الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة لايت

انتصار الإرادة المصرية.. معركة تمويل السد العالي بين عبدالناصر والقوى العظمى

السد العالي
السد العالي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لم يكن مشروع السد العالي، مجرد مشروع على نهر النيل يحافظ على المياه من الهدر أو يساهم في نهضة مصر اقتصاديا، وإنما كان معركة سياسية بكل ما تحمله الكلمة من معنى خاضتها البلاد في مواجهة بعض القوى التي كانت تأبى خروج مصر من فلك الغرب، ونيل استقلالها والتمتع بسيادتها بعد ثورة يوليو 1952.

وتحتفل مصر في يناير من كل عام، بذكرتين يرتبطان ارتباطا وثيقا بهذا المشروع العظيم، الأولى في التاسع من يناير حيث وضع حجر الأساس في عام 1960 والثانية في 15 يناير حيث افتتح السد العالي في عام 1971 في عهد الرئيس الراحل بطل الحرب والسلام محمد أنور السادات، ويتوافق مع تاريخ ميلاد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي خاض وأدار معركة تمويل مشروع السد العالي بكل حنكة وقدرة وجسارة.

وكان مشروع السد العالي، هو أول المشروعات التي بدأ قادة ثورة يوليو دراستها في إطار خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمصريين، لما له من فوائد جمة على رأسها الري والزراعة، وقد تعلق الشعب المصري بهذا المشروع خلال مراحل دراسته التي بدأت من نوفمبر 1952 واستغرقت شهورا حتى أعلن عبد الناصر في أكتوبر 1954 عن المشروع، الذي وصفه بحجر الزاوية في تقدم مصر الاقتصادي وبدأ التوجه للمؤسسات القوى الدولية للحصول على تمويل.

وما بين دراسة المشروع والإعلان عنه رسميا، ارتبط الشعب المصري وتعلقت آماله به ويصف الكاتب والسياسي الأيرلندي أرسكين تشيلدرز أحوال الفلاحين في مصر مع المياه قبل السد العالي في كتابه "الطريق إلى السويس" بالقول "لقد كان في وسع أفقر الفلاحين أن يفهموا ما يمكن لهذا السد الضخم أن يعنيه، فهو يقتل أيامه واقفا إلى جانب المياه التي تصل إلى حقوله من النهر الكبير، وهو يتعلم منذ اللحظة الأولى التي يشرع فيها بمرافقة الكبار من أفراد أسرته إلى الحقول كيف يقيم السدود ويفتح الترع ويسيطر على مياهها ويحول اتجاه الترع النيلية الصغيرة والسواقي وكان يعرف من الغرامات التي تفرض عليه أحيانا إذا ما أغرق في استخدام المياه اللازمة لري حقله، قيمة هذا السخاء الذي يغدقه النهر العظيم".

ويضيف "تشيلدرز": "وهو يعرف أيضا أن ثمة سدودا قائمة على النيل اليوم، وأنه على الرغم من هذه السدود والخزانات فإن كميات هائلة من هذا النهر تنساب دون فائدة عبر بلاده لتصب في البحر، وبات السد العالي منذ عام 1954 أملا شعبيا عاما".
 
بعد الانتهاء من دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع، بدأت التفكير في حلول مالية لتمويله فكان الخيار الأول هو التوجه إلى البنك الدولي، وتقول الكاتبة إلهام محمد السيد عفيفي في كتابها "معركة بناء السد العالي" إن "تكاليف السد العالي قد تصل إلى 460 مليون جنيه، وعندما طلبت مصر من البنك الدولي المساهمة في المشروع جاء رد البنك أن الأموال في مصر لا تدعو للإطمئنان خاصة مع وجود الإنجليز والصراع مع إسرائيل، فإذا سويت هذه الخلافات سوف يفكر البنك في التمويل".

وأضافت "منذ زيارة يوجين بلاك مدير البنك الدولي لمصر في عام 1953 كان لديه تصور كامل لأهمية مصر بالنسبة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وذكر أنه توجد مشكلتان في الشرق الأوسط تحتاجان لحل عاجل، الأولى ترتبط بالقناة والدفاع عن الشرق الأوسط، والثانية مرتبطة بإسرائيل ومشكلة اللاجئين من العرب وكانت وجهة نظره أن مصر مفتاح لحل المشكلة الأولى والثانية".

كانت هذه أولى الإشارات التي تؤكد طغيان السياسة على قرارات البنك الدولي، الذي وضع بذرة مساومة مصر على تمويل السد العالي بالصلح مع إسرائيل، والدوران في فلك السياسة الأمريكية في وقت كانت تتحسس فيه البلاد طريقها إلى الحرية والسيادة والاستقلال.

بعد مفاوضات ومناقشات حول مشروع السد العالي بين مصر من جانب والبنك الدولي والإدارة الأمريكية من جانب آخر، استقر رأي واشنطن على المساعدة في تمويل مشروع السد وفي يناير من عام 1955 سافر رئيس الوزراء البريطاني آنذاك أنتوني إيدن، إلى واشنطن للتباحث حول هذا الملف، مع الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور ووزير خارجيته جان فوستر دالاس واتفقوا على أن سياستهم في الشرق الأوسط تعتمد على موقف الرئيس عبدالناصر بشكل كبير.

وخلال الفترة من فبراير إلى يونيو 1956 تفاوضت مصر مع البنك الدولي، على تمويل مشروع السد ورحب الأخير مبدئيا ولكن ترحيب المؤسسة الدولية، تزامن مع تنامي غضب الولايات المتحدة من الرئيس عبدالناصر، بعد عدة قرارات اتخذت خلال هذه الفترة أبرزها اتجاه مصر لشراء الأسلحة من الكتلة الشرقية، بصفقة السلاح التشيكية في سبتمبر 1955، ناهيك عن رفض السلام مع إسرائيل.

ويروى أستاذ الصحافة العربية محمد حسنين هيكل في كتابه "سنوات الغليان" كيف ساومت واشنطن؛ القاهرة في قضية تمويل السد العالي بعد إبرام عبدالناصر لصفقة الأسلحة من تشيكو سلوفاكيا، حيث أرسل دالاس وزير الخارجية الأمريكي، أحد عناصر المخابرات الأمريكية كيرميت روزفلت إلى مصر للتفاوض مع عبدالناصر للتراجع عن الصفقة ويقايضه في المقابل بتمويل السد العالي، والدخول في حلف وسلام مع إسرائيل.

يقول هيكل "جاءت صفقة الأسلحة مع الاتحاد السوفييتي في سبتمبر صدمة لـ"كيرميت روزفلت"، واستدعاه جون فوستر دالاس وزير الخارجية في حضور شقيقه آلان دالاس مدير وكالة المخابرات المركزية، يسأله تفسيرا وإيضاحا لما جرى ثم يطلب إليه أن يطير على الفور إلى القاهرة ليقنع جمال عبدالناصر، أو يهدده بالتراجع عن الصفقة".

وأضاف "لم ينجح روزفلت في مهمته لكنه لم يتخل بالكامل عن فكرته فقد ظل اعتقاد بأن هناك عملية إنقاذ محتملة للموقف إذا أمكن إتمام صفقة مقايضة السد العالي بعقد صلح بين مصر وإسرائيل، يفتح الطريق لحلف عسكري يضم الشرق الأوسط كله – بما فيه إسرائيل – ضد الاتحاد السوفييتي".

ولما اقتنع المسئولين في واشنطن بفكرة المساومة على تمويل السد العالي، بالصلح بين مصر وإسرائيل، بعث وزير الخزانة الأمريكي روبرت آندرسون إلى القاهرة حاملا هذه الفكرة إلى جمال عبدالناصر، ولكن الرفض كان متوقعا ولم تكن رحلة آندرسون إلا اختبارا لنوايا عبدالناصر اعتبر بعدها العدو الأول للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

تنامت مشاعر العداء والغضب الأمريكي ضد عبدالناصر، وهو الأمر الذي استشعره أحمد حسين سفير مصر في الولايات المتحدة، فبعث رسالة للرئيس عبدالناصر يحثه على الإسراع في إبرام اتفاق شامل مع البنك الدولي، ولكن الرئيس على يقين من كل هذه المؤشرات قبلها بوقت كاف، حيث أخبر الدكتور محمود فوزي وزير الخارجية في أبريل 1956 بأنه "شبه متأكد من تراجع الولايات المتحدة عن وعدها بالمساهمة في تمويل السد العالي".

ودون "فوزي" في مذكراته المعنونة بـ"الأمن القومي العربي بين الإنجاز والفشل" رد عبدالناصر حينما سأله عن سبب هذا الانطباع "يرى عبدالناصر أن أمريكا وبريطانيا والبنك الدولي، يفرضون شروطا اقتصادية على مصر تضعها تحت وصايتهم، فلا يمكن لمصر بموجب هذه الشروط أن تقوم بأية مشاريع تنمية أخرى غير السد العالي".

وبالفعل في 19 يوليو 1956 أبلغ دالاس السفير المصرى بالولايات المتحدة أحمد حسين، بسحب العرض الأمريكي للمساهمة في تمويل السد، وتبعتها بريطانيا والبنك الدولي.    

ويؤكد "رياض" أن "موقف الولايات المتحدة أدى إلى أن تتخذ مصر بقيادة جمال عبدالناصر قرارا بتمويل السد تمويلا ذاتيا، وذلك عن طريق تأميم قناة السويس، واستخدام إيرادها الذي وصل في ذلك الوقت إلى حوالي 35 مليون جنيه استرليني في عملية التمويل".

وبعد أسبوع من سحب واشنطن تمويلها للسد العالي، كان عبد الناصر يعلنها مدوية في 26 يوليو 1956 بتأميم قناة السويس شركة مساهمة مصرية، مؤكدا في خطابه من الإسكندرية بمناسبة مغادرة الملك فاروق لمصر، أن إيراد القناة سيستخدم في بناء السد العالي، ويسجل الزعيم الراحل انتصارا على القوى الغربية.