الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

إبراهيم نوار يكتب: الأمن الغذائى فى مصر.. مساحة الأرض الزراعية فى مصر ستزيد بمقدار الثلث تقريبا

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عندما جاء يوسف إلى فرعون، وطلب منه أن يصبح أمينا على خزائن الأرض، وهى مصر، كان يعلم علم اليقين أنه يجب أن يدخر فى السنوات السمان، ما ينفع فى السنوات العجاف.
ولم يكن يوسف أبدا من أنصار منطق «إصرف ما فى الجيب يأتيك ما فى الغيب"! ولا منطق «مَيِّل على صاحبك وخد منه قرشين"! ولا منطق «بيع عفش البيت واتغدى بثمنه، ثم اسأل الله فى حق العشاء"! كابوس الأمن الغذائى الذى يطارد السياسة الاقتصادية ليس جديدا، بل إنه يعود إلى عقود طويلة مضت.
وقد كانت مصر منذ ستينيات القرن الماضى تعانى من أزمة غذاء، تجلت فى نقص إنتاجها من القمح والذرة، فاضطرت للاستيراد، أو مدت يديها لطلب المساعدة. وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن مصر أنتجت فى عام ١٩٦٠ حوالى ١.٥ مليون طن من القمح، واستوردت أقل من مليون طن. أى أن نسبة الاكتفاء الذاتى كانت حوالى ٦٠٪.
لكن هذه النسبة تدهورت خلال الستين عاما الماضية إلى حوالى ٥٠٪ أو أقل، حيث تنتج مصر حوالى ١٠ ملايين طن، وتستورد كمية مماثلة أو أكبر. وتقدر وزارة الزراعة الأمريكية أن الواردات ستزيد فى العام القادم إلى ١٢ مليون طن.
لكن هذا التقدير ربما لا يأخذ فى الاعتبار ما تضيفه مصر من موارد زراعية جديدة، أهمها التوسع الأفقى، وزيادة المساحة المنزرعة بما لا يقل عن ٣ ملايين فدان منها ٢.٢ مليون فدان فى الدلتا الجديدة، وحوالى ٥٠٠ ألف فدان فى شرق العوينات، من المتوقع أن تزيد إلى مليون فدان.
إضافة إلى توسعات أخرى فى توشكى وشمال سيناء وغيرها. هذا يعنى أن مساحة الأرض الزراعية فى مصر ستزيد بمقدار الثلث تقريبا، من أقل من ١٠ ملايين فدان إلى أكثر من ١٣ مليون فدان فى السنوات القادمة. هذا يعنى فى التحليل النهائى زيادة عرض الغذاء.
وفى حال استمرار نمط الزراعة على ما هو عليه، من حيث تخصيص ثلث المساحة المنزرعة فى الموسم الشتوى لمحصول القمح، فإن هذا يعنى زيادة إنتاج القمح بنسبة ٣٠٪ على الأقل. ومن الممكن أن تتضاعف هذه الزيادة بثلاث طرق: الأول هو زيادة نسبة المساحة المخصصة لزراعة القمح من الثلث إلى النصف. لكن هذا يتطلب مجموعة من الحوافز السعرية والتنظيمية التى تشجع المزارعين على زيادة المساحة المنزرعة.
والطريقة الثانية هو تقليل مساحة الأراضى المزروعة بالبرسيم، وذلك بالتوسع فى زراعة نباتات العلف فى الأراضى الصحراوية القليلة الجودة، واستيراد نباتات العلف من الدول الأفريقية المجاورة، والتوسع فى تصنيع أنواع من الأعلاف تعتمد على مكونات محلية نباتية أو حيوانية. ذلك ضرورى لتقليل المنافسة الشرسة بين البرسيم والقمح على الأرض والمياه.


أما الطريقة الثالث فإنه استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة من أجل زيادة إنتاجية القمح رأسيا، والوصول بمتوسط إنتاج الفدان من القمح إلى أعلى من المتوسط العالمى.
فى الوقت الحاضر يبلغ متوسط إنتاج الفدان من القمح ما يتراوح بين ٢.٧ إلى ٣ أطنان، أو ١٨ إلى ٢٠ إردبا للفدان (الإردب ١٥٠ كجم)، فى حين أن المتوسط العالمى يتراوح بين ٧ - ١٠ أطنان للهكتار (ما يعادل ٣ أطنان الى ٤.٣ طن للفدان).
وهناك دول مثل نيوزيلندا سجلت رقما قياسيا فى الإنتاج بلغ ١٦.٥ طن للهكتار عام ٢٠١٨. ومتى ما توفرت إرادة سياسية واقتصادية وتكنولوجية لإصلاح السياسة الزراعية، سيكون من السهل رفع إنتاجية فدان القمح، وزيادة كمية الإنتاج المحلى إلى ما يعادل الاكتفاء الذاتى أو يزيد.
ومن العبث أن نستسلم للفقر الغذائى الذى يهدد أمننا القومى، بعد أن أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح فى العالم، وسادس أكبر مستوردى الذرة، وتصل نسبة اعتمادها على الخارج فى كفاية احتياجاتها من الزيوت النباتية إلى أكثر من ٩٥٪. إن سقوط الإنتاج المحلى تحت حد الكفاف من الحبوب والزيوت النباتية يمثل بكل تأكيد تهديدا للأمن القومى، ويعكس انخفاضا حادا فى الكفاءة الاقتصادية. 
وتقاس «كفاءة الاقتصاد» فى المراحل الأعلى من التنمية بـ"القدرة على المنافسة»، سواء فى السوق المحلية أو الخارجية. أما فى المراحل الأدنى من التنمية فإن كفاءة الاقتصاد تقاس بالقدرة على «توفير حد الكفاف» للسكان، من الغذاء والكساء والدواء والتعليم.
أما كفاءة «السياسة الاقتصادية» فإنها تقاس بمدى اعتمادها على محركات المعرفة، والتطور التكنولوجى، والتنسيق المؤسسى، وسيادة القانون. وإذا اندفعت السياسة الاقتصادية بمحركات أخرى، مثل مصالح الجماعات الخاصة، ومحركات الربح السريع، فإنها تتعرض لتقلبات حادة من عام إلى آخر، وتسبب خسائر فادحة للاقتصاد ككل.
ومع أن تطوير المعرفة المحلية مهم لتصويب السياسة الاقتصادية، فإن قنوات المعرفة المحلية يجب أن تكون أيضا منفتحة على الخارج، بما يكفى على الأقل، للإحاطة بنظرة الآخرين إلى السياسة الاقتصادية المحلية، خصوصا من يمكن أن نعتبرهم شركاء فى صنع التنمية المحلية.
نسبة الاكتفاء الذاتى
تحقيق الأمن الغذائى، والقضاء على الأمية، والقضاء على الفقر، هى من الموضوعات التى تتردد فى عناوين وأهداف السياسة الاقتصادية.
ومن المثير للعجب أن نرى الفقر يزيد عاما بعد آخر، وأن الأمية تتفاقم، وأن العجز عن تحقيق الأمن الغذائى، جعل أسعار الغذاء هى أحد المحركات الرئيسية للتضخم، حيث يصل معدل التضخم فى أسعار الغذاء إلى أكثر من ٩٠٪، ويعتبر هو البند الأكبر بين كل بنود حساب التضخم.
النجاح فى الموضوعات الثلاثة التى أشرنا إليها: تحقيق الأمن الغذائى، والقضاء على الأمية، والقضاء على الفقر، يبرهن على نجاح السياسة الاقتصادية، فى مجالات إتاحة حد الكفاف الاقتصادى والاجتماعى للسكان. وبدون ذلك يستحيل الكلام عن التقدم أو الريادة، أو الانتقال إلى مرحلة القدرة على المنافسة.
ويتطلب النجاح فى تحقيق تلك الأهداف تركيز السياسة الاقتصادية عليها، من أجل إتاحتها، وتوفير ظروف المنافسة الصحية، التى تساعد المنتجين على التفاعل مع كل مكونات السوق، بما يلبى احتياجات توسيع طاقات الإنتاج، والإنتقال من مرحلة «ما دون حد الكفاف» إلى مرحلة «الوفرة والتنوع»، التى تلتقى مع ارتفاع مستويات المعيشة للفئات الاجتماعية المختلفة. 


واردات القمح تضاعفت ١٢ مرة
ومع أن حكومات كثيرة فى مصر، رفعت شعار تحقيق الأمن الغذائى، فإن واردات مصر من القمح تضاعفت ١٢ مرة تقريبا منذ ستينيات القرن الماضى حتى الآن، من أقل من مليون طن عام ١٩٦٠ إلى حوالى ١٢ مليون طن حسب توقعات وزارة الزراعة الأمريكية فى الوقت الحالى.
مصر تنتج أقل من نصف حاجتها من القمح، ويزيد سكانها بنسبة ٢٪ فى المتوسط سنويا. كما تستضيف مصر التى يبلغ عدد سكانها حوالى ١٠٥ ملايين شخص، ما يقرب من ١٠ ملايين أخرين، هاجروا إليها من السودان وليبيا واليمن والعراق وسوريا، ومن بلدان أفريقية مختلفة.
كما أنها تستضيف سنويا حوالى ١٥ مليون سائح، تخطط الدولة مضاعفة عددهم الى ٣٠ مليونا. هذا يعنى أن مصر عليها أن تعمل على زيادة إنتاجها السنوى من القمح والحبوب والمحاصيل الغذائية الأخرى بأكثر من ٣٪ على الأقل، حتى تستطيع توفير حد الكفاف من الطعام لسكانها. ونظرا لأنها لم تفعل، فلا غرابة فى أن سلة غذاء العالم القديم، أصبحت أكبر مستورد للقمح فى العالم حاليا، وسادس أكبر مستورد للذرة. 
المنافسة بين القمح والبرسيم
ما يحد من زيادة المساحة المنزرعة بالقمح فى الموسم الشتوى إلى نصف المساحة بدلا من الثلث حاليا، هو المنافسة الشديدة مع محاصيل أخرى خصوصا البرسيم الذى يمثل محصول العلف الأخضر الرئيسى، ومحاصيل نقدية أخرى مثل البطاطس والبصل والبنجر.
ولكى تصبح زيادة زراعة الأرض بالقمح خيارا اقتصاديا رشيدا، فإن ذلك يحتاج أولا إلى مجموعة من الحوافز السعرية والتنظيمية لتعويض المزارعين عن الخسائر المحتملة بسبب التوسع فى زراعة القمح. كما يحتاج أيضا إلى زيادة كمية الأعلاف المتاحة بما فيها العلف الأخضر.
ويمكن تحقيق ذلك بزيادة استيراد نباتات الأعلاف من الدول الأفريقية المجاورة، وإنشاء مشاريع استثمار زراعية مشتركة معها، تتخصص فى زراعة محاصيل الأعلاف، إلى جانب الحد من تصدير محاصيل العلف المصرية ومنها البرسيم. وهناك دراسات كثيرة فى مصر والعالم بشأن تنمية زراعة محاصيل الأعلاف، من الضرورى الاهتمام بها والاستفادة منها.
كما يمكن أيضا إجراء تجارب معملية على إمكان زراعة القمح مرتين فى السنة، وليس مرة واحدة. وتطوير بذور القمح جينيا لهذا الغرض. وإذا نجحت مثل هذه التجارب، فإنها ستكون بمثابة اختراق كبير فى مجال تحقيق الأمن الغذائى المصرى. ولا يقتصر العجز فى تحقيق الأمن الغذائى على القصور فى إنتاج القمح فقط، وإنما هو يشمل أيضا الذرة ونباتات البذور الزيتية.
وتعانى زراعة نباتات البذور الزيتية مثل نباتات «عباد الشمس» و«فول الصويا»، واستخراج الزيوت من بذور القطن والكتان والسمسم والذرة والزيتون وغيرها من صعوبات اقتصادية كثيرة، من أخطرها الفساد الكبير المنتشر فى سوق الزيوت النباتية فى مصر، الذى يسمح بدخول زيوت رديئة رخيصة الثمن لا تعادل أسعارها تكاليف إنتاج زراعة واستخلاص الزيوت محليا. ونتيجة لذلك فإن مصر تستورد ما يقرب من ٩٥٪ من احتياجاتها من الزيوت الغذائية. 
تكلفة استيراد القمح
من الصعب الحديث عن استراتيجية لتحقيق الأمن الغذائى فى مصر لا يكون تحقيق الاكتفاء الذاتى من القمح هو قلبها وعمودها الفقرى. فى هذه الحالة فإن مثل هذه الاستراتيجية تكتسب مصداقيتها، وبدونها فإن الحديث عن تحقيق الأمن الغذائى يصبح نوعًا من اللغو، يسبب أضرارا كبيرة فى الأجلين القصير والطويل معا.
وتستهدف الاستراتيجية الحالية رفع نسبة الاكتفاء الذاتى من ٥٠٪ تقريبا إلى ٥٥٪ فى عام ٢٠٢٥. وتتوقع وزارة الزراعة الأمريكية أن تستورد مصر فى الموسم الزراعى الجديد ٢٠٢٣-٢٠٢٤ ما يقرب من ١٢ مليون طن من القمح بزيادة ٩٪ على المتوقع فى الموسم الحالى.
كما تتوقع زيادة واردات مصر من الذرة بنسبة ٢١٪ عن عام ٢٢/٢٣. وتعتبر مصر أكبر دولة مستوردة للذرة فى شمال أفريقيا، وسادس أكبر مستورد للذرة فى العالم. 
وقد بلغت فاتورة استيراد القمح فى السنة المالية ٢١/٢٢ حوالى ٤.٢ مليار دولار. ولا يشمل هذا الرقم تكلفة النقل والشحن والتأمين والفحص. وعادة ما يتم إعلان أسعار القمح المستورد طبقا لأسعار البيع تسليم ظهر السفينة، وليس تسليم ميناء الوصول.
وتبلغ قيمة واردات القمح ما يزيد على كل قيمة صادرات الحاصلات الزراعية، إذ تستحوذ على نسبة ١٢٧٪ من قيمة صادرات القطاع الزراعى المصرى، بما فيها المحاصيل النقدية الرئيسية مثل البرتقال والبطاطس والفراولة وغيرها التى بلغت رقما قياسيا بقيمة ٣.٣ مليار دولار عام ٢٠٢٢. وإذا أضفنا واردات مصر من الذرة والسلع الغذائية الأخرى فإن فاتورة استيراد الحبوب والزيوت النباتية والسلع الغذائية تتجاوز ٢٠٪ من قيمة الواردات. 
ولتدبير تكلفة تمويل احتياجات الاستيراد من القمح لجأت الحكومة المصرية فى السنة المالية الحالية إلى عدد من المصادر التمويلية المختلفة، من أهمها المؤسسة الإسلامية الدولية لتمويل التجارة، التى تتعاقد على تمويل الواردات طبقا لصيغة «المرابحة الإسلامية»، وهى صيغة تسمح للطرف الممول بالمشاركة فى أرباح الصفقة.
هذا النوع من التمويل هو تمويل قصير الأجل، يجب تسويته موسميا خلال المدة المتفق عليها. ويشمل اتفاق التمويل مع المؤسسة تغطية احتياجات استيراد القمح والنفط الخام ومشتقاته.
وكانت قيمة التسهيلات التمويلية المتفق عليها فى بداية العام الماضى تبلغ ٣ مليارات دولار، تمت مضاعفتها قبل نهاية السنة المالية الأخيرة الى ٦ مليارات دولار، وهو ما سمح لمصر بمضاعفة قيمة التمويل المتاح لاستيراد القمح من ٧٠٠ مليون دولار إلى حوالى ١.٦ مليار دولار.
كما أجرت مصر محادثات مع صندوق أبوظبى من أجل الحصول على تمويل بقيمة ٤٠٠ مليون دولار، لاستيراد القمح. وهذا يعنى أن مصر اقترضت حوالى ٢ مليار دولار على الأقل لتمويل استيراد القمح، منذ بداية العام الحالى. وإلى جانب ذلك تحصل مصر على تسهيلات مالية ومعاملة تفضيلية لاستيراد القمح من روسيا، وربما من الاتحاد الأوروبى أيضا.
هذه التكلفة سوف تستمر فى التزايد، بينما قدرة مصر على التمويل ستتناقص، نتيجة تحولها من اقتصاد متنوع للاعتماد على النفط والغاز، وإهمال قطاعات الإنتاج العينى الحقيقية، الزراعة والصناعة. ومع تناقص قدرة مصر على التمويل، لدرجة الاقتراض لتمويل طعام أهلها، ستهبط طموحاتها إلى ما دون تحقيق الأمن الغذائى، أو «حد الكفاف»، وهو ما لا يجب أن نترك أنفسنا ننحدر إليه.