رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

متلازمة دو كليرامبو.. لماذا يقتل المرءُ من يُحِب؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كشفت الجرائم المتشابهة التي وقعت عام 2022 تغيرًا كبيرًا في الأنماط السلوكية للمصريين، كما مثَّلت منعطفًا جديدًا في العلاقات العاطفية، لم يضعه الكثير من علماء علم النفس والاجتماع في الحُسبان، لأن الحب يُعرف على أنه تلك العلاقة التي يدافع فيها المحب عن حبيبه للرمق الأخير لا أن يكون هو العدو فيها، لذا لم تتفتق أذهان الكثير على أن تسيطر الرغبة الدموية على العاطفة.

لم يكن مقتل نيرة أشرف فتاة المنصورة مجرد حدثًا عرضيًا انتهى بالقبض على الجاني أو تقديمه للمحاكمة، حيث لم تمر 48 ساعة حتى ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بصور للفتاة الأردنية إيمان خورشيد التي قتلت بنفس الطريقة  التي قتلت بها نيرة، مع رسالة تهديد من منفذها نصت على "رح اجي احكي معك وإذا ما قبلتي رح اقتلك مثل ما عمل الشاب في البنت المصرية".

لم تتوقف تلك النوعية من الجرائم عند هذا الحد، وتفاجأ الجميع مجددًا بمقتل فتاة الشرقية سلمى بهجت ثم أماني عبدالكريم فتاة المنوفية.. «الحُب» هو الرابط بين كل الضحايا والقتلة في كل تلك الجرائم، ولكن لا تزال الدوافع التي أدت للقتل خفية، ومع مراعاة أن أي علاقة عاطفية هي علاقة شخصية وسرية بشكل معقد ومتشابك، وتظل أدق تفاصيلها وأسرارها مهما انكشف منها بين طرفي العلاقة فقط، لذا فمعرفة الأسباب الحقيقية والدوافع الخفية ليس أمرًا سهلًا في معادلة انتهت حياة أحد أطرافها ودُفِنت معه تفاصيلها.

غريزة الحُب

الحب هو تلك الغريزة التي يتعايش بها طرفان روحيًا وجسديًا، ومنذ فجر البشرية ظل هو الباعث الحقيقي الذي يحتمي به البشر في محاولة للحفاظ على اتزانهم النفسي وإشباع الرغبات البشرية المتعددة، وفي الوقت ذاته يلعب الخوف دورًا رئيسًا هنا وهو الخوف من عدم اكتمال العلاقة، لذا وبشكل موضوعي فالحب بمعناه الذي عرفته البشرية من القِدم ليس سببًا في أي من هذه الجرائم التي تتخطى المنطق، ولكن ثمة دوافع أخرى سواء كانت النزعة السلطوية أو حب التملُك أو ممارسة الذكورية أو الخوف من خسارة الحبيب وفقدانه.

الصورة الحقيقية للحب يمكن تمثيلها في قول قيس بن الملوح بقصيدته المؤنسة:

عَلى مِثلِ لَيلى يَقتُلُ المَرءُ نَفسَهُ ..  وَإِن كُنتُ مِن لَيلى عَلى اليَأسِ طاوِيا

وكذلك قوله: 

فَيا رَبِّ إِذ صَيَّرتَ لَيلى هِيَ المُنى ..  فَزِنّي بِعَينَيها كَما زِنتَها لِيا

وَإِلّا فَبَغِّضها إِلَيَّ وَأَهلَها ..  فَإِنّي بِلَيلى قَد لَقيتُ الدَواهِيا

كان مجنون ليلى مستعدًا للتضحية بنفسه في سبيل محبوبته، بالرغم من اليأس الذي تملك قلبه، بل وصل إلى أن يدعو الله ببغضها إذا لم تكن له، وهنا يتضح المبتغى والهدف الحقيقي للعلاقة العاطفية في تمني القرب والوصال وإشباع الرغبة، أو الهجران إذا ما كان ذلك الحب سببًا للألم والمتاعب. 

فرانك تاليس المتخصص في علم النفس الإكلينيكي يقول في كتابه "الرومانسي الذي لا علاج له: وقصص أخرى عن الجنون والرغبة" إنه يمكن للحب أن يكون تجربة قوية ومُفقِدَة للاتزان، فغالبًا يترك الحب انطباعًا لدى من يمرون به بأنه ليس تجربة لطيفة في مجملها، فعندما لا تسير علاقة الحب على ما يرام، تبدأ جميع أنواع المشكلات في الحدوث، مثل الوَلَه، والغيرة المرضية، وانكسار القلب، والتعلق غير اللائق، والإدمان، مع مضاعفات نفسية جسيمة لتجربة الوقوع في الحب على نحوٍ قاسٍ، وهذا أمر يجب التعامل معه بشكل أكثر جدية.

تاليس أشار إلى وجود نوع من الكيمياء العصبية التي تنتج عن الحب، وقد جرى تعريفها بأنها مواد كيميائية شبيهة بالأمفيتامين والأفيون، ويُفرَز هذا المزيج عندما يقع الناس في الحب، وترتبط حالات الحب الشديد بإفراز الأوكسيتوسين، وهو هرمون قوي يسبب الشعور بالتعلُّق، وما يحدث أيضًا هو أنك عندما تقع في الحب فأنت تشعر بهوس شديد نحو الشخص الذي تحب، وعندما يمر شخص بتجربة الحب الذي يصل إلى حد الهوس، فمن الوارد أيضًا حدوث توظيف لبعض الآليات التي تدخل في الإصابة بحالات الهوس الإكلينيكي.

المؤلفان آرون بن زئيف وروهاما جوسينسكي تناولا الحديث عن ضحايا الحب في كتابهما «بإسم الحب: الأيديولوجية الرومانسية وضحاياها» وأشارا إلى أن الحب في مضمونه يحمل معنى أخلاقي جوهره الإيثار، وأنه لا يمكن لأحدنا أن ينكر قيمة الحب، واللمسات الساحرة التي يضفيها على واقعنا.

التفسخ الأخلاقي

التاريخ البشري لا يكاد يعرف مثل هذه الوقائع، ولم يبدأ علماء النفس والاجتماع بتحليل نمط وقائع مشابهة إلا في الحقبة الزمنية الأخيرة، ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي ازداد اهتمام العلماء بإيجاد تفسيرات منطقية للعلاقات العاطفية والمراحل التي تمر بها، ووصفت إيفا إيلوز في كتابها «نهاية الحب: سوسيولوجيا العلاقات السلبية» وسائل التواصل الاجتماعي بـ«العرجاء»، وأشارت إلى أن التفسخ الأخلاقي السائد في المجتمعات الغربية هو المتهم الأول بقتل الطقوس الاجتماعية التي كانت سائدة.

الكاتبة الفرنسية أكدت أن العلاقات الأصلية باتت عابرة، تقوم على مبدأ المنفعة المتبادلة لا روح فيها ولا عاطفة، وآخر شيء يكون في هذه العلاقات هو الحب، وحذرت من أن ما يحدث يعد مشكلة اجتماعية معقدة تهدد الصحة العقلية للأفراد، وتؤثر سلبًا في قدرة المجتمعات على تحقيق الأمن النفسي والإشباع العاطفي لمواطنيها، وتنشر حالة من انعدام الثقة والاغتراب الوجودي، وهو ما يُعد خصمًا من أرصدة أي مجتمع بشري، ويحدّ من إمكانية تطوره الأخلاقي في نهاية المطاف.

الحب «غير الأخلاقي»

وفق آرون وروهاما، الحب ليس امتلاكًا للطرف الآخر أو سيطرة علي حياته، إنما مشاركة، أما إذا ترسخت فكرة الامتلاك أو السيطرة في هذه الحالة يمكن اعتبار الحب بهذا الشكل ممارسة «غير أخلاقية»، لكونه يفتقر إلى المعاني الصادقة للمشاركة، والأولى بنا البحث عن علاقة صحية بلا قيود ولا خداع وبلا مبالغة، تهدف لإمضاء الشريكين وقتًا صادقًا معًا، ومشاركة واعية من قبل كل طرف للآخر دون إيهامه بأن الحياة تستحيل من دونه، لكون هذه الأمور تتسبب في هدم سقف طموح الطرفين في العلاقة مع مرور الوقت، جراء المبالغة التي تؤدي إلى انهيار العلاقة بدلًا من تعميقها والبناء عليها وتحسينها.

في كتابهما بحث المؤلفان سبب ظاهرة قتل الأحباء، وتشترك التفسيرات المختلفة المقدّمة لقتل الزوجة أو الحبيبة في افتراضين شائعين، وهما أن القتل ينبع من التملك الذكوري، وهو تجسيد لشخصية القاتل والغيرة والغضب، والسبب الثانى هو نتاج تاريخ من العنف السابق للقتل، كما أن القتل بلا شك هو أقصى مظهر من مظاهر العنف الذكوري.

أشار الكتاب إلى أن معظم عمليات القتل هذه تم التخطيط لها بشكل جيد، علاوة على ذلك، لا يمكن فهم قتل الزوجة بأنه حالة فقدان السيطرة أو الجنون، بل إنه عمل متعمد ناتج عن نضج عاطفي، أدى إلى خلق الاستعداد الذهني لارتكاب جريمة القتل وتدمير الآخر.

هذا التفسير الذي وضعه فيلسوف في مجال العواطف بالاشتراك مع أستاذ علم الاجتماع في كتابهما، هو نفس التفسير الذي تحدث عنه فرانك تاليس، الذي أشار إلى أن هذا النوع من الرجال يعاني من «متلازمة دو كليرامبو».

متلازمة دو كليرامبو

متلازمة دو كليرامبو أو متلازمة الأنترومنيا، اكتشفها الطبيب النفسي غاتيان دي كليرامبولت عام 1921 وأطلق عليها اسمه، وتعني «هوس العشق»، ويعرفها كتاب «الرومانسي الذي لا علاج له» بأنه عندما يقوم الشخص بملاحقة شخص آخر، يكون مصابًا بالهوس الشديد، كما أنه مقتنع تمام الاقتناع بمنظومة فكرية رومانسية في دماغه هو فقط تقول بأنه لن يشعر بالسعادة إلا مع شخص معين، ومن هنا تبدأ المضايقات والتتبع.

رغم أن التاريخ لم يذكر لنا الكثير من حالات قتل المحبين، إلا أنه ذكر العديد من حالات هوس العشق خاصة مع المشاهير، والتي يقوم فيها شخص ما بأفعال غير متوقعة قد يبنيها في خياله أو يواجه بها من يعتقد أنه شريكه، وقد يصل الأمر إلى التل بسبب عدم اعتراف الطرف الآخر بالعلاقة من الأساس.

بحسب الجمعية الأمريكية لعلم النفس فإن هوس العشق يحدث عندما يعتقد الشخص بقوة - على الرغم من وجود دليل عكس ذلك - أن الشخص الآخر مغرم به.. وهنا يمكن الكشف عن بعض أسباب هذه الجرائم الغريبة على المجتمعات العربية، حيث يتحول المُحب إلى مريض، ويحاول الثأر من حبيبه بسبب رفضه وعدم قبوله، وفي بعض الحالات يكون وجود طرف ثالث أو ما يمكن أن يُسمى بالمنافس سببًا في هذا التحول في العلاقة العاطفية.

الطرف الثالث أو المنافس أشار إليه رينيه غيرار في كتابه «العنف والمقدس» على أن الأمر بين الطرفين غير مرتبط في شخص لديه رغبه بآخر، ولكنه ثمة طرف ثالث يؤجج الصراع بينهما، وهذا الطرف قادر على تحويل مسار الأمر برمته إلى حرب وليس حب، حيث تبدأ الغيرة والخلافات تدُب بين الطرفين، بسبب تفكير المحب في خسارة من يحبه، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تغيير في المعادلة العاطفية، ويدفع الشخص للتعبير عن غصبه وقد يصل الأمر إلى القتل من أجل منع الطرف الثالث في الفوز بالمعركة.

وفي دراسة حديثة عن العنف ضد النساء، ألقت الخبيرة البريطانية في علم الإجرام جين مانكتون سميث الضوء على أبرز المراحل التي يتخذها الرجال في الإقدام على قتل شريكة حياتهم سواء زوجة أو حبيبة، وتمثلت المراحل الثمانية في: تاريخ من الملاحقات أو المضايقات التي وقعت قبل الارتباط، وتسارع وتيرة العلاقة الرومانسية والدخول في علاقة جادة، فضلًا عن نزعة السيطرة السلوكية التي تتحكم في العلاقة، وانطلاق مسيرة السيطرة من الرجل عند تهديد الشريك بإنهاء العلاقة، وكذلك التصعيد عبر تكثيف تكتيكات السيطرة من ملاحقات أو تهديد بالانتحار، ثم التغيير في التفكير واللجوء لطريق آخر وهو الانتقام أو القتل، لتأتي مرحلة التخطيط وشراء سلاح أو تحيّن الفُرص للانفراد بالضحية، وتنتهي بتنفيذ الجريمة بقتل الشريك.

الحل الأمثل: النعيم بدلًا من الجحيم

العديد من علامات الاستفهام ستظل قائمة تجاه هذه الجرائم غير الأخلاقية بالمرة والبعيدة كل البُعد عن الحب بمعناه المتعارف عليه، ومع الأخذ في الاعتبار أن الهدف الأسمى للحب هو وصف مولانا جلال الدين الرومي عندما قال:

"هكذا أودُّ أن أموت في العشق الذي أكنّه لك.. كقطع سحبٍ تذوبُ في ضوء الشمس".. فالغاية أن تذوب روح المُحِب في روح حبيبه كأنهما روحٌ واحدة لشخصٍ واحد، وأما في ظل عدم استطاعة الوصول إلى الهدف المنشود من العلاقة العاطفية لأي سببٍ كان، فلا يوجد مبرر بالأساس من الاستمرار في فعل يؤدي إلى ضرر.

آرون وروهاما، وصلا في نهاية كتابهما إلى أن التطرف في الحب، قد ينتهي إلى مخاطر أو نهايات مأساوية للعلاقة، وهذا نتاج الصورة الحالمة التي وضعها أحد الطرفين للسيطرة والوصول للآخر وامتلاكه، وغيرها من المفارقات التي تحول دون ازدهار الحب، وهو ما يُسهم في  تطوير السلوك المرضي لدى البعض وصولًا إلى ارتكابهم جرائم حقيقية.

ورأى العالمان أن الحل الأمثل حتى لا نفقد ثقتنا في وجود الحب والقيمة المضافة التي يضفيها على حياتنا، هي أن نجعل نظرتنا له أقرب إلى الواقع، لننعم به بدلًا من أن نحوله إلى عِبء مُضاف إلى واقعنا.