رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

المسلم بين الإيمان الحق .. والتأسلم (23)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
والحقيقة أن الخلاف المحتدم والشرس بين التأسلم وبين القوى الليبرالية والذى استخدمت فيه أسلحة التكفير ينبع من خلاف جوهرى فى مبدأ النظر للدين الاسلامى “,”فالبعض الذى يعتقد أن الإسلام عقيدة سماوية وهو فى ذات الوقت محتوى سياسى يقيم مجتمعا إسلامياً يشكل بذاته كومنولث اسلامى أى وحدة من الشعوب المسلمة ، هذا البعض يرى أن ذلك يؤدى بالضرورة الى أن تكون الأمة الإسلامية تكوين سياسى موحد ومتكامل ومن ثم تمسكوا بفكرة الخلافة وباعتبار المخالفين مخالفين للإسلام ذاته“,” .
[ Von Grunebaum – Modern islam , The search for Cultural identity-P.65 ]
وكان هذا التيار يؤكد فى تشدد “,”إنه لا خلاص للعرب والمسلمين ، ولا فرصة أمام الشرق كى يحترم نفسه ما لم يتخلص من كل معطيات الحضارة الغربية“,”
[ R.Mitchell.The society of Muslim Brothers-oxford-(1969)P.99 ]
وعبر هذه النظرة المتأسلمة أصبح الصراع شديد الحدة وأصبح التكفير حتمياً ، وفى مواجهة هذه الحملة العنيفة بدأ عديد من الليبراليين فى التراجع خاصة ذوى النزعة الاستقراطية التى لا يمكن أن تحتمل صراعاً كهذا ، كذلك شعر ليبراليوا حزب الأحرار الدستوريين [ أحمد لطفى السيد و د.محمد حسين هيكل .. وغيرهما] أن معركة كهذه تؤذى صورة الحزب السياسى فى مواجهة النفوذ الطاغى لحزب الوفد ، وكان هناك أيضاً عدد من المثقفين الذين لم يحتملوا ثقل هذا التحدى فتراجعوا هم أيضاً بحثاً عن موقف وسط ، وربما أصدر محمد حسن الزيات مجلته “,”الرسالة“,” للتبشير بهذا الموقف الوسط مؤكداً فى العدد الأول منها أنها ستكون “,”جامعة بين روح الشرق وحضارة الغرب“,” . وكتب أحمد أمين فى عددها الأول أيضاً معبراً عن الحاجة الى نموذج اجتماعى تربوى متوازن ومتكامل يقدمه رجال الثقافة ليتجاوز الثنائية بين التغريب والسلفية ويجمع بين الثقافة العربية الإسلامية وبين الثقافة الأوربية ويقول “,”فى مصر حلقة مفقودة لا نكاد نشعر بوجودها فى البيئات العلمية مع إنها ركن من أقوى الأركان التى ينبغى أن نبنى نهضتنا عليها ، تلك الحلقة هى أن طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة الدينية الإسلامية العميقة وبين الثقافة الأوربية العلمية ، هؤلاء يعوزنا الكثير منهم ولا يتسنى لنا أن ننهض إلا بهم . فإن أكثر من عندنا قوم تثقفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة ، وهم جاهلون كل الجهل بما يجرى فى العصر الحديث من آراء ونظريات فى العلم والأدب والفلسفة ، وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بحتة ، ويعرفون آخر ما وصلت إليه نظريات العلم فى الطبيعة والكيمياء والرياضيات لكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل ، والفئة الأولى يمثلها خريجوا الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعى ، ويمثل الطائفة الثانية نوابغ المدارس العصرية والثقافات الأوربية“,” [الرسالة – يناير 1933] وقد سبق ذلك أن أصدر الدكتور هيكل ملحقاً لمجلة “,”السياسة“,” مكتسياً تماماً بطابع اسلامى مطالباً “,”بحضارة يمتزج فيها العلم بالإيمان فيرتوى منها العقل والنفس جميعاً ، وتجد فيها الروح الإنسانية غذاءً يجمع لها بين الرخاء والسعادة ، وبين النعمة والطمأنينية“,” [ملحق مجلة السياسة – 1932] . ويواصل د. هيكل توضيح موقفه أو بالدقة تبرير موقفه فى كتابه “,”منزل الوحى“,” فيقول “,”لقد خيل إلىَّ زمنا كما لا يزال يخيل إلى أصحابى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله ، لكننى أصبحت أخالفهم الرأى فى أمر الحياة الروحية ، وأرى أن ما فى الغرب منها غير صالح لأن ننقله فتاريخنا الروحى غير تاريخ الغرب ، وثقافتنا الروحية غير ثقافته . ولا مفر إذن من أن نلتمس فى تاريخنا وفى ثقافتنا وفى أعماق قلوبنا وفى أطوار ماضينا هذه الحياة الروحية ، ولقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتى ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لكننى أدركت بعد لأى أننى أضع البذر فى غير منبته ، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه ، ثم رأيت أن تاريخنا الاسلامى هو وحدة البذر الذى ينبت ويثمر“,” [د. محمد حسين هيكل – منزل الوحى- (1936) صـ26 من المقدمة] . ويعلق د. جابر الانصارى على هذه الكتابة قائلاً “,”أن هيكل بهذه التوفيقية الفكرية يعبر عن تيار محمد عبده محاولات بعثة بعد أن تصدع بسبب الصراع بين التيار النصوصى المحافظ للشيخ رشيد رضا ، وبين التيار العقلانى المجرد لطه حسين وعلى عبد الرازق قبل أن يتغيرا“,”[د. محمد جابر الانصارى – تحولات الفكر والسياسة فى الشرق العربى – صـ67] ثم يورد الانصارى اقتباساً من برنارد لويس يقول “,”انقلبت بهذا الموقف الصورة تماماً ، فإذا الإسلام باعتباره قوة عقيديه اجتماعية سياسية جامعة يقوم ، وإذا الليبرالية العلمانية تخسر ، وحتى الليبرالية المخفية والمطعمة بعناصر تراثية أخذت تزيد من تقبلها للأفكار الإسلامية ، وأصبح واضحاً أن رغبة العرب فى دفع السيطرة الأوربية عنهم أقوى بكثير من رغبتهم فى استيعاب الحضارة الأوربية“,” .
وقد تمدد هذا الموقف البرجماتى والمتراجع ليشمل العقاد الذى تفرغ لكتابة العبقريات وطه حسين وعلى ومصطفى عبد الرازق وإسماعيل مظهر وآخرين من الصفوة المثقفة . ويفسر “,”بادو“,” ذلك قائلاً “,”فى معظم أقطار الشرق الأوسط كان الاتجاه نحو العلمانية والإصلاح الاجتماعى سائداً ، وكان التوجه الدينى كثيراً ما يقرن بالمحافظين والمتحجرين الذين يرفضون التقدم والسير مع الركب ، واليوم نجد أن الدين قد عاد إلى مسرح الأحداث .. لكن نمو الظاهرة الدينية ليس إحياء عقيدياً فكرياً وإنما هو إحياء سياسى اجتماعى ، ليس فيه اجتهاد دينى وفكرى جديد وإنما هى محاولة تستخدم الدين لأهداف سياسية أى إحياء الدين كحزب سياسى“,” [ج- بادو وآخرين – التطور فى الدين – مجموعة دراسات إسلامية لعدد من المستشرقين الأمريكيين – ترجمة نقولا زيادة وآخرين – صـ246] . أما عباس العقاد فيبرر تراجعه شخصياً قائلاً “,”إن اللياذ بالعقيدة لأنها هى التى تعيد ذكرى القديم وتحمى أصحابها من غارات الأعداء وأيضاً من حركة المبشرين وكذلك الفزع من الشيوعية“,” بروز اليوسف - 12 أغسطس 1935] .. تراجع الكثيرون من الصفوة .. ولكن بقى النضال ضد التأسلم ومن أجل الليبرالية مستمراً .