رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإسلام الحق.. والتأسلم (9)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ونمضي في بحثنا عن مصادر التأسلم في الفكر العربي والإسلامي، وعن كيفية استخدام الدين كأداة وغطاء لتحقيق أهداف ومطامع سياسية، فيصل بنا البحث إلى تلك الثورة الشهيرة، التي عرفت باسم ثورة الزنج. ففي فترة مظلمة من الخلافة العباسية تضافرت ظروف الاستبداد السياسي والاجتماعي، والاستغلال الوحشي للعبيد، في ظل هيمنة تركية على السلطة جعلت من الخليفة العباسي مجرد أيقونة دينية يتخفى خلفها طغاة وبغاة، إلى درجة أن أحد هؤلاء الخلفاء الضعفاء كتب شعرًا يتأوه فيه من قلة حيلته، فقال الخليفة المعتمد (256 هـ):
أليس من العجائبِ أنَّ مِثلي
يرى ما قَلَّ ممتنَعًا عليـــــــهِ
وتُؤكل باسْمِهِ الدنيا جميعًا
وما مِن ذاك شيء في يديهِ
إليهِ تُحمَّـــلُ الأموالُ طــــرًّا
ويُمنع بَعضَ ما يُجبى إليهِ
(أبو الفوز محمد البغدادي – سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب – ص 87) .
والحقيقة أن ثورات عدة قد تفجرت. وعديد من الخلفاء حاول التمرد ضد التحكم التركي، مثل الخليفة المنتصر بالله (247 هـ)، الذي استند إلى جموع من العلويين، لكنه قُتل مسمومًا، وبذات المصير قُتل الخليفة المهتدي بالله. واستمرت ثورات متتالية، منها ثورة الكوفة بزعامة أبو الحسين يحيى بن عمر، الذي يمتد نسبه إلى علي بن أبي طالب. وثورة طبرستان بقيادة سليل آخر لعليّ هو الحسن بن زيد.
لكن هذه الثورات ما لبثت أن سُحقت، حتى كانت ثورة الزنج التي تميزت بغلافين أساسيين فتحا أمامها باب الصمود، أولهما الغطاء الديني، ويتحدث الطبري عن ذلك قائلاً: “,”لقد أحله رجاله محل النبي، وجُبي له الخراج، ونفذ حكمه بينهم“,” (ابن جرير الطبري – تاريخ الرسل والملوك).
وكان قائد هذه الثورة علي بن محمد بن علي بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أي أنه حقًّا وفعلاً من سلالة علي، وكان فوق هذا عالمًا وشاعرًا يعيش في سامراء كمعلم للخط والنحو والفلك، وبدأ ثورته في مدينة “,”هجر“,”، أهم مدن البحرين، ثم في الأحساء، في محيط عربي خالص، واستمرت كذلك من 249 هـ حتى 255 هـ.
ثم كان قتال بين جيش الدولة وجماعته، وانتصرت جيوش الدولة، وقبض على ابنه وزوجته وابنته، أما هو فقد فر بمن تبقى من جنده إلى البصرة، وهي أهم مدن الجنوب، الذي كان مليئًا بالرقيق والعمال والفقراء، الذين يعملون في مجاري المياه ومَصابّها، ويقومون بكسح السباخ والأملاح التي تتراكم في مياه الخليج؛ لحماية التربة من تراكم الأملاح حتى تبقى صالحة للزراعة.
وكانت ظروف العمل شديدة القسوة وغير إنسانية، ويشرف عليها وكلاء شديدو القسوة يعملون لحساب أشراف من العرب والفرس، وكان بعض هؤلاء العبيد مجلوبين من إفريقيا ومن النوبة، وبعضهم من القرماطيين، أما فقراء العرب فكانوا يعاملون ذات المعاملة ويسمون الفراتين؛ فقرر علي بن محمد أن يتقرب إلى العبيد، وأن يتحرك بهم في مواجهة الاستعباد فيحررهم ويحرر بهم الدولة العباسية، وكان أول زنجي ينضم إليه هو ريحان بن صالح، الذي أصبح واحدًا من أشهر القادة العسكريين.
وتنقل علي بن محمد مع رجاله بين مواقع عمل الرقيق والفراتين داعيًا إياهم للثورة والهروب إلى معسكره، واستجابت له ألوف من الزنوج والفراتين والنوبيين وتشجع بهم العديد من العرب والأعراب، وقد فشل المشرفون على تسخير هؤلاء في منعهم من الفرار والالتحاق بالثائرين. يقول الطبري: “,”فكانوا يحبسونهم في البيوت، ويسدون أبوابها ونوافذها بالطين، ويقتلون الفارين، دون فائدة“,” (الطبري – المرجع السابق)، ويصف ابن خلدون زحف العبيد إلى جموع الثورة قائلاً: “,”لقد تسايل إليه الزنج فاتبعوه“,” (ابن خلدون – المقدمة – ص 290).
كذلك حصن محمد بن علي نفسه بالدِّين؛ فهو سليل ابن أبي طالب. فكان يصيح في جنوده: “,”والله ما ثرت لغرض من أغراض الدنيا، ولا من أجل الملك، وإنما لله سبحانه وتعالى، وسأكون معكم في الحرب أشارككم فيها بيدي، وأخاطر معكم فيها بنفسي، وليحط بي جماعة منكم، فإن أحسوا مني ضعفًا أو هربًا أو غدرًا فتكوا بي فورًا“,”. (الطبري – المرجع السابق).
أما عن الخلافة فقد رفض خلافة بني العباس، وأعلن نفسه أميرًا للمؤمنين، بل وأعلن أن الخلافة من حق كل مسلم، ولا يجوز حصرها في قريش، رغم أنه وكبار قادة جيشه قرشيون؛ فأطمع الزنوج في كل المناصب حتى الخلافة.
أما الغطاء الاجتماعي فكان المساواة وتحرير العبيد وتحويلهم إلى سادة، ويكون لهم حق التملك للأموال والضياع. ودعا إلى نظام اجتماعي ذي طبيعة جماعية، تشبه كثيرًا ما قيل عن الأنظمة الشيوعية، التي لم تزل حلمًا عند أصحابها حتى الآن؛ فالجميع ينتجون ويتكافلون.
وقد طبق هذا النظام بالفعل في كل مكان يسيطرون عليه. وقد عرض عليه الأشراف من العرب والفرس بأن يعيد إليهم عبيدهم مقابل خمسة دنانير عن كل رأس؛ فرفض، بل صادر أملاكهم وعاقبهم هم ووكلاؤهم؛ فطلب من كل جماعة من العبيد أن يجلدوا علنًا سادتهم القدامى. وهكذا التهبت النفوس بعشق هذه الثورة وتوالت انتصاراتها.. ولكن إلى حين.