الإثنين 03 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

المصريون والحرب.. من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"إلى مَنْ استشهدوا كي نبقى، وتبقى مصر"، هكذا أهدى الأديب الراحل جمال الغيطاني، كتابه "المصريون والحرب.. من صدمة يونيو إلى يقظة أكتوبر"، الصادر مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب برئاسة الدكتور هيثم الحاج على، إلى أرواح جنود مصر، لم يختص الغيطاني– كما عودنا من خلال رؤيته البعيدة المدى– أبطال عبور أكتوبر الخالد دون غيرهم بالكتاب، ولكن أطلق لإهدائه العنان ليكون لجنود مصر على مر التاريخ، الذين ضحوا بأرواحهم الطاهرة زودًا ودفاعًا عن امتهم، ترابها، نيلها، أهلهم وأهلها.
لم يأت كتاب الأديب الراحل من تأملات روائي يجلس متكئًا على كرسيه في زاوية بيته الأثيرة، أو آخر يَحرق تبغ سيجارته مع رشفات قهوته المعتادة، وهو يخط ما يجول بذهنه من تصورات عن الحرب وميدان القتال، وإنما جاء الكتاب محملًا بأيام وليال وشهور قضاها الأديب الراحل على خط النار، يعيش حياة الجندية بفخرها وشرفها، يهجم مع زملائه على العدو، ويتلقى النيران، جاءت صفحات الكتاب محملة برائحة البارود الذي استنشقه كاتبه في مواجهاته الميدانية، في محراب الشجاعة والبطولة على أرض سيناء التي كانت وما زالت أرض ميلاد الأبطال، سواء من نال شرف الشهادة أو عاد بالنصر رافعًا راية الكرامة والعزة مع تحرير الأرض، وقهر العدو ودمر أحلامه وطموحاته.
قضى الغيطاني شهورًا داخل سيناء يسلك دروبها، ويعتلي جبالها، ويتخفى في أكثر من موقع ومكان، ويقتات الأعشاب الجبلية أحيانًا، أو ما يجده حوله، وفي اللحظة المناسبة يضرب ضربته مع زملائه، ثم يتفرقون ليجتمعوا من جديد، حتى أصبحت سيناء محفوظة في قلبه وقلوبهم وعقولهم جميعًا، يعرفون دروبها، ومتاهاتها، ست سنوات قضاها "الغيطاني" على الجبهة المصرية، مراسلًا حربيا لمؤسسة "أخبار اليوم"، كان يواجه الموت كل ساعة، حكاياته على الجبهة عديدة، متنوعة، إنسانية، عن البشر المنسيين، حكايات عن الموت الذي ينتظره المنسيون، حكايات عن الموت الذي ينتظره المقاتلون كل لحظة، عن الموت الذي قد تنجو منه مرة.. ومرة، ولكنه يطاردك.
كتب الغيطاني- رحمه الله- من سيناء وهو على خط النار رسائله الشهيرة "رسائل مقاتل من أعماق سيناء"، فيقول في إحدى رسائله: "أصدقائي الأعزاء.. هناك حقيقة موضوعية تتجسد هنا فوق أرض سيناء، في كل لحظة بين هدير الانفجارات وتناثر الشظايا، حقيقة لا بد أن تظل مائلة في وعينا، كلما استمعنا إلى بيان عسكري يزف إلينا بشرى جديدة للنصر، هذه الحقيقة أن كل شبر جديد تتقدمه قواتنا المسلحة إلى الشرق، كل خطوة جديدة تحرر جزءًا من أرضنا المحتلة، كل دورة لجنزير دبابة أو عربة مدرعة تقربنا من يوم النصر النهائي.
كل هذا لا يتم إلا بالدم.
يُدفع ثمنه دمًا.
هنا فوق أرض سيناء، يجود أغلى أبناء مصر بأثمن ما يملكون، بأعمارهم، هنا يُضحي زهرة شباب مصر بأثمن ما لديهم، كل معركة هنا تشهد حوادث ترقى إلى مستوى المعجزات، هنا ينفض الشعب آلامه، جراحه، عبر مخاض وعر وقاسٍ وطويل".
يرصد الغيطاني في مقدمة كتابه، مرارة ما بعد يونيو 1967، وما تعرض له المقاتل المصري من حملة نفسية واسعة، كانت في حقيقتها موجهة إلى الإنسان المصري ذاته، بتاريخه، ومكوناته الحضارية، مشيرًا إلى أن محور هذه الحملة كان حول عدم قدرة المقاتل المصري على خوض حرب حديثة، بل امتدت هذه الحملة لتشكك في قدراته القتالية، حيث انطلقت هذه الحرب في شكل أكاذيب مدعومة بوجهات نظر علمية زائفة، لدرجة أن أحد الباحثين الفرنسيين أعد رسالة علمية تقدم بها إلى جامعة السربون، وتدور حول العوامل الحضارية والنفسية التي تجعل من المقاتل المصري غير صالح لخوض غمار حرب –وما أشبه اليوم بالبارحة – وبالطبع هذه الحملة استندت إلى مجموعة من الأسس المادية الأرضية كالهزيمة العسكرية عام 1967، والجو النفسي الكئيب الذي ساد مشاعرنا فيما تلى ذلك من سنوات، كما تصور الإسرائيليون، أن نكسة 1967، كانت هي النهاية، شأنهم في ذلك شأن كل الغزاة الطامعين الذين هاجموا مصر عبر تاريخها الطويل.. بدءًا من الهكسوس، والرعاة، والفرس، واليونانيين، والبطالمة، والعثمانيين، والفرنسيين، والإنجليز، وفي الناحية المقابلة– ناحيتنا– كان يمكن للبعض منا ألا يستطيع النفاذ عبر الحجب القاتمة التي أقامتها هزيمة 1967، فيرى أنه لا فائدة، وأن المصري لم يُخلق للحرب، بحجة أنه إنسان حضارة وبناء.
يحكي الغيطاني عن بداية تعرفه على المقاتل المصري فوق أرض الواقع، غازلًا من حكاياته مقطوعة موسيقية عن أجواء مدينة بورسيعيد الرقيقة كما وصفها والباسلة أيضًا كما عرفناها، والتي رأي بها رائحة الحرب، في كل تفصيلات الحياة خلال قطع السيارة للطريق الطويل المؤدي إليها والتي رأها تتخذ شكلًا مختلفًا ومغايرًا، ففوق الرءوس خوذات الحرب، ووسائل النقل العسكرية يضفى عليها جو الحرب غموضًا خاصًا، فربما تكون سيارة النقل هذه تحمل ذخيرة إلى موقع ما، أو تنقل مددًا أو تمضي إلى موقع متقدم لتخلي بعض الجرحي، والليل يتنفس الدخان، ورائحة البارود. إلى أن التقى بالبطل الأول، فيقول عنه: رأيته، شابًا صغيرًا متوسط القامة، فوق كتفه نجمة واحدة صغيرة، أحد ضباطنا هنا، قلت في نفسي إنه مثلي في العمر إن لم يكن أصغر، في عمر أخي الذي يصغرني، بالضبط لا يتجاوز الثانية والعشرين، حياته هنا وسط الرمال والمتاريس والمخابئ المحفورة في الأرض وأكياس الرمل والدشم والمعارك اليومية، إذا ما نزل الإسكندرية بلدته، ينتابه قلقل، منذ اللحظة الأولى التي يعبر فيها القناة إلى بورسعيد، في المدينة الحلوة يسأل نفسه، "يا ترى الرجالة عاملين إيه؟"، "الموقف في الواقع؟"، إذا وقع اشتباك مع العدو وسمع أخباره من الإذاعة فإنه يكون مشغولا أكثر، يراوده ندم، عدم وجوده في موقعه أثناء الاشتباك، إذا سهر مع بعض أصدقائه فلا حديث له إلا المعركة، نظرت في عينيه، وجه ابن الثانية والعشرين، الرجولة وعنفوان الشباب، حجم الجسم الخاص بهذا العمر، مر بعض الجنود، كانوا يغسلون ثيابهم بعد سهر طويل، في العيون دهشة لوجود مدنيين هنا، رفعوا أيديهم بالتحية، ليست عسكرية جافة روتينية، ليست لينة، التحية تعكس شيئًا جديدًا، راح يكتشف كلما مضيت هنا من موقع إلى آخر، وقال الضابط الشاب إن وجود مدنيين هنا يسعدنا جدًا لا تتصور سعادة الجنود بهذا، وفعلا عندما التقيت بهم في الخنادق كانوا يجيئون في ابتهاج، يقدمون السجائر ويبحثون عن ادوات الشاي وصرون بشكل يخجلنا فعلا، استأذن الضابط منا، ابتعد في الصبح الباكر، وقفت أرقبه، عندما قامت ثورة 1952.. كان عمره أربع سنوات، وها هو اليوم يقف مدافعًا عن مصر".
وكما عودنا بأسلوبه السردي الرائق يحكي الغيطاني عن الأيام والليالي التي قضاها على الجبهة فترة حرب الاستنزاف، ليل الغارات والرد عليها، ليل الهجوم والانفجارات، ليل التسلل للإغارة على قوات العدو، والعودة قبل أول ضوء، ليل، الصمت في أوله والهجوم في منتصفه والانتصار والزهو مع شروق فجر اليوم الجديد، ناقلًا لنا الصورة الكاملة لعمليات ما قبل السادس من أكتوبر المجيدة، التي يقول عنها: "من أغرب العلاقات التي نمت في جبهة القتال خلال حرب الاستنزاف، أو خلال فترة التدريبات والاستعداد، العلاقة بين المقاتل والسلاح، طاقم الدبابة بالمركبة، نفس الشيء بالنسبة لرجال المدفعية، أو المقاتلين بالنسبة لأسلحتهم الخفيفة سواء أكانت بنادقهم العادية أم مدافعهم الخفيفة، وبمجرد استلامها، أيا كان نوع السلاح، تبدأ هذه العلاقة بين المقاتل وسلاحه، بين الذات والموضوع، بين الروح والمادة.
وفي ملحمة لا تقل إبداعًا عن ملحمة النصر تأتي آخر فصول الكتاب التي ترصد معركة العبور بعين المقاتل المحارب المُكبر المنتصر وبدأ كتابته عن ملحمة العبور بنداء قائد الفرقة الثانية في جنوده ظهر يوم السادس من أكتوبر: "يا رجال مصر، جاء اليوم الذي نهب فيه لتحرير أرضنا سيناء العربية، إن سيناء كانت وستبقى دائمًا مصرية قبل أن يخلق الله الدين اليهودي..
إننا نقاتل عن حق، إننا نقاتل لتحرير الأرض من الأستعمار الصهيوني، إننا نقاتل حتى لا نكون شعبًا من اللاجئين في الصحراء الغربية، هذا ما تريده لنا الصهيونية، إننا نقاتل لنثأر للذين استشهدوا عام 1967، بل قتلوا وهم أسرى حرب، فعل هذا بهم جيش الدفاع الإسرائيلي، لم يراع قوانين حرب.
إننا نقاتل لنثبت للعالم أجمع أن في مصر رجالًا قادرين ومقاتلين ليقطعوا كل يد تمتد إننا نقاتل لتحقيق السلام، إننا نقاتل لتستمر الحياة، إننا نقاتل في سبيل مصر..
يا أبناء مصر.
ليس أمامنا إلا أن ننتصر بإذن الله، وأن ننتصر لتعيش مصر، كما عاشت عبر السنين، ولنحقق نصرًا إلى التاريخ.
يا أبناء مصر
لأول مرة منذ زمن طويل نهب من الخنادق لنلبي نداء الهجوم، ونضرب الضربة الأولى، تقدموا، تقدموا، تقدموا...