الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

المطران سابا أسبر: الصوم فوز عظيم لمن يعيشه

ارشيف
ارشيف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

يقول المطران سابا اسبر بمناسبه بدء الصوم الميلادي يروي القدّيس بورفيريوس الرائي (+1991)، في معرض رواية أحداث من حياته، خبرته كأب روحيّ مع سرّ الاعتراف. ذهب القدّيس بورفيريوس إلى جبل آثوس هرباً وكان في الرابعة عشر من عمره. عاش هناك مع أخوين بالجسد ناسكين. اضطرّ مرضُه الناسكين إلى إرساله خارج الجبل المقدّس للتداوي والاستشفاء. في قريته، وبعد تماثله للشفاء رسمه مطران الأبرشيّة كاهناً، وأعطاه الإذن بتقبّل اعتراف المؤمنين، وكان لمّا يزل في الثانية والعشرين من عمره، ولا يعرف سوى التوجيه والإرشاد الروحي الخاصّ بالنساك.

يقول عن تلك الخبرة إنّه اعتاد أن يضع كتاب القدّيس نيقوديموس الأثوسي إلى جانبه. يفصّل هذا الكتاب، استناداً إلى ظروف القرون 16و 17، الخطايا واحدة واحدة، ويضع قوانين توبة وتأديب لكل خطيئة. تبدو قوانين الكتاب شديدة القساوة للإنسان المعاصر.

أمانة القدّيس بورفيريوس لإيمانه ولِمَا تعلّمه في المنسك جعلته يفتح الكتاب بعد كلّ اعتراف، ليعطي المعترِف القانون الذي يتطابق وخطيئته: ثلاثمائة مطانيّة كبيرة يوميّاً وصوم لمدّة أسابيع أو شهور وما شابه. لكنّه اكتشف بعد فترة أنّ هذه القوانين تفوق طاقة المؤمنين، وأنّهم لا يتحّملون تأديباً بهذه الشدّة، ممّا يدفعهم إلى اليأس من التخلّص من خطاياهم، واليأس بدوره يعيدهم إلى خطيئتهم ثانية.

اكتشافه هذا جعله يغلق الكتاب ويضعه في المكتبة، ويبدأ بسؤال المعترِف عن عدد المطانيّات التي يستطيع القيام بها، واستعداده للصوم وما شابه من قوانين تأديبيّة. وتالياً يعطيه القانون الذي باستطاعته القيام به.

يعلّمنا مثال القدّيس بورفيريوس أنّ ثمّة تمييز بين التعليم الروحيّ في الكنيسة وبين تطبيق هذا التعليم. ثمّة تدرّج في نمو المؤمن حتّى يبلغ إلى المستوى المنشود. تساعد الكنيسة المؤمنين وترافقهم في رحلتهم الروحيّة، وتدّرجهم شخصيّاً في مراقي الحياة المسيحيّة. يستقي الراعي أو الأب الروحيّ من الخبرة الروحيّة الحيّة، لا من النصوص فقط، كيفيّة رعاية الإنسان روحيّاً، آخذاً بعين الاعتبار مقدرته واستعداده وظروفه.

يرافق الأب المعرِّف المؤمنين في رحلة نموهم الروحي، معطياً إيّاهم ما يناسب نموّهم وتقدمهم. الوصفة الروحيّة العامّة هي الإنجيل، أمّا كيفيّة تطبيق الإنجيل وعيشه فأمر يعود إلى خبرة الأب الروحي من جهة، ومقدرة وظرف ووضعيّة المؤمن من جهة ثانية. هذا توجّه أساسيّ في الإرشاد الروحيّ بحسب المنهج الأرثوذكسي.

ورد في كتاب بستان الرهبان، أنّ شابّاً من عائلة ثريّة طلب الترّهب في أحد الأديرة في صحراء مصر. كان رهبان ذلك الدير ينامون على الأرض، جرياً على عادة الشعب آنذاك. أعطى الرئيسُ الراهبَ الجديد بركة إسناد رأسه إلى مخدّة في أثناء النوم. فشكا بعض الإخوة ممّا اعتبروه تمييزاً، فأجابهم الرئيس أنتم كنتم تنامون على الأرض في بيوتكم، وعندما أتيتم إلى الدير لم تتغيّر طريقة نومكم كثيراً. أمّا ذاك فكان ينام على سرير وفراش من ريش النعام، فمن منكم قدّم في رهبنته تضحية أكبر؟

تعلّمنا هذه الحادثة، وتراثنا الروحي مليء بأمثالها، أهميّة التعاطي مع كلّ شخص بحسب قدرته وظروفه وإمكاناته، بغية نقله إلى مستوى أرفع وأسمى. يقول بولس الرسول. "لمّا كنت طفلاً، كطفل كنت أتكلّم وكطفل كنت أدرك وكطفل كنت أفكّر، ولمّا صرت رجلاً، تركتُ ما هو للطفل"(1كو11/13).

"الحرف يقتل والروح يُحيي"، على ما يعلّمنا الرسول نفسه. لكن تخّطي الحرف وبلوغ الروح يحتاج إلى خبرة روحيّة عميقة، وإلى تواضع عظيم يمكّن الراعي من الانفتاح على خبرة المتقدّمين روحيّاً والاستفادة منها. غالباً ما يخفي العناد والمغالاة هوىً خفيّاً يدعوه الآباء الروحيّون "البرّ الذاتي" أو "المجد الباطل". وكثيراً ما شهدت الكنيسة سقوطاً عظيماً لمن كانوا شديدي القسوة في إرشاد المؤمنين إلى درجة خانقة وزمّيتة.

يعلّمنا التراث الروحي الأرثوذكسي أن نكون قساة على أنفسنا ورؤوفين بالآخرين وراحمين إيّاهم ومرافقين لهم.

أسوق هذا الكلام بسبب اعتبار بعض الآباء الكهنة الامتناع عن الزيت أحد أركان صوم الميلاد الرئيسة. إنّ قواعد صوم الميلاد بحسب الكنيسة الأرثوذكسية هي:

عدم الامتناع عن الطعام والشراب حتّى الظهر. والسماح بتناول السمك والمأكولات البحرية حتّى الثاني عشر من كانون الأوّل، الذي يصادف عيد القدّيس سبيريدون العجائبي. والتوقف عن تناول الأسماك وما شابهها بعد ذلك التاريخ، لأنّ العيد بدأ يقترب، وتالياً فالمؤمنون يكّثفون استعدادهم له بمزيد من النسك.

أمّا الامتناع عن الزيت فهو صوم رهبانيّ مبارَك لمن يريده ببركة أبيه الروحي، ولكنّه ليس إلزاميّاً. يستند البعض في الصوم عن الزيت إلى ما ورد في كتاب السواعي الكبير. وجواب الكنيسة أنّ التأثر بممارسات الرهبان قد عمّ مع نموّ الحركة الرهبانيّة واسترشاد المؤمنين عند الآباء الرهبان وتمثّلهم بممارساتهم. وكتبنا الليتورجيّة صيغت تحت هذا التأثير الرهباني. هذا لم تمنعه الكنيسة، لكنّها لم تجعله ملزِماً للجميع. لذلك تبقى ممارسات نسكيّة كهذه وغيرها إضافيّة ومرهونة باستعداد المؤمن لعيش نسك أكبر، وهذا يتمّ، بحسب تراثنا الروحي، بالحصول على بركة خاصّة من الأب الروحي الذي يجب أن يكون عارفاً بإمكانات من يسترشد عنده وبحالته الروحيّة. الانتباه إلى ما يُسمّى في تراثنا "شيطان الهمّة الزائدة" أكثر من ضروري.

على الأب الروحي مرافقة أولاده الروحيّين مرافقةً تنميهم وتطّورهم روحيّاً، لا مرافقةً تُلزِمهم بممارسات تفوق طاقتهم، وتودي بهم إلى اليأس والإقلاع عن العيش الذي يقودهم إلى خلاص نفوسهم.

الترتيبات الموجودة في طقوسنا الكنسيّة تهدف إلى مساعدة المؤمنين كي يعيشوا الحدث الخلاصي الذي يعيّدون له، وتالياً كي ينموا في القامة الروحيّة والنقاوة والقداسة، لا لتكون عبئاً إضافيّاً عليهم. لنذكر كلمة يسوع: "ليس الإنسان للسبت، بل السبت للإنسان".