رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

"حلم الخلافة" قتال من أجل الوهم (ملف)

داعش- صورة أرشيفية
داعش- صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كتب - سارة رشاد وإسلام محمد ومصطفى كامل ودعاء إمام ووليد منصور ومحمد أبو سبحة
لقرابة مائة عام مضت ظلت الساحة الفكرية فى العالم الإسلامى تموج بالنقاشات والجدل حول مسألة الدولة ونظام الحكم فى الإسلام، فقد شهدت عشرينيات القرن الماضى أطروحات تكتب لأول مرة عن مسألة ظل الحديث فيها نظريا على مدار ثلاثة عشر قرنا من الزمان؛ فقبل عام 1924، لم تشهد الشعوب الإسلامية عصرا لا يوجد فيه خليفة وخلافة -ولو إسميًا- لكنها حدثت عندما أعلن أتاتورك إزاحة السلطان عبدالمجيد عن السلطة وإلغاء الخلافة عام 1924، بالرغم من أن الأخير لم تكن له سلطة فعلية قبل هذا التاريخ، لكن هذا الحدث كان من الضخامة وقتها بحيث ضجت أرجاء العالم الإسلامى بنقاشات لم تنته حتى اليوم حول جدوى، بل وصحة نظام الخلافة ومدى تمثيله للإسلام.
فى هذا الملف نستعرض جوانب القضية من أبعادها المختلفة، ونناقش مفهوم الدولة فى الإسلام، وهل هى مسألة توقيفية نص عليها الشرع الحنيف بتفاصيلها أم أمر اجتهادى يخضع لظروف الزمان والمكان؟!.

الدولة الإسلامية فى عقل «داعش»

«خليفة» على رأس الهيكل التنظيمى له حق الطاعة

اختلف الإسلاميون أنفسهم على طبيعة تلك الدولة التى آمنوا بها، فمن تنظيم اختلق الأزمة، ثم زعم التبرؤ من دولة خلافة، إلى تنظيم يرى الدولة حتمية وجزءا لا يتجزأ من الدين، إلى تنظيم حلم بها لكنه بقى بعيدًا عن رسم محاور لها.

«داعش» واجتهادات متطرفة

كان صعود تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، فى العراق وسوريا مؤشرًا على بدء حقبة جهادية جديدة، فالتنظيم الإرهابي، أعلن عن هدف بعيد المدى، هو إقامة دولة إسلامية، أو خلافة، تستند إلى اجتهادات متطرفة للغاية فى الشريعة، ما جعله أكثر من مجرد تنظيم إرهابى يبحث عن تواجد مكثف وحلم العودة إلى الخلافة الإسلامية فى عصر الخلفاء والأمويين والعباسيين، على الرغم من أن أصوله ترقى وتؤكد إلى كونه فرعًا من تنظيم القاعدة فى العراق.

وهم الخلافة

فرض التنظيم الإرهابى تلك المقومات التى بنى عليها خلافته الوهمية، هو الشكل الوحيد والأساسى لإقامة الدولة فى الإسلام، وأن قيام أى دولة أخرى حتى وإن كانت على نهج تنظيم القاعدة الحالى أو الدول الأخرى، يعد مخالفًا للتعاليم الإسلامية، حسب رؤيته، التى استقاها من الكتب التنظيرية التى اعتمدها كإدارة التوحش، وكتب سيد قطب، والأصوليين

ويعتبر تنظيم داعش الإرهابي، أن الدولة تقوم على مقومات أساسية نظرًا للأشكال التنظيمية الحداثية لمفهوم الدولة، الذى يستند إلى أجهزة عسكرية وأمنية وإيديولوجية وبيروقراطية، وتسعى إلى دمج ما هو عسكرى بما هو إعلامى وسياسى واجتماعي، وترى أن الدولة تتأسس من عدة أركان يجب توافرها كى تكون هناك مقومات لدولة خلافة.

البنية التنظيمية

تعتمد البنية التنظيمية لـ«الدولة» عند داعش على هيكلية هرمية يعتبر «الخليفة» رأسها، ويُشرف إشرافًا مباشرًا على «المجالس»، وهى تسمية استخدمها «البغدادي» عوضًا عن تسمية الوزارات التى اعتمدها سلفه أبو عمر البغدادي.

وتعتبر «المجالس» المفاصل الأساسية لتنظيم الدولة التى تشكِّل «القيادة المركزية»، ويتمتع البغدادى بصلاحيات واسعة فى تعيين وعزل رؤساء المجالس بعد أخذ رأى «مجلس الشورى»، الذى تبدو استشارته معلِمة وغير ملزمة؛ فالقرار الأخير والفصل النهائى بعد التداول للبغدادي، إبراهيم عواد إبراهيم البدرى السامرائي، وهو عراقى الأصل، وبفضل سلطاته «الدينية» الواسعة يتحكم فى سائر القضايا الاستراتيجية؛ فهو صاحب «الأمر والنهي» فى معظم القرارات الحاسمة.

بناء تنظيمى

يرى التنظيم الإرهابى أن البناء التنظيمى للدولة الإسلامية -حسب أفكارهم واعتقاداتهم- يجب أن تتوفر فيها المناصب والهيئات الأساسية، كى ترقى إلى مستوى دولة أو خلافة، كما تسعى إلى تحقيقه بخلافة وهمية، فالشكل التنظيمى يجب أولا أن يكون على رأسه «خليفة»، ويأتى على أسس فقهية وشريعة، ويجب أن تجتمع فيه شروط الولاية كـ«العلم والنسب القرشي»، بجانب سائر الوظائف الدينية والدنيوية الواجب توافرها فى التراث الإسلامى السني، ويكون له حق الطاعة بعد اختياره من قبل مجلس الشورى وأهل الحل والعقد.

مجلس الشوري

يأتى «مجلس الشورى»، الذى يعتبره التنظيم من أهم المؤسسات التابعة له فى المرتبة الثانية، إذ يتمتع بصلاحيات كبيرة ويتسع ويضيق حسب الظروف والحادة، وتتلخص مهامه فى النظر فى القضايا المستجدة واتخاذ القرارات المهمة ورسم السياسات العامة.

كما يتمتع بصلاحية عزل الأمير من الناحية النظرية، وبالوظائف التقليدية التاريخية المنصوص عليها فى التراث السياسى الإسلامي؛ بالإضافة إلى تقديمه للمشورة لزعيم التنظيم فى قرار الحرب والسلم، وتكون غير ملزمة، بجانب تزكية المرشحين لمناصب الولاة، وأعضاء المجالس المختلفة.

أهل الحل والعقد

تتوالى حسب أفكار التنظيم الإرهابية التى يسعى إلى تحقيق الخلافة الوهمية من خلالها، إلى ضرورة وجود «أهل الحل والعقد»، والذى يرى فيه أنه من شأنه الأخذ بالرأى والحكمة المؤديين إلى اختيار من هو الأصلح للإمامة، كما يمثل داخل التنظيم الإرهابى طيفًا واسعًا من الأعيان والقادة الإرهابيين، الذين يقومون بمبايعة زعيمهم على تولى منصب الأمير أو الخليفة، بينما تتبعها ما تسمى بـ«الهيئة الشرعية» التى تقوم بإصدار الكتب والرسائل، وصياغة خطابات البغدادى والبيانات، يأتى فى ذيلها «الهيئة الإعلامية»، التى تنشر تلك المواد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيما يتصدر تلك المقومات الداعشية، ما يعرف لديهم بـ«بيت المال»، البنك الممتلئ بالأموال الوفيرة، التى يغدقها التنظيم على عناصره، ويقوم بجمعها من عدة طرق غير شرعية.

 مجالس

فيما يرتكز التنظيم الإرهابى فى أركان دولته إلى ثلاثة مجالس أساسية، أولها «عسكري» والثانى «أمني» والأخير «إداري»، فالعسكرى يعتبر الأهم داخل التنظيم نظرًا لطبيعة التنظيم العسكرية، ويشغل قائد المجلس العسكرى منصب نائب البغدادي، ويتكون المجلس العسكرى من قادة القواطع، وكل قاطع يتكون من ثلاث كتائب، وكل كتيبة تنقسم إلى عدد من السرايا.

أما «الأمني» فيقوم بوظيفة الأمن والاستخبارات، ويتولى المجلس الشئون الأمنية للتنظيم، وكل ما يتعلق بالأمن الشخصى للبغدادي، وتأمين أماكن إقامته ومواعيده وتنقلاته؛ أما الأخيرالإداري- فهو يختص بتقسيم مناطق نفوذ التنظيم إلى وحداتٍ إدارية يطلق عليها اسم «ولايات»، وهى التسمية الإسلامية التاريخية للجغرافيا السكانية، ويتولى مسئولية «الولايات» مجموعة من الأمراء، وهى التسمية المتداولة فى التراث السياسى الإسلامى التاريخي.


السلفيون..  الحلم الكلاسيكى

 رفضوا القوانين المدنية.. ويعملون بالسياسة للقفز على السلطة

لا تزال الجماعات السلفية تستحضر الصورة النمطية لشكل الدولة الدينية مهما حاولوا إخفاء ذلك؛ فبالرجوع إلى كتابات السلفيين نجد أنهم يعتبرون الوظيفة الرئيسية للدولة الإسلامية، هى إقامة الدين وسياسة الدنيا بالدين، ففى الدولة الإسلامية «وظيفة الدولة القيام على الدعوة الإسلامية، وإقامة الشريعة الإسلامية، وقيادة الأُمَّة وفق هذه الشريعة»، بحسب كتاب (نحو ثقافة إسلامية أصيلة) للدكتور عمر سليمان الأشقر.

الدين والسياسة

نجد أيضا أن الدولة الإسلامية لديهم لا تفصل بين الدين والسياسة، وهذا يختلف عما تدعو إليه الديمقراطية والمدنية الحديثة، مِن الفصل بين الدين والدولة، وتلك السلطة السياسية هى الدولة الإسلامية، كما جاء فى كتاب (فقه النصر والتمكين فى القرآن الكريم) للدكتور على الصلابي. وحين نبحث فى الفكر الأصولى للسلفيين فى مصر حول بناء الدولة نجدهم، على سبيل المثال، اعتبروا الديمقراطية وكل أنواع الأنظمة السياسية التى تستقى شرعيتها من الشعب لا من الله، مخالفة للعقيدة الإسلامية، كما أنهم كانوا يرفضون قبل ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ الاشتراك فى الانتخابات، مُجادلين بأن التغيير لا يمكن أن يحدث ألا عبر نشر الدعوة، بما يفضى فى النهاية الى إقامة دولة دينية، لكن يبدو أنهم وجدوا صعوبة فى تطبيق ذلك، فاتخذوا من التحول إلى السياسة أسلوبا جديدا للسعى إلى تطبيق أحلامهم.

ياسر برهامى

فى مقال نشره ياسر برهامى نائب رئيس الدعوة السلفية، فى عام ٢٠١٠، بمجلة (صوت الدعوة)، تبنى فيه موقفًا متشددًا من مشاركة الإسلاميين فى الانتخابات البرلمانية فى أواخر ٢٠١٠، ويقول تحت عنوان «من يرى التغيير من خلال الانتخابات البرلمانية» أن: القوانين الوضعية مخالفة للشريعة الإسلامية، وكل ما يخالف الشريعة فهو باطل... فارق أساسى وكبير بين الحكم الإسلامى والحكم العلمانى الديمقراطي: فتشريعات الحكم الإسلامى تبنى على الكتاب والسنة، وهو يوجب الحكم بما أنزل الله ويرى العدول عن ذلك فسقًا وظلمًا وكفرًا». ومن هنا يتبين لنا أن السلفيين يعيشون خارج روح العصر الحديث، فبينما العالم يعيش مرحلة ما بعد الدولة، ويسعى إلى عولمة ثقافته السياسية لا تزال تلك الجماعات تراوح فى مرحلة ما قبل الدولة، وهى تحمل على كاهلها عبء الموروث والتاريخ الذى يضفى على تصورها أنها تحتاج إعادة النظر والاجتهاد فى تصور ملامح الدولة الحديثة.


الإخوان يخططون لدولة فى الخفاء

 لا يعترفون بالحدود.. والوطن فى عقيدتهم حفنة من «تراب عفن»

 عند النظر إلى أدبيات جماعة الإخوان «الإرهابية»، التى قامت عليها وتأسست عليها، وشكلت وجدانها، ورسمت تاريخها الطويل منذ نشأتها وحتى يومنا هذا، فدائمًا ما يتبدل حال ألسنتهم، مع تعاقب الأجيال، الذين يتحدثون عن الأمة الواحدة والإسلام ودولة الخلافة، إلى الحديث عن الحدود والأرض والقومية، هى نفسها الأرض التى كثيرًا ما جاء وصفها خلال اجتماعات الجماعة، وفى عمليات تلقين أجيالهم «أنها حفنة تراب عفنة» لا قيمة لها إلا بالإسلام وإليه.

فالنشيد الذى رددته الجماعة وتوارثته الأجيال جيلًا بعد جيل، الذى يقول «ليس للتين أو الزيتون نغضب.. نحن للإسلام وللأرض ننسب»، حافظين فيه وغيره الفكرة التى على أساسها قامت الجماعة لإحياء فكرة الخلافة الإسلامية، التى توارت مع حركة مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، وهى الفكرة التى لا تعترف بحدود، وطالما كان الإسلام قائماً فى بقعة فلا فرق بين مصر والسعودية وسوريا والعراق، كما يقول أحد شعراء الإخوان: «ولست أرى سوى الإسلام لى وطنا... الشام فيه وبلاد النيل سيان - وكلما ذكر اسم الله فى بلد... عددت أرجاءه من لب أوطاني».

حسن البنا

عند التوغل داخل الفكر الإخواني، وتحديدًا عن المؤسس «حسن البنا»، يمكن القول إن مشروع الدولة الإسلامية الذى قدَّمه «البنا» اعتبرته الجماعة مشروعًَا تجديديًا متميزًا لعددٍ من الاعتبارات، على رأسها الطابع الشامل لهذا المشروع، والذى ضمَّ كافةَ الجوانب المطلوب تحقيقها والسعى فيها لإحداث الصحوة الإسلامية المنشودة وإقامة الدولة الإسلامية المعاصرة.

فيرى الإخوان أن مشروع البنا هو المعتمد للصحوة الإسلامية، إذ يؤكد من خلال رؤيته أن مشروعه لم يقتصر على الجانب الروحى أو التربوى والاجتماعي، كما فعل مشروع الإمام محمد عبده، أو على الجانب السياسى «الثورى الحركي»، كما فعل جمال الدين الأفغانى فى أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

حكم دستورى

حدد مؤسس الجماعة الأسس اللازمة لإقامة دولة إسلامية معاصرة، دون النظر إلى الأرض أو الوطن، وتأتى فى مقدمتها «العبادات، الأخلاقيات العامة، التكافل، الجهاد»، غير أنهم يسعون دائمًا إلى مواجهة العلمانية، ويرون أن نظام الحكم الدستورى هو أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم كله، دون النظر إلى أدبياتهم التى تؤكد أن «الوطن حفنة من تراب عفن»، حسب قول قاداتهم.

رحاب الأمة

المفكر الكويتي، الدكتور أحمد البغدادي، فى دراسة له بعنوان (موقع الوطنية والأرض فى أدبيات الإخوان)، يقول: «إن منطقة شبه الجزيرة العربية لم تعرف فكرة الوطن قبل الإسلام، فكان النظام القبلى هو القائم وكان تعصب الفرد وانتمائه لقبيلته، لذلك جاء الإسلام للانتقال الدينى من فكرة القوم المحدودة إلى فكرة الأمة، وهو ما مثل توسعا وشمولا فى الرؤيا القرآنية للمجموعة الإنسانية الخاصة بالمسلمين، ساهم بصورة أو بأخرى فى التحرر من القيد الجغرافىإن جاز التعبيرللقبيلة ممثلة بـ«الحمى»، وبالتالى انتقل المسلمون من ضيق القبيلة إلى رحاب الأمة ذات الطابع الديني.

وأوضح المفكر الكويتى خلال دراسته، أن ذلك المفهوم الذى تعارف عليه الناس قديمًا اختفى فعليًا بعد ظهور الدولة القومية أو الوطنية ذات الكيان الجغرافى المحدد، وظل كذلك، إلى أن جاء حسن البنا، فأعاد بعث فكرة الأمة الإسلامية من جديد، لكن نظرًا لاعتماد الأنظمة السياسية العربية لنظرية الدولة الوطنية، وتقسيم الكيان العربى الواسع إلى كيانات عربية محددة، أصبحت فكرة الدولة الوطنية أقوى من أن تزال أو يحل محلها فكرة بديلة، مشيرًا إلى أن الجماعة ومؤسسها حسن البنا بدأ يتعايش مع فكرة الدولة ولو ظاهريًا، إلا أن الولاء الأكبر ظل للفكرة «الأمة والخلافة».

تجهيل المجتمع

أشار إلى أن «سيد قطب» كان أكثر تشددًا منه فى تعامله مع فكرة الوطنية، إذ لم يحاول «التعايش والتماهي» مع الفكرة كما فعل «البنا»، وإنما لجأ إلى «تجهيل» المجتمع، والدعوة إلى «الحاكمية» بمعنى الاحتكام إلى الله وإقامة دولة الإسلام، وبغض القومية والوطنية.

المفكر الكويتى يعود مجددًا إلى الطريقة التى حاول بها «البنا» التعويض عن فكرة الأمة والخلافة، ومواجهة فكرة الدولة المحدودة جغرافيًا عبر تأسيس التنظيم الدولي، فيقول: «ساهمت أحداث تشتت الجماعة فى أعقاب المحاولة الفاشلة لاغتيال عبدالناصر، سواء بالسجن أو الهروب خارج مصر، العمل على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين فى العالم العربي، وكان كثير منهم قد هرب إلى دول الخليج العربى التى قبلت وجودهم لأسباب دينية، مثل السعودية، أو بسبب الانفتاح الاجتماعى مثل الكويت».


على عبدالرازق.. أول فقيه ينادى بـ«مدنية» الدولة

على عبدالرازق، هو مؤلف كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، ولد فى قرية أبو جرج بمحافظة المنيا، حفظ القرآن فى كتاب القرية، ثم ذهب إلى الأزهر؛ حيث حصل على درجة العالمية، ثم ذهب إلى جامعة أوكسفورد البريطانية، وعقب عودته عُين قاضيا شرعيا.

أصدر عبدالرازق كتابه عام ١٩٢٥، ورأى البعض أنه يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، بينما يرى البعض الآخر أنه أثبت بالشرع وصحيح الدين عدم وجود دليل على شكل معيّن للدولة فى الإسلام، بل الحرية متروكة للمسلمين فى اختيار شكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة، وأنّ نظام الخلافة الذى نُسِب للإسلام ليس من الإسلام فى شيء، إنّما هو من وضع المسلمين.

ضجة كبيرة

أثار كتاب عبدالرازق ضجة كبيرة فور صدوره، بسبب آرائه التى كانت تـُسمع لأول مرة فى هذا الوقت صادرة من شيخ أزهرى وعالم دين، وتعرض الكتاب لردود أفعال متباينة ورد عليه عدد من العلماء الأزاهرة، أبرزهم الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، شيخ الأزهر، الذى أصدر كتاب «نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم».

كما صدر عدد من المؤلفات للرد على كتاب الطاهر بن عاشور، شيخ جامع الزيتونة بتونس، الذى أصدر كتاب «نقد علمى لكتاب الإسلام وأصول الحكم»، وأصدر الشيخ محمد بخيت المطيعي، مفتى الديار المصرية، كتاب «حقيقة الإسلام وأصول الحكم»، وأصدر الفقيه الدستورى عبدالرزاق السنهورى كتابا بعنوان «أصول الحكم فى الإسلام»، فند حجج عبدالرازق ودعا إلى إعادة بناء الخلافة فى صورة منظمة دولية فى حالة تعذر على المسلمين إقامة دولة كبرى موحدة، وأصدر الشيخ مصطفى صبرى آخر شيوخ الإسلام المفتين فى الدولة العثمانية كتابًا بعنوان «الرد على منكرى النعمة من الدين والخلافة والأمة» دافع فيه عن أهمية الخلافة وهاجم أفكار عبدالرازق، وكان يقيم بمصر فى هذا الوقت.

التخلى عن الخلافة

وقد دعا عبدالرازق، المسلمين إلى التخلى عن فكرة الخلافة، ودعا إلى تبنى فكرة مدنية الدولة، واعتبر أن الحكم فى عهد النبى عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين من بعده كان حكمًا مدنيًا، وقد أدى هذا إلى اشتعال معارك سياسية ودينية كبيرة، وقامت هيئة كبار العلماء فى الأزهر بمحاكمة على عبدالرازق وفصلته من العمل كقاضٍ شرعي، ثم سحب منه الأزهر شهادة العالمية (التى تعادل الدكتوراه اليوم).

لكن عبدالرازق لم يقف ساكنًا أمام منتقديه، بل خاض معهم معركة كانت ساحتها صفحات الجرائد دافع فيها عن كتابه وأفكاره، ووقف إلى جانبه بعض الكتّاب فى مقدمتهم: عباس محمود العقاد، ومحمد حسين هيكل، وسلامة موسى، وحسين مؤنس فى كتابه «دستور أمة الإسلام»، وسانده حزب الأحرار الدستوريين، ودافع عنه كتّاب كثر فى مجلتى (المقتطف والهلال) وجريدة (كوكب الشرق) الناطقة بلسان حزب الوفد، وجريدة (السياسة) الناطقة باسم حزب الأحرار الدستوريين.

وقد تأثر برأى عبدالرازق داعية أزهرى آخر، وهو خالد محمد خالد، فألف كتاب «من هنا نبدأ» انتصر فيه لآرائه وانتقد علماء الأزهر الذين عارضوه.

أول فقيه ينادى بالمدنية

ويعتبر عبدالرازق أول فقيه يتبنى هذا الرأى من علماء الأزهر، لكن سبقه فى ذلك فريق من الفقهاء الأتراك، كانوا أصدروا بيانًا فقهيًا تحت عنوان «الخلافة وسلطة الأمة»، يتضمن القول بأن الخلافة مجرد مسألة سياسية صرفة، ولا علاقة لها بالدين والاعتقاد، ودعا إلى إرجاء الكلام فيها مطلقًا، أو قلبها إلى مجرد سلطة روحية، وتذكر بعض المصادر أن أتاتورك اعتمد على هذه الدراسة لتأييد خطوة إعلان إنهاء الخلافة الإسلامية.


إسلاميون حالمون

"فودة": فصل الدين عن السياسة.. وليس المجتمع

كان المفكر فرج فودة يقول إن من يطالب بعودة الخلافة لا يستند إلى النص القرآني، بل إلى أحاديث الآحاد الضعيفة، كما يرى أن الخلافة فى التاريخ كانت انتقاصًا من الإسلام، وليست إضافة له، أى أنها كانت عبئًا عليه، فالخلافة الإسلامية منذ قيام الخلافة الراشدة فالأموية والعباسية مرورًا بالمملوكية، ووصولًا إلى العثمانية بحسب «فودة» لم تكن دولة الإسلام، ذلك بأن هذه الدولة لم تحترم الإسلام الصحيح طوال تلك الفترة سوى فى ١٤ عامًا... هى فترات حكم عمر بن الخطاب عشر سنوات ونصف السنة، ومن ثم عمر بن عبدالعزيز سنتين ونصف السنة، والمهتدى العباسى ٩ أشهر، ووفق منطق التاريخ والأرقام؛ فإن تلك الأعوام تمثّل ١٪ من مجمل ١٤٠٠ سنة من التاريخ الإسلامي، وبذلك يرى «فودة» بأن حجة إقامة دولة الخلافة بذلك واهنة، ذلك بأنك لا تستطيع القياس على ١٪ فقط.

خلاف سياسى

بحسب «فودة»؛ فإن إقامة صحيح الدين من خلال هؤلاء الخلفاء الثلاثة، أدت إلى وفاتهم مقتولين، وأكد أن خلافه لم يكن مع الدين أو العقيدة، بل كان خلافًا سياسيًا مع الإسلام السياسي، وأطروحته استندت بشكل كبير إلى استيعاب الدولة الوطنية الديمقراطية للتيارات السياسية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وإلى المساواة بين الجميع بغض النظر عن الدين والجنس واللون والأفكار.

فصل الدين عن السياسة

لم يكف «فودة» عن المطالبة بفصل الدين عن السياسة، وليس عن المجتمع، وذلك عبر الكثير من مناظراته مع محمد الغزالى ومحمد عمارة وغيرهما، ولطالما فرّق بين إسلام الدين وإسلام الدولة بوصفها كيانًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا بحاجة إلى برنامج تفصيلى يحدد أسلوب الحكم، مشددًا على أن من يؤمن بفكرة الدولة الدينية لا يملك برنامجًا ويكتفى بالشعارات الفضفاضة.

إبعاد الإسلام عن الدم والإرهاب

يؤمن «فودة» بأن أنصار الدولة الدينية لم يقدموا إجابات حول البرامج السياسية التى تتبناها الجماعات الدينية، كما أنهم لا يقدمون قائمة للقواعد والأصول والأحكام والأسس التى تحكم المجتمع.

أما فيما يخص مسائل الحدود والقصاص والشريعة، فقد دعا دومًا إلى إبعاد الإسلام عن الدم والإرهاب والعنف والمطامع، والتوفيق بين الشريعة والدين وأحكام وأعراف العصر والحداثة، أى أنه لا اعتراض على الشريعة من حيث المبدأ، ولكن مع مبدأ الاجتهاد لتغيير ما كان ملائمًا لعصره سابقًا.

حتمية الاجتهاد وإعمال العقل وجواز الاجتهاد، حتى فى ظل وجود النص هى المحددات الرئيسية لأطروحات فرج فودة المتعددة، والدولة المدنية من منظوره، هى دولة فيها نظام حكم مدنى يستند إلى دستور واضح يساوى بين جميع المواطنين وفق مبدأ «المواطنة»، وهى دولة تلتزم بميثاق حقوق الإنسان بمضمونه الحضارى العام، خاصة أن دعاة التيار الدينى وقتما كانوا على البر وخارج إطار السلطة، أسخنوا مصر دمارًا وتمزيقًا ودماء وأشلاء وزرعًا للفتن الطائفية، وسطوًا على المحال العامة.


الدولة «مدنية» فى الإسلام

«الهلالى»: التجارة بالدين قدمت الإسلام على أنه مشروع اقتصادى

قال الدكتور سعد الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن الإسلام لم يحدد أى شكل للدولة، وإنما ترك الأمر لاختيار الناس، مشيرًا إلى أن القرآن والسنة، وهما الوحى الذى يتلقى منهما المسلمون دينهم لم يذكرا مفهوما محددا ومعينا للدولة. وأوضح أن التجارة بالدين هى التى قدمت الإسلام على أنه مشروع اقتصادي، وسياسى واجتماعي، وهو أمر مخالف لصحيح الدين الإسلامي، مؤكدًا أن الإسلام جاء لتربية النفس البشرية على الأصول المتبعة وعلى القيم الأخلاقية.

وأضاف «أستاذ الفقه المقارن»، أن الذى يزعم أن الإسلام حدد شكلا محددا للدولة، يقدمه بشرط أن يذكر لنا ما الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مضيفًا أن المشكلة فى الذين يذكرون أن الدولة لها شكل محدد فى الإسلام اتخذوا التاريخ الإسلامى على أنه هو الدين.

نظم مختلفة

وتابع «الهلالي» قائلًا، عند وفاة رسول الله لم يختر أو يحدد شكلا أو إطارا معينا لخليفة المسلمين من بعده، وإنما ترك الأمر لاختيار المسلمين، وعند وفاة أبو بكر الصديق قام باستخلاف عمر بن الخطاب على المسلمين، وبذلك استحدث نظام اختيار الحاكم فى الإسلام، مضيفًا: وعند موت عمر بن الخطاب عمل كمجلس رئاسى ومجلس شورى واختار ستة يقومون باختيار خليفة للمسلمين، وهو نظام جديد أيضا لم يقم به الرسول أو أبوبكر الصديق.

نقل عاصمة

تابع أنه عند مقتل سيدنا عثمان بن عفان وتولى الحكم على بن أبى طالب، حكم نصف الخلافة فقط، فحكم العراق والمدينة، وتولى معاوية النصف الآخر وهى الشام ومصر، وقام بنقل عاصمة الخلافة من المدينة المنورة إلى الكوفة، مضيفًا: فهل نقل عاصمة الخلافة عمل إنسانى بشرى أم أمر من الدين؟ وأشار إلى أنه عند مقتل سيدنا على بن أبى طالب وتولى الحسن الخلافة، وتنازل عن الخلافة لمعاوية بن سفيان، وسمى هذا العام بـ«عام الجماعة»، فكل ذلك يعتبر اجتهادًا بشريًا، مشيرًا إلى أن كل هذه الأحداث تؤكد أنه لم يكن هناك نظام محدد للحكم، وإنما كل من الخلفاء الراشدين اجتهد فى اختياره لشكل الدولة وطريقة اختيار الحاكم.

تطبيق عملى

فيما قال الدكتور محمد عبدالشافى، العميد السابق لكلية الشريعة والقانون بأسيوط، إن شكل الدولة فى النظام الإسلامى جاء من خلال التطبيق العملى للتاريخ الإسلامي، فسبق التطبيق الفعلى الناحية النظرية، بمعنى أن شكل الدولة لم يكن محددًا فى إطار قواعد ونظام محدد، وإنما كان التطبيق العملى للخلفاء الراشدين ومن بعدهم بعد موت رسول الله هو الشكل الفعلى للدولة، وهو أمر مختلف عن الطريق الوضعى الذى يوجد النظرية ثم التطبيق.

التعايش مع الآخر

وأوضح أن الدولة فى الإسلام تتكون من قيادة وشعب وإقليم ومؤسسات تنبثق عن القيادة، وهجرة النبى صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة، كانت هى أول معرفة للعرب بشكل الدولة، فقام الرسول بعمل وثيقة تاريخية للتعايش مع اليهود، وهو ما يسمى الآن بالتعايش مع الآخر، وكان النبى يباشر القضاء والتشريع من خلال الوحى، وفى الوقت نفسه كان رئيس الدولة التنفيذية.

وأضاف العميد السابق لكلية الشريعة الإسلامية، أنه بعد وفاة النبى والخلفاء الراشدين انتقلت الدولة من الخلافة إلى الملك، مضيفًا أن كل ما حدث فى هذه الفترة يعتبر شكلا من الأشكال للدولة، فالإسلام يضع القواعد العامة دون الدخول فى تفاصيل وجزئيات، فهو دين عالمى يضع المبادئ والقواعد العامة دون الدخول فى أى تفاصيل، وهو ما جعله دينا صالحا لكل زمان ومكان.

سعد الدين العثمانى: لا توجد دولة إسلامية.. ولا نظام سياسى موحد

قبل عام أصدر الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة المغربية، والمنتمى لحزب البناء والتنمية (فرع الإخوان فى المغرب)، دراسة من ثمانين صفحة، اعتبرت وقتها طفرة غير مسبوقة فى الفكر الإخواني، إذ ذهب «العثماني» فى صفحاته الثمانين، والتى جاءت تحت عنوان «الدولة الإسلامية: المفهوم والإمكان» إلى الإقرار بعدم وجود دولة إسلامية، وهو ما صدم كثيرين انتموا لنفس تياره الفكري.

المفارقة أن الدراسة التى أصدرها «العثماني» قبل عام، عاد إليها بعض شباب جماعة الإخوان هذه الفترة فى مصر، مستندين إليها فيما عرف بـ«مراجعات فكرية». ورأى الشباب فى الدراسة تصحيحاً لمفاهيم مختلطة تورطت فيها الجماعة أثناء تربيتها لشبابها.

مفهوم الدولة

استهل «العثماني» دراسته فى الإقرار بوجود مؤثرات عدة أدت إلى غموض نظرة الإسلاميين إلى مفهوم الدولة، وتشويشهم بين متناقضات فاضحة طالت فكر المسلمين. ورأى أن هذه التناقضات جعلت العقل المسلم المعاصر عاجزًا عن الخروج من اختلالات انتهت بنا إلى تفكير «داعشي» متشدد.

وفرق الكاتب بين العبادات، التى هى الأمور التى نص عليها الدين نصًا مثل الصلاة والصيام، والعادات التى يكون فيها طاعة لله، ولكن لم ينص على طريقة تنفيذها إذ ترك الدين تحديد شأنها للمسلمين، وقال إن السياسة والدولة تدخل فى تلك الأخيرة، إذ لم يحدد لها شكلا معينا بنص قرآنى أو حديث. وحذر «العثماني» من إدخال العادات على العبادات ويقول: «وإدخال أمور العادات فى مجال العبادات من أخطر مداخل التشدد والغلو فى الدين، ومن أسباب الجمود والتخلف فى حياة المسلمين».

ويتابع: «وهكذا؛ فإن النصوص الشرعية إذا كانت قد فصلت فى العقائد والعبادات والأخلاق وبعض جوانب الحياة الاجتماعية، فإنها فى الجانب السياسى ركزت أكثر على المبادئ والقيم والمقاصد مثل العدل والشورى، بما يترك المجال للتطور والإبداع البشرى وتراكم التجارب الإنسانية».

وانتهى إلى أن: «الخلاصة الأساس لهذا الأصل، هو أن المبادئ والمقاصد الشرعية فى المجال السياسي، تنبثق عن نظم سياسية متنوعة الأشكال والصيغ، وليس هناك نظام سياسى إسلامى موحد ومحدد. والمسلمون فى ذلك يمكن أن يستفيدوا من الحكمة الإنسانية دون أى حرج». وهو ما يعكس خطأ فكر «داعش» الذى وضع نظاما معينا وفرضه كنظام إسلامى وحيد.

السياسة والدولة والعبادات

تطرق فى موقع آخر إلى خطورة اعتبار السياسة والدولة من العبادات، فقال إنه فى هذه الحالة نكون ملزمين فى كل مرة نتحرك فيها فى السياسة للاحتكام لتأصيلات فى النصوص الإسلامية، أو التأويلات الملحقة بها. ومن هذا المنطلق يقول إن معيار التعامل فى العادات هو «ما هو المفيد وغير الممنوع دينًا»، على العكس كانت العبادات، إذ يكون المعيار فيها: «ما هو المقبول دينا» فقط لأن المرجع فيه هو الوحى وليس الإبداع. «وهكذا فإنه ليس من الضرورى فى المجال السياسى أن نبحث عن سند شرعى من النصوص لأى إجراء جديد، بل الذى عليه أن يبحث عن الدليل الشرعى هو الذى يمنع من الإجراء؛ لأنه الأصل فى المعاملات الإباحة حتى يرد الحظر والمنع من الشرع».

وتناول قضية عدم نص الكتاب والسنة على كيفيات تفصيلية للنظام السياسى ما يحبط فكرة إتيان الدين بدولة من الأساس، واستند هنا على كلام أبو حامد الغزالى، الذى تحدث عن أحكام الفقه التى هدفها «حفظ مصالح الدنيا ليتم بها مصالح الدين»، فيما اعتبر ابن خلدون قضايا السياسة من الأمور المفوضة للاجتهاد البشري.