كلثوم تلك الرحلة المحيرة مع ارتعادة ريشة وأجنحة الآلات الوترية، التى تنقل للمستمع الحيرة والتوتر والترقب «تاه فكرى بين أوهامى وأطياف المنى، لست أدرى يا حبيبى من أنا؟ أين أنا؟».

وتنتهى القصيدة بفرضية أو أمنية تحاول بها أن تتعلق بالأمل، وألا تتركنا فى غياهب اليأس، وتقول: «يا قلبى لو طاب لى زماني، وأنعم الدهر بالتداني، تبسم الفجر فى عيوني، وغرد الطير فى لساني، وبت من نشوتى أغني، والليل يروى الحديث عني، يا هدى الحيران فى ليل الضنا قد غدوت الآن أدرى من أنا»، وبهذه الفرضية الباعثة على التفاؤل، مهما كانت صعبة الحدوث، تنهى أم كلثوم لحن السنباطى وقصيدة «أقبل الليل» وتشدو: «أنا طير رنام فى دنيا الأحلام، أنا ثغر بسام فى صفو الأيام.. كنت وحدى بين أوهام وأطياف المنى، والتقينا، فبدا لى يا حبيبى من أنا وأين أنا».