السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

بعد أزمة "الشعر الجاهلي".. طه حسين يشرح موقفه من "القرآن الكريم"

الدكتور طه حسين
الدكتور طه حسين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تسبب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين طوال حياته المليئة بالمعارك الفكرية والثقافية، في  الكثير من المشاكل نتيجة أفكاره الجريئة والتي برزت بشكل صارخ في وجه المحافظين والتقليديين بعد إصدار كتابه المثير للجدل "في الشعر الجاهلي"، واجه بعدها طه حسين هجومًا عنيفًا من رجال الدين والسياسة معًا، حيث طالته حملات من التشويه والاتهام بالكفر والطعن في الدين ولا سيما في النص القرآني.

عميد الأدب، الذي تحل ذكرى رحيله اليوم الخميس، حيث رحل في الثامن والعشرين من أكتوبر العام1973، لم يمنعه الهجوم عليه ولا التخويف من مواصلة طرح رؤيته حول الأدب العربي القديم، كما لم يتوقف عن دروسه التي تتناول القرآن الكريم والحديث النبوي بالشرح والتحليل.

رئيس الوزراء يحذره من شرح "القرآن الكريم"

وبعد سنوات طويلة من أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" أجرى الصحفي الكبير محمود عوض مقابلة مع طه حسين نشرها في كتاب "أفكار ضد الرصاص" وكان من بين أسئلة "عوض": هل أدى هذا الإرهاب الفكري الذي تعرضت له إلى التأثير على مواقفك فيما بعد.. التأثير على أسلوب محاضراتك في الجامعة مثلا؟؟

فأجابه طه حسين: لا لم يحدث بل إنه حدث بعد ذلك أن أحمد لطفي السيد أبلغني باعتباره مديرًا للجامعة أن رئيس الوزراء محمد محمود باشا -رحمه الله- قال له: نحن الآن في بداية السنة الدراسية الجديدة فقل لطه حسين -بتاعك ده- ألا يتعرض في دروسه لسيرة القرآن من قريب أو بعيد"

وقتها قلت للطفي السيد: حاضر.

وفي أول درس التقيت فيه بالطلبة قلت لم : نبدأ هذا العام الدراسي الجديد بتفسير القرآن" وبدأت فعلا أفسر للطلبة الجزء الأول من سورة البقرة. ثم طلبت أحمد لطفي السيد وقلت له: أنا الآن أفسر القرآن للطلبة وتستطيع أن تبلغ هذا لرئيس الوزراء على لساني".

وفي كتابه "مرآة الإسلام" الذي أصدره في العام 1959، وهو عبارة عن سيرة مختصرة لتاريخ ظهور الإسلام، تناول فيه عميد الأدب السيرة النبوية بالإضافة لعصر الخلفاء الراشدين وأمر الفتنة التي أطاحت بوحدة المسلمين في أيام الإسلام الأولى، كما تناول في القسم الثاني تعاليم الدين التي تمثلت في مصدريه القرآن الكريم والحديث الشريف.

وتحدث طه حسين باستفاضة عن "القرآن الكريم" بوصفه الأصل الأول في الإسلام، شارحًا وجوه الإعجاز التي تمتع بها النص الكريم ما جعله يُبهر العرب ويستحوذ على قلوبهم، ويدفعهم للوحدة والتحول نحو العدل والنظام والدولة بعدما كانوا قبائل متناحرة.

وأفاض مؤلف "مرآة الإسلام" القول في مخالفة القرآن لآداب العرب المتمثلة في الشعر والنثر، ومخالفة موضوعاته لموضوعات العرب، فبينما هم تحدثوا عن الناقة والرحلة والأطلال والحروب والأمجاد القبلية، فإنه تحدث عن التوحيد، وذم الشرك، وأنبأ عما في نفوس الناس وضمائرها، وحثهم على قيم الحق والخير والعدل والإحسان. 

وأشار العميد إلى دور القرآن في المحافظة على اللسان العربي، وبراعته في النظم وأسلوبه في أداء المعنى، وتمتعه بالبلاغة والبيان بما يجعل في المستمع أثرا باقيا. 

مخالفة الشعر والنثر

وعن ذلك يقول طه حسين: القرآن كلام لم تسمع العرب مثله قبل أن يتلوه النبي، فهو في صورته الظاهرة ليس شعرًا لأنه لم يَجْرِ في الأوزان والقوافي والخيال على ما جرى عليه الشعر، ثم هو لم يُشارك الشعر الذي أَلِفَهُ العرب في قليل أو كثير من موضوعاته ومعانيه؛ فهو لا يصف الأطلال والرُّبُوع، ولا يصف الحنين إلى الأحبة، ولا يصف الإبل في أسفارها الطِّوال والقِصار، ولا يُغرِق فيما كان الشعراء يُغرِقون فيه من تشبيهات للإبل والصحراء والرياض والأشجار والحيوان والصيد وأدواته؛ لا يعرض لشيء من هذا كله. وليس فيه غزل ولا فخر ولا مدح ولا هجاء ولا رثاء، وهو لا يصف الحرب وما يكون فيها من الكَرِّ والفَرِّ، وهو لا يبالغ ولا يغلو ولا يعدو الحق. لا يعرض من هذا كله لشيء وإنما يتحدَّث إلى الناس عن أشياء لم يتحدَّث إليهم بها أحدٌ من قبله.

نظم القرآن وأسلوبه في أداء المعنى

وعنه يقول طه حسين: للقرآن وجهًا آخر من وجوه الإعجاز لم يستطع العرب أن يحاكوه أيام النبي ولا بعده، ذلك هو نظم القرآن أي أسلوبه في أداء المعاني التي أراد الله أن تُؤدَّى إلى الناس. لم يؤدِّ إليهم هذه المعاني شعرًا كما قدمنا ولم يؤدِّها إليهم نثرًا أيضًا، وإنما أدَّاها على مذهب مقصور عليه وفي أسلوب خاصٍّ به لم يُسبق إليه ولم يُلحق فيه. ليس شعرًا لأنه لا يتقيد بأوزان الشعر وقوافيه، وليس نثرًا لأنه لا يُطلق إطلاق النثر ولا يُقَيَّدُ بهذه القيود التي عرفها الكُتَّاب في الإسلام، وإنما هو آيات مفصلة لها مزاجها الخاص في الاتصال والانفصال وفي الطول والقِصَر، وفيما يظهر من الائتلاف والاختلاف، تتلو بعض سوره فإذا أنت مضطر في تلاوتها إلى الأناة والتمهُّل؛ لأنها فُصِّلَتْ في ريث ومهل لأداء معانٍ تحتاج إلى البسط والريث، كالتشريع مثلًا ووصف ما كان يُثار بين المسلمين والمشركين من الحروب والمواقع. وتتلو بعض سوره الأخرى فإذا أنت مُضْطَرٌّ إلى شيء من السرع؛ لأنها تؤدي معاني يحتاج أداؤها إلى القوة والعنف، قد فُصِّلَتْ آياتها قِصارًا ملتئمة الفواصل تقرؤها فكأنك تنحدر من عل، وذلك حين يخوف الله عباده ويشتد في تخويفهم فيأخذهم من جميع أقطارهم ويقطع عليهم طريق الجدال والحجاج.

وربما يَقُص من أنباء الرسل فيمضي القصص في هدوء ومهل؛ لأنه يتجه إلى إثارة التفكير والاعتبار والتروية فيما جرى على الأمم من قبلُ والحذر من أن يجري عليهم مثله.

الأثر الباقي في نفوس المستمعين

ويشرحه طه حسين قائلا: ووجه آخر من وجوه إعجاز القرآن وهو هذا الأثر الباقي الذي يتركه في قلوب الناس وعقولهم وأذواقهم على تتابُع القرون واختلاف الأجيال.

فالعربي القديم من أهل الفصاحة واللسن والبراعة في تصريف القول قد سمع القرآن فراعه منه ما راعه واستجاب له هذه الاستجابة التي يعرفها التاريخ، ولكنَّ أجيالًا أخرى لا تحكم ولا تصرف القول ولا تذوق روعة البيان قد جاءت بعد أولئك القدماء من العرب فسمعت القرآن وقرأته، فإذا هو يستأثر بعقولها وقلوبها، وإذا هي لا تقرؤه أو تسمعه إلا خشعت له واستيقنت أنه كلام لا كالكلام، بل له شأن آخر يختلف أشد الاختلاف عمَّا يكتبه الناثرون وينظمه الشعراء ويقوله الخطباء.

دور القرآن في تقويم اللسان العربي

وعنه دوره في تقويم اللسان، يقول طه حسين: ليس في التراث الإنساني كله شيء يشبه القرآن في تقويم الألسنة العربية حين تلتوي باللهجات العامية المختلفة، والأجنبية حين تلتوي بلغاتها المتباينة؛ فالذين يحفظون القرآن في الصبا، ويُكثِرون قراءته ويجوِّدونها أصحُّ الناس نطقًا بالعربية وأقلهم تخليطًا فيها. ومن أجل ذلك كانت الأجيال السابقة إلى عهد قريب تأخذ الصبية حين يتعلمون الكتابة والقراءة بحِفظ القرآن كله أو بعضه وتجويد قراءته؛ يرون في ذلك محافظةً على الدين وتقويمًا لألسنة الصبية والشباب. 

وكان الذين يحفظون القرآن أو شيئًا منه أجود نطقًا بالعربية حين يتكلمون، وأجدر أن يفقهوا دقائق اللغة حين يتعلمونها. وقد أُهْمِل حفظ القرآن وتمرين الصبية على قراءته وتجويده في المدارس الحديثة حينًا؛ فَالْتَوَتْ ألسنة الشباب وفسد نطقهم وضاقوا بدروس اللغة في مدارسهم، ثم أعرضوا عنها بعد الخروج من المدارس، ثم مال كثير منهم إلى العامية فآثروها على الفصحى وحاولوا أن يجعلوها لغة الكتابة فلم تستقِم لهم، ولأمرٍ ما عاد القائمون على شئون التعليم فراجعوا مناهج المدارس وبرامجها وجعلوا لقراءة القرآن وحفظه مكانًا مرموقًا.