الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

سياسة

في الذكرى السابعة لرحيل «جورج طرابيشي»| خاض معركة «استقالة العقل العربي» ببسالة.. وحذر من تأثير الخرافة وإشاعة الوهم

جورج طرابيشي
جورج طرابيشي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

طوال مسيرته الفكرية، اجتهد المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي (١٩٣٩-٢٠١٦) بالبحث في أسرار تراجع العقل العربي عن الإبداع، والاستمرارية الحضارية، واشترك في نقاشات ثرية مع المفكرين العرب لوضع اليد على الأسباب الحقيقية وراء استكانة واستسلام العقل العربي للإجابات الجاهزة، وانخراطه في تصديق الخرافات، وتتبع الكهنة والمشعوذين، هذه النقاشات عرفت بمعركة "استقالة العقل" أو "أفول العقل"، وهي تعني توقفه عن الإبداع والتطور ومسايرة الركب الحضاري الجامح.


طرابيشي، الذي رحل في مارس قبل سبعة أعوام، تأثر ببيئته السورية التي نشأ فيها، اختلط مع شباب عصره في حلم القومية العربية والاشتراكية والأفكار الماركسية الكبرى، ومرَّ بمرحلة فكرية متجددة، استقر فيها على قراءة الواقع العربي وأسباب تراجعه عن بقية الأمم، وتساءل بدوره، أهي أسباب خارجية قضت على العرب أم أسباب داخلية توفرت بيئتها فعملت على ضياعنا، هل هي أسباب تعود لعوامل خارجية من فعل "الآخر" كما يذهب المفكر المغربي محمد عابد الجابري، أم هي أسباب تعود لعوامل داخلية من فعل الذات لا "الغير"؟ كما يرجح طرابيشي ذاته.
ولنقد مشروع "الجابري"، قضى المفكر السوري نحو ربع القرن في التعامل مع أطروحات المفكر المغربي محمد عابد الجابري المتعلقة بإشكاليات العقل العربي والإسلامي، إلا أن "الجابري" الذي عايش فترات الرد على مشروعه وانتقاده فإنه رفض رؤية طرابيشي واعتبرها "غير مسئولة"، وفي لقاء تليفزيوني تحدث الجابري عن النقد الموجه لأفكاره من قبل طرابيشي، فقال، إنه لم يقرأ إلا بعض سطور من مقدمة طرابيشي، حتى وصل لعبارة لا بد أن نُنزل الجابري عن عرشه. فشعر أنه يقرأ كلامًا وصفه بـ"غير المسئول".
ورغم تسطيح الجابري للنقد الموجه له، فإن طرابيشي قدم قراءة ثرية وجادة في التراث العربي والإسلامي وكان من أبرزها تأثير الإيمان بالمعجزات بصورة مطردة ومتوسعة عمقت أزمة التعلق بدور الخرافة وخرق قوانين الطبيعة كمسار جاد في الحياة من حولنا.
في كتاب له بعنوان "المعجزة.. أو سُبات العقل في الإسلام"، شرح طرابيشي باستفاضة واحدة من أهم أسباب استقالة العقل، موضحا كونها "استقالة من الداخل ولم تأت من الخارج، ولا تقبل التعليق على مشجب الغير". وهو ما سنعرضه في السطور التالية.

المعجزة

نبي بلا معجزة
وعن "منطق المعجزة" لفت طرابيشي إلى ضرورة معرفة الصورة القرآنية حول هذا المنطق خاصة، موضحًا أن رسالة النبي محمد اقتضت أن تدور بشأنها محاورة يكون فيها الله من جهة والمشركين من جهة ثانية، هم يطلبون من النبي آية أو معجزة لتصديق رسالته، لكن النبي وسيط مأمور أن يرد بفعل "قل"، مثل ما جاء في سورة يونس "فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين"، وفى آية يطلب النبي نفسه معجزة رغبة منه في تسهيل مهمته في إقناع العرب برسالته، ليأتيه الرد القرآني في سورة الأنعام ٣٥"وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين".
وتقدم الصورة القرآنية عن مشركي مكة ليست صورة رافضين للدعوة أو مقاومين عتاة لها بقدر ما هي صورة طالبين للمعجزة، أو بالأحرى لبرهان المعجزة كيما يؤمنوا.
يستعرض طرابيشي العلل الخمسة التي شرحها القرآن إبان الرد على طلب العرب لنزول المعجزة، حيث يبين علل امتناعه عن إتيان المعجزات المطلوبة، وهي: أولها، التكذيب حيث عادة القوم أن يكذبوا الأنبياء بعد الاستجابة بنزول المعجزة، فما أكثر من سبقوا الرسول من الأنبياء ممن كذبهم قومهم رغم ما أتوه من معجزات، وفي مقدمتهم قوم موسى مع أنه كان من أكثر الأنبياء معجزة. ثانيها، وصف المعجزة بالسحر، فكثيرا ما يتم تفسيرها أنها من أفعال السحرة.
ثالث العلل، أن الله دائما ما يتوعد الأقوام التي تطلب المعجزات بالعقاب الشديد إن هي عادت لتكذيبه. رابعها، عدم النجاعة والفعلية: فمن قال إن الإيمان أو عدمه في أيديهم؟ فليس هناك رابطة علية فلا المعجزة تستتبع الإيمان، ولا عدمها يستتبع عدم الإيمان، وإن يكن من رابطة علية فهي حصرا بين المشيئة الإلهية إيجابا أو سلبا وبين الإيمان أو عدم الإيمان. خامسها، التعليل بالآيات الكونية: فمن يطلب برهان المعجزة فما عليه إلا أن يجيل نظره في الكون ليجده عامرا بالمعجزات التي لا تعد ولا تحصى.

طرابيشي

الثلاثة آلاف معجزة
مقارنة مثيرة يعقدها طرابيشي لصورة المعجزات النبوية بين وضعها في القرآن الكريم وبين كتب السيرة التي ساقت العديد من الروايات المتناقضة، ما بين روايات تقف بجوار ما ذهب إليه القرآن، حيث يرفض النبي الإتيان بالمعجزة ليقول: "ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة".
ورأى طرابيشي أنه من المفارقات أن نفس الكتب التي تسوق تلك الروايات النافية على لسان الرسول لأي توظيف للمعجزات هي عينها التي تفرد بابًا مفصلا لـ"معجزات النبي" قد لا يتعدى عند ابن سيد الناس في "عيون الأثر" ٣ صفحات، وعند واضع السيرة الحلبية إلى ٢٥ صفحة، ويزداد عند  مؤلف "البداية والنهاية" إلى ٢٣٥ صفحة.
واعتبر أن باب المعجزات خضع خضوعًا شبه ميكانيكي لقانون التضخم طردًا مع مرور الزمن، فأقدم السير التي وصلتنا وربما أقربها إلى الحقيقة التاريخية أو أقلها بعدا عنها وهي سيرة ابن هشام التي تعود لمطلع القرن الثالث الهجري لم تذكر للرسول من معجزات سوى ١٠ حصرا.
بعد قرنين بالضبط، أي في النصف الأول من القرن الخامس الهجري كان عدد هذه المعجزات النبوية العشر قد تضاعف أربع مرات ليبلغ نحوا من ٤٠ لدى أبي الحسن الماوردي في "أعلام النبوة"، وفي "دلائل النبوة" للبيهقي يكاد لا يأتي بجديد سوى أنه يتوسع في ما ورد عند الماوردي ومن تقدمه موجزا، فيأتي بروايات متعددة للمعجزة الواحدة مضيفًا إلى تفاصيلها تفاصيل. بينما يتفرد عن غيره بما يعزوه من معجزات لا إلى النبي حصرا، بل إلى بعض صحابته سواء أكانوا من المعروفين أم من المجهولين فكأن الصحبة كافية وحدها لاكتساب القدرة على "خرق العادة".
ويتتبع طرابيشي كتب السيرة ليقف عند القاضي عياض الذي جاء بعد ثلاثة قرون من ابن هشام وتحديدا في النصف الأول من القرن السادس الهجري، حيث كان عدد المعجزات ١٠ عند صاحب السيرة الهاشمية قد تضاعف ١٢ مرة ليبلغ نحوا من ١٢٠ لدى القاضي عياض في "الشفا بتعريف حقوق المصطفى".
وفي القرن الثامن بقى عدد المعجزات ثابتا لدى ابن كثير لم يتغير عما كان عليه لدى القاضي عياض في القرن السادس ولكن مصنف "البداية والنهاية" الذي جمع بين دفتيه أوسع سيرة نبوية معروفة لدينا، أحدث بالمقابل تغييرا منهجيًا جذريًا في كيفية عرض المعجزات فبدلا من الاختصار بالعرض والاكتفاء بذكر معجزة واحدة، عمد إلى فعل العكس فذكر للمعجزة الواحدة شتى رواياتها حتى ولو بلغت عشرًا. موضحًا أن الغائية الكامنة وراء هذا هي إزالة أي درجة للشك قد تحيط بخبر الآحاد ليصل لدرجة اليقين.
ولفت طرابيشي إلى استفادة الحلبي، صاحب السيرة الحلبية، من ابن كثير الذي وصف المعجزات بأنها "لا تسعه مجلدات عديدة" ومن البيهقي الذي قال إن "أعلام نبوته تبلغ ألفا"، ليقول هو "إن معجزات النبي لا تنحصر -وفي كلام بعضهم- أعُطي ٣ آلاف معجزة". ثم يتعرض للخصيبي مؤلف "الهداية الكبرى" الذي عدَّ للنبي معجزات وأشرك فيها الإمام على.
التوسع في المعجزات الشيعية
وقف طرابيشي وقفة طويلة مع المعجزات الشيعية، ففي كتابه "مدينة المعاجز" استفاد البحراني من تراكم الأدبيات الإمامية على مر القرون الممتدة من القرن الثاني إلى القرن الحادي عشر للهجرة، ليضع موسوعة حقيقية في معجزات الأئمة تألفت من ٨ مجلدات، في نحو ٤ آلاف صفحة، وأحصت للأئمة الاثنى عشر ٢٠٦٣ معجزة موزعة على الأئمة. وتحدث طرابيشي في إطار دراسته عن أسباب التوسع في المعجزات، ومنها: التوظيف السياسي للمعجزات السنية بتبرير ماضي الخلافة، والمعجزات الشيعية لإثبات الحق المغصوب. ومنها: نجاح إسلام المعجزات في استمالة الشعوب التي لا تعرف العربية، وتأثر المؤمنين الذين أتوا من بيئات مختلفة وديانات تعرف الغرائب.. وغير ذلك.
ثورة علمية من الداخل
ويطالب طرابيشي بثورة علمية من داخل التراث وليست عليه، ثورة تسعى لإعادة تفسيره، وفي زماننا المعاصر حيث يبدو العالم العربي والإسلامي بشكل أعم مهددا بالارتداد نحو قرون وسطى جديدة، فإن ثورة كوبرنيكية على صعيد العقل، وعلى صعيد عالم العقل الذي هو التراث والتأويل الموروث للتراث.
وفي النهاية؛ وجه طرابيشي سهم الإدانة لمنطق المعجزة، لأن أدبيات المعجزة ومنطقها أسهم في إذاعة الوهم في الثقافة العربية والإسلامية الموروثة بإمكانية سيطرة سحرية على الطبيعة والكون والتحكم بقواهما من دون حاجة إلى معرفة قوانينهما. مطالبًا بـ"ثورة ذاتية ينتفض فيها العقل كما تكوَّن في التراث على نفسه؛ ليعيد تأسيس ذاته في عقل مكوِّن جديد يستطيع معه وبه أن يكتسب رهان الحداثة".