الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

مصريات

خالدون للأبد.. «التحنيط» فلسفة المصريين لتبقى الروح فى الحياة الأخرى

«التحنيط» فلسفة المصريين
«التحنيط» فلسفة المصريين لتبقى الروح فى الحياة الأخرى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


كانت ورشة التحنيط تستقبل مئات الجثث يوميًا.. وكانت تُرّسل كل جثة ومعها بطاقة هويتها

 

6 مراحل للعملية تبدأ بالغُسل وتنتهى بالتزيين.. حفاظًا على أجساد الملوك ليعم النماء

 


الحضارة المصرية القديمة عامرة بالمُعتقدات الراسخة، ومن بين هذه المُعتقدات؛ الإيمان القوى بالبعث والخلود، وأن الحياة مجرد بوابة عبور للحياة الأبدية حيث تلتقى الروح بالجسد مَرّة أخرى، لذا قسّم قدماء المصريين الموت لموتين، الموت الأول هو انفصال الروح عن الجسد، والموت الثانى وهو فساد الجسد من خلال تعفّنه وتحلّله، الأمر الذى يترتب عليه فناء الإنسان، لذلك اهتم المصرى القديم بالحفاظ على جسد أسلافه من التحلل؛ ليضمن لهم الخلود فى الحياة الأخرى، ومن هنا جاءت فكرة «التحنيط» الذى أضحى أمرًا مقدسًا، ولم يكتفِ المصرى القديم بتحنيط البشر بل حنّط العديد من الحيوانات والطيور المقدسة، مثل القطط والتماسيح والجعارين والأسود.
المفكّر المصرى «سلامة موسى» فى كتابه «مصر أصل الحضارة» يُشير إلى أن عملية التحنيط بدأت قبل أن يعرف المصريون بناء القبور، ومن المعتقدات المُقدّسة فى الثقافة المصرية القديمة أنهم كانوا يُحافظون على تخليد جثّة الميت العظيم، خاصة إن كان كاهنًا أو ملكًا؛ لأنهم يعتقدون أنه هو الذى يزيد المحصول، ويحقق الخصوبة للأرض والنماء للزرع، وما دام جسده باقيًا؛ لن يكون هناك خطر مُتمثّل فى نقص الطعام.

 

المصرى القديم استوحى التحنيط من تجفيف الأسماك

المصرى القديم عَرف تجفيف أسماك النيل، وكانت صناعة رائجة لها عُمال مَهرة، الأمر الذى لفت نظر «هيرودوت» المؤرخ الإغريقى الذى عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد. كما عرف المصرى القديم أن نزع الأحشاء شرط أساسى لمنع التعفن سواء فى السمك أو الإنسان، ومن عملية تمّليح الأسماك وتجفيفها عرفوا أنه يمكن أن يبقى اللحم سليمًا ما دام مملحًا ومجففًا، ومن المُرجّح أنهم اهتدوا إلى تمليح الجثة من تمليح السمك، والتمليح أساس عملية التحنيط.
ويوضح عالم الآثار أحمد صالح، فى كتابه «التحنيط»، أن أقْدَم الكلمات التى أُطلقت على «عِلّم الحفاظ على الجسد» الكلمة المصرية القديمة، «وت» أو «وتي»، وهى كلمة ظهرت منذ بدايات الكتابة المصرية القديمة، وتكوّنت من رمزين صوتيين (يقصد حرفى هجاء - الواو والتاء) وأراد المصريون بهذه الكلمة وصف مرحلة واحدة من مراحل الحفاظ على الجسد، وهى عملية التكفين من خلال لف الجسد بلفائف الكتان. 
تأثر المصريون بعادات وتقاليد الأجداد التى ألقت بظلالها على الحاضر، فنجد جُملة من العادات ما زالت ممتدة حتى الآن، ومنها إحياء مرور أربعين يومًا على وفاة الميت، وهذه الأيام الأربعين كانت تقضيها الجثة قديمًا مغمورة فى الماء والملح ثم تخرج بعدها لكى تُعالج وتُحنّط بأنواع أخرى من العقاقير، والراتينجات (تركيبات نباتية عطرية) وتلفف بالأقمشة الكتان قبل أن تُدفن، ورُغم هذا الحفظ لجثّة المُتوفّى لم يثق المصريون القُدماء كل الثقة بأن الروح ستتعرّف على الجثة، لذلك صنعوا صورة تُشبه الأصل وتُرسم بالألوان ووضعوها فوق لفائف المومياء، ولكن هذه الصورة لم تكن كافية بالنسبة لهم؛ فنحتوا تماثيل من الخشب والحجر لتوضع داخل التابوت، ولم يتوقف الأمر عند دفن الميت مع تمثال وصورة لوجهه، لتتعرف الروح على الجسد فى الحياة الأبدية، فكان يوضع مع المتوفى مقدارًا من الذهب اعتقادًا بأن هذا المعدن يُطيل الحياة ويمنع عنه الفساد.

 

 

ثلاثة أقسام لـ«وعبت» ورشة تحنيط الموتى

لم تبح الحضارة المصرية بكامل أسرارها، لذا لا توجد معلومات كافية عن الأماكن التى كانت تُجرى فيها عملية التحنيط، ولا عن المُحنّطين وألقابهم، والأمر مردوده لقلة البرديات والنقوش التى تحدثت عن تفاصيل عملية التحنيط وأماكنها، وذلك لاعتبارات توارث المهن التى يرفض أصحابها إعطاء أسرارها لأحد. 
ويُشير عالم المصريات أحمد صالح فى كتابه «التحنيط»، إلى أن نقوش المقابر وأغطية التوابيت تتحدث عن ثلاثة أماكن ترتبط بحفظ الأجساد، المكان الأول يُطلق عليه لفظة «وعبت» أى المكان الطاهر، ويتفق أغلب علماء المصريات على وجوده بالبر الغربى بالقرب من المقابر، وهو عبارة عن ورشة من الطوب النيئ أو مواد مؤقتة كالبوص والخشب، ولكن إلى الآن لم يتم التعرّف على تفاصيله التخطيطية سوى من خلال الثقوب الثمانية الموجودة على الأرض أمام معبد الوادى الخاص بهرم الملك خفرع بالجيزة. 
كما يؤكد عالم الآثار الألمانى «هولشر» أن هذه الثقوب كانت لتثبيت ثمانية أعمدة خشبية تسند سقف الـ"وعبت»، والتى كانت تتم فيها عملية تحنيط جثمان الملك خفرع، وتُشير بردية «آني» التى ترجع للقرن الثالث عشر ق.م، والموجودة بالمتحف البريطانى، إلى أن الـ"وعبت» كان لها بابان ومقسمة من الداخل إلى ثلاثة أقسام «قسم لغسل الجسد، وقسم لتجفيفه، وقسم لفائف الكتان». 
المكان الثانى، يُسمى «ايبو» وهو مبنى من المواد الخشبية أو سعف النخيل، وكان مرتبطًا بمصدر للمياه والهدف منه أن يكون خيمة للتطهير. والمكان الثالث يُطلق عليه «بر نفر» أى البيت الجميل وهو مكان الدهانات والعطور ولفائف الكتان، ويُعتبر المكانان الأخيران جزءا من المكان الأول أى أن الـ"وعبت»، هى ورشة التحنيط العامة التى تضم بداخلها «الايبو» والـ"بر نفر»، أما المحنطون الذين كانوا يعملون بورشة التحنيط فلم يُشر إليهم «هيرودوت، والمؤرخ اليونانى «ثيودور الصقلي» الذى عاش فى القرن الأول قبل الميلاد، سوى بأن هناك رجلًا يحدد فتحة التحنيط التى يتم إخراج الأحشاء منها، ويُسمى الكاتب، أما الرجل الذى يقوم بفتحها فيسمى «القاطع، أو الجرّاح».

 

توثّيق عملية التحنيط

هناك برديات مرتبطة بالتحنيط فى العصرين اليونانى والرومانى، مثل بردية «رايند رقم ١» بالمتحف البريطانى وبردية «اللوفر رقم ٥١٥٨» وبردية «بولاق رقم ٣» بالمتحف المصرى، والبرديات تُشير إلى الخطوط العريضة لأدوار المحنطين داخل الورشة، حيث تبدأ عملية التحنيط بأحد الكهنة الذى يقرأ من بردية يُمسكها بيده، ويُطلق عليه الكاهن المرتل «غرى حبت»، ويقوم بقراءة إجراءات وخطوات عملية التحنيط، أما صاحب الدور الرئيس فهو المُنفّذ، والذى يرتدى قناع الإله أنوبيس إله التحنيط، ويحمل لقب «امى روات» أى المُشرف على التحنيط أو المُشرف على التكفين، وهو الذى يقوم بتنفيذ العمليات الطبية، ونظرًا لأهمية «التحنيط» خصص قدماء المصريين فئة من الكهنة وظيفتهم المحافظة على الأجساد لإرسالها إلى الغرب فى صورتها الطبيعية.

 

بطاقة هوية لكل جثة 

كانت ورشة التحنيط تستقبل مئات الجثث يوميًا، وكانت تُرّسل كل جثة ومعها بطاقة هويتها، وهناك بردية من القرن الثانى الميلادى معروضة فى المتحف المصرى تحت رقم «٤٩٩» ألقت الضوء على المعلومات التى تمدها أسرة المتوفى لورشة التحنيط، وكان سعر عملية التحنيط يختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية التى ينتمى إليها المُتوفى. ويُشير هيرودوت فى كتابه عن مصر، أن هناك ثلاث طرق للتحنيط، الطريقة الأولى كانت تُسمّى، «النموذج الكامل» ويقوم فيه المُحنّط بتطبيق كل خطوات التحنيط كاملة مع استيراد مواد التحنيط عالية الجودة من لبنان وسوريا واليونان والصومال، وتبدأ الطريقة باستخراج أنسجة المخ من فتحة الأنف، ثم استخراج باقى الأحشاء. 
الطريقة الثانية «نموذج الطبقة الوسطى» ويتم خلاله استخراج الأحشاء بتحليلها عن طريق حقن الجسد بحقنة شرجية مملوءة بزيت الأرز ثم يُجفف الجسد، وبعد ذلك يتم دهنه ولفه بلفائف الكتان، وتختلف هذه الطريقة عن سابقتها فى عدم الاهتمام بأعضاء الجسد الداخلية، بينما الطريقة الثالثة المخصصة للفقراء وعامة الشعب، كانت لا تهتم باستخراج أحشاء المتوفى ولا مخه، وكان التحنيط خلالشها يقتصر على تجفيف الجسد ودهنه بالدهون ولفه باللفائف.  

 

 

مراحل حفظ أجساد عظماء مصر

تبدأ عملية التحنيط فى الورشة بغسل الميت وتطهيره بالماء وملح النطرون، ووضعه فى حوض الغسل الذى يتناسب مع طوله، ثم يقوم المُحنّط بنزع المخ والأحشاء فى الخطوة الثانية، ويبدأ بنزع المخ من خلال العظمة المصفوية الموجودة أعلى كوبرى الأنف، وأحيانًا ينتزعه من فتحة خلف العنق، ثم يصب كمية من سائل الراتينج المغلى خلال فتحتى الأنف، وبعد الانتهاء من معالجة الرأس يقوم بنزع أعضاء الجسد الداخلية، ليتم معالجتها منفصلة بعد تنظيفها من السوائل وبقايا الدماء والأطعمة، وكانت تنزع من فتحة التحنيط فى الجانب الأيسر من البطن، ويتم إخراج الرئتين والقلب والمعدة والأمعاء والكبد والكليتين، وتوضع هذه الأعضاء فى ملح النطرون، ويتم معالجتها بالزيوت ويتم لفها بالكتان وتوضع فى الأوانى الكانوبية، وهى أوان على شكل أبناء حورس الأربعة.
توضع الأحشاء فى الأوانى الكانوبية ما عدا القلب والكليتين فهما يعودان للجسد مرة أخرى بعد معالجتهما، ثم يقوم المحنطون بوضع مواد الحشو، وكانت توضع على مرحلتين، الأولى قبل عملية التجفيف والثانية بعدها، وعثر داخل عدد من المومياوات على لفافات كتان تحتوى على ملح النطرون لامتصاص السوائل، ولفافات بها مواد عطرية لإكساب الجسد رائحة زكية، وكانت اللفافات تُنزع بعد عملية التجفيف. الخطوة الرابعة هى عملية التجفيف، والمقصود بها التخلص من نسبة الماء التى يحتوى عليها الجسد، ويتم فى المرحلة الخامسة معالجة كافة التغيرات الجسدية التى طرأت على جسد المتوفى، ومواد المعالجة كانت عبارة عن مجموعة من الزيوت والدهون، أشارت إليها بردية بولاق رقم ٣ بالمتحف المصرى وبردية اللوفر رقم ٥١٥٨ وكلتاهما أشارت إلى أن المواد المستخدمة هى «الراتينج، وزيت الأرز، ودهون نباتية، والكندر (لبان الدكر) وزيت التربنتينا، وشمع النحل، كما أشارت بردية بولاق رقم ٣ إلى تركيبة دهان معين يُدهن به الرأس، وذكرت ذات البردية نوعًا من الدهون يسمى دهن أولاد حورس الأربعة، وتقصد الدهن الذى تُدهن به الأحشاء التى تحفظ فى الأوانى الكانوبية. 
والمرحلة السادسة والأخيرة هى مرحلة التكفين، حيث تُوضع اللمسات الجمالية على المومياء مثل صبغ الوجه، ووضع الباروكات والصنادل والحُلى، ويقوم الكاهن الذى تُسميه برديتا بولاق واللوفر باسم «سشمو»، بوضع الكتان، ولف الجسد بالأكفان، وذلك فى مدة تصل إلى أسبوعين، ويُصاحب كل لفة يلفها الكاهن قراءة تعويذة من كتاب الموتى.
ويُشير عالم الآثار الدكتور أحمد بدران، إلى أن التحنيط كان من أهم خصائص الحضارة المصرية القديمة لارتباطه بفكرة البعث والخلود التى هى أساس العقيدة المصرية القديمة، بينما أكّد عالم الآثار الدكتور زاهى حواس، أن مُدّة عملية التحنيط سبعين يومًا مُقّسمة إلى جزءين، الأربعون يومًا الأولى خاصة بإزالة الأحشاء من جسم الإنسان مع ترك القلب لأنه مصدر المعلومات والمعرفة، ولا بد أن يكون موجودًا لدى المُتوفى فى العالم الآخر، وباقى السبعين يومًا يتم خلالها وضع المواد الخاصة بالتحنيط داخل الجثة وتغليفها بالكتان ثم توضع فى التابوت وتُدفن داخل المقبرة. مؤكدًا أن علماء الآثار لديهم معلومات كاملة عن التحنيط الآن، وخاصة أن المقبرة رقم ٦٣ والمُكتشفة فى وادى الملوك بالأقصر عثر بداخلها على ٨ توابيت، وضمت هذه التوابيت كل المواد التى استخدمها المصرى القديم فى عملية التحنيط.