الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صلاح زكى "4"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
وإذ نستمر فى مطالعة كتاب صلاح زكى «قادة الفكر العربى.. عصر الليبرالية العربية» يطل علينا واحد من أهم شخصيات المجددين العرب، عبدالحميد باديس، واحد من أسرة عريقة فى الجزائر فأبوه كان عضو المجلس الجزائرى الأعلى.. ويمضى عبدالحميد باديس فى معركته مشحونا بعبارة التصقت بذاكرته على الدوام، فقد قال له والده فى بدايات مسيرته العلمية: «عبدالحميد، أنا أكفيك أمر الدنيا، أنفق عليك وأقوم بكل أمورك، ما طلبت شيئا إلا لبيت طلبك كلمح البصر، ها أنا أكفيك أمر الدنيا، فاكفنى أنت أمر الآخرة، فكن أنت الولد الصالح العالم الذى ألقى به وجه الله» (ص١١٦)، وفيما كان ابن باديس يحاول تفهم أمور دينه ويسعى بهذا الفهم نحو التجديد وجد نفسه «متبرما بأساليب المفسرين، ضيق الصدر مما يقولون ويختلفون فيما لا اختلاف فيه من القرآن» ويقول: «كانت فى ذهنى بقية غشاوة واحترام آراء الرجال حتى فى دين الله وكتاب الله» فلجأت يوما إلى الشيخ النخلى فيما أجده فى نفسى من التبرم والقلق فقال لى: «اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة وهذه الأقوال المختلفة وهذه الآراء المضطربة حتى يسقط الساقط ويبقى الصحيح وتستريح»، وهكذا لقن عبدالحميد بن باديس كل المجددين والمجتهدين درسا مهما «اجعل ذهنك مصفاة حتى يسقط الساقط ويبقى الصحيح»، وفى عام ١٩٢٥ أصدر مجلة «المنتقد» متحديا بذلك شعار بعض دعاة الحركة الصوفية «اعتقد ولا تنتقد»، وأغلقت سلطات الاحتلال الفرنسى المجلة تجنبا لأى انتقاد فأصدر فى العام التالى مجلة «الشهاب» ثم أسس فى عام ١٩٣١ «جمعية العلماء المسلمين» متحديا الإدارة الفرنسية، وظل يردد «إذا كان الجهل سائدا والبدعة قائمة والضلال مخيما فعلينا تثقيف الشباب ليكونوا دعاة صالحين يحثون على الخير ويقضون على الخلافات والأباطيل ويفتحون أمام الشعب أبواب الحياة السعيدة» (ص١١٩)، ويمضى عبدالحميد فى معركته المستنيرة، وبدأ حملة لفصل الدين عن الدولة حتى لا يكون عنصر قوة فى يد الاحتلال وكان فى مواقفه متأثرا بالأستاذ الإمام محمد عبده، حتى قال عنه شيوخ عصره: «إنه المتحدث الرسمى لإصلاحات محمد عبده فى الجزائر»، فقد كانت دعوته تقوم على مبادئ الاجتهاد وحرية البحث وتمجيد العقل ونشر الدعوة بالحجة والإقناع، وترك كل دين لأهله يفهمونه ويطبقونه وفق فهمهم، وظل فى نفس الوقت مناضلا ضد الاحتلال فهو يصدر مجلة «المنتقد» تحت شعار «الحق فوق كل أحد، الوطن قبل كل شيء»، كان ذلك فى زمن يعتبر فيه الاحتلال الفرنسى أن كلمة الوطن والوطنية جريمة سياسية، وهنا نتوقف لنلاحظ أن المجددين فى الدول التى احتلتها الخلافة العثمانية كانوا يخوضون معركة التجديد من بوابة الوطن ورفض الاستبداد والتخلف والجمود فى الخلافة العثمانية، وفى الجزائر كان النضال التجديدى ممتزجا بتحرر «الوطن» الجزائرى من الاحتلال الفرنسى.. ويؤكد ابن باديس على تعظيم قيمة الحرية والإعلاء من شأنها، واعتبارها هدفا عزيزا ينبغى التضحية من أجله، فالإسلام يكبر العقل ويمجده ويدعو إلى تطبيق جميع أعمال الحياة على أحكام المنطق، والإسلام يستنكر استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، كما يستنكر الطغيان فى جميع مظاهره وأشكاله، والإسلام دين ديمقراطى فى كل شيء فهو لا يقبل الاستبداد مطلقا، وهو دين إحقاق الحق لكل إنسان عادل ومنصف، وهنا نتوقف لنلاحظ أن كثيرا من المجددين فى مآل الدين قد مزجوا معركتهم ضد التشدد والجهل بأمر الدين واتخاذ الخرافة سبيلا للسيطرة على فكرة العامة من الناس، والتأكيد على الحق فى فهم الدين وفق أحكام يقبلها العقل والمنطق ومتطلبات الحياة، فكانت معركة التجديد الدينى هى بالأساس معركة ليبرالية تمنح الإنسان الحق فى جعل العقل معيارا للحقيقة وتعطيه الحق فى أن يقرر بعقله وضميره ووجدانه موقفه من العقيدة الدينية، ونعود إلى ابن باديس إذ يجدد وهو يناضل ضد الاستعمار الفرنسى فيقول: «لا حق لأحد فى ولاية أمر من أمور الأمة الإسلامية إلا بتولية الأمة له، فالأمة هى صاحبة الحق والسلطة فى الولاية والعزل فلا يتولى أحد أمرها إلا برضاها» وهكذا يكون الأخذ بفكرة تجديد أمر الدين هو بذاته جزءا من تحرير الإنسان الجزائرى من نير الاستعمار وتحرير العقل الجزائرى من الفهم الجامد والمتخلف والمتعصب للدين، يكون تحرير العقل مترادفا مع تحرير الوطن وتحرير المواطن، وبهذه الصياغات الدينية التجديدية يحاول ابن باديس أن يشعل جذوة الحماس الوطنى والعروبى ضد الاحتلال الفرنسى فيقول فى جريدة الشهاب (١٩٣٦): «هذا هو رسول الإنسانية ورجل القومية العربية الذى نهتدى بهديه ونخدم القومية العربية بخدمته، ونوجهها توجيهه، ونحيا لها ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون وجزع المخدوعون واضطرب المضطربون».
ونواصل...