السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ألوان النور عند الأنثى السندباد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هي أنثى تعرف الترحال، أنه الترحال الروحي، الملئ بالألوان السرمدية، الخالدة،المتنوعة، هكذا بدت الصورة التشكيلية فى المجموعة القصصية الأنثي السندباد للكاتبة سمية سليمان ويبدو أنها في كتابتها الأولى، فجاءت معجونة بالتلقائية وصدق الصوفية وروحانيتها، وأغلب الظن أنها أيضا مكتوبة بروح التجربة الراسخة البريئة التي لا يمكن محوها أو حذفها من حيث رسخت، إنها رحلة روحانية مكتوبة بلغة امرأة عاشقة لحبيب خالد لا يعرف التلاشي.

يبدو من هذة القصص الوجدانية، أن الكاتبة قد جردت الأماكن من جدرانها وتركت المساحات تتبدل أماكنها فيما بينها، تنتقل في أجواء فانتازيا لا تعرف الحدود أو الجدران، تنتقل بين الأزمنة والأمكنة بسهولة بالغة، تعبر عن براءة المخلوق فيما تنتابه المشاعر الجياشه تجاه الآخر الذي ترك أثره فيها كامرأة ويبدو هذا واضحا في كلمات التمهيد لمجموعتها التي صاغتها كوسيلة لتعرف نفسها إلى القاريء الذي تفتح له آفاقا بحدود، هي في النهاية تخص امرأة عاشقة، هي امرأة لم تهبط بعد إلى أرض ثابته ولكنها روحا هائمة بين السماء والأرض، بين العلو والانخفاض، بين المادة والروح، فإذا انتقلت الى جانب من أحدهما، راحت تنتقل بالسرعة نفسها إلى الجانب الآخر المضاد، فلا تستريح وسرعان ما تحن إلى وضعها الأول وهكذا لا تعرف الكلمات التي تكتب بها أي استقرار ولكنها تجيد التعبير بهذة الكلمات عن قلق صادق قد تعرفه بعض النساء الا أنهن جميعا، قمنا بتوكيل سمية سليمان كي تكتبها نيابة عن نساء العصر والتاريخ

وحين أصل إلى غرفتي

أعلم أني ما زلت في رحلتي

مازلت في غربتي

ما زلت في أحلامي لعودتي

ما زلت اتمني ان أعود يوما إلى بيتي

(من بيتي) مقدمة المجموعة القصصية الانثي السندباد

لسنا أمام حكي تقليدي حول واقع عاشته كاتبه بقدر ما نحن نطالع نصا يعبر عن ما يسكن الفؤاد والعقل والتخيل لهذة المرأة التي تتحرك كأن الألوان حولها وتأتي بكل ما هو منشود بدأ من الحشرات المضيئة التي تدغدغ القدمين الى الرجل الوسيم، ملون العينين الذي اعتبرته نموذجها المنشود، فعانقها بكل رضا منها، وعدها ان الكون ووجودهما معا، سيكون طوبيا، وهكذا تتصرف المرأة، حيث اليوتوبيا تتحقق في عدة أشياء: الغابة بلا حدود، كثرة الشجر والألوان والمياه المناسبة، والروح الذكر الذي يخرج من كل هذا، يجسد لها أحلامها، إنها أحلام امرأة تختلف تماما عن شهرزاد، فهي تتمدد في الغابة ويأتيها الرجل، رمز الروح الأبدية كى ينقلها إلى حيث تتمنى ويبدو هذا واضحا في أغلب قصص المجموعة ومنها قصة (سرير في الغابة)، و(البحر الأوسع).

تبدو الكاتبة وكأنها جاءت من عالم الفن التشكيلي، خاصة السريالية مع اختلاف واضح أن كل لوحة فيها تخلت عن الإطارات الأربعة للوحة وتركت كل شيء ينساب على جدران واسعة من مياه النهر والبحيرة إلى شمس غير ملموسة وقفص سحري إذا امتدت يديك بداخله اختفيتا، إنه عالم الفانتازيا السحرية، كما اختارت الكاتبة أن تعبر عنه، باعتبار أنها عاشته ويبدو ذلك واضحا في أقصوصة (الأجنحة) التي تتحول فيها يدين المرأة إلى أجنحة فتحلق في الفضاء، تاركة عصفورها، كأنها تدخل عالم خاصا بها، طالما حلمت به في الخيال، دون أن ندري هل نحن الآن في الواقع أم مازلنا في أجواء مجردة من الفانتازيا الملونة.

تتميز كتابات المؤلفة بأن مفرداتها الغالبه هي مجموعة من الافعال المتحركة بسرعه وراء بعضها البعض كأنها تدفع نفسها إلى الحركة دون هوادة وتدفع الراوية بهذا الرجل الذي استيقظ في الخامسة صباحا، ودفع عنه كل الكسل لينهض من سريره كي يخرج إلى المرأة التي تنتظره في البهو الكبير وتطلب منه مراقصاتها،.يتراقصان حتى تتحرك الساعه وعقاربها قبل أن تتلاشى، ننظر مثلا إلى الأفعال المتحركة المتدفقة التى تعبر عن حالة هذا العاشق في لحظة تخيل وجداني وحب يعيشها دوما باعتبار انه رجل مطلوب من النساء وهذة واحدة جديدة تطلب المراقصة والاقتراب، من هذة الأفعال: زالت - تحول- تطير - تركت - تستقبل - انظر - تدق -اندفعت - أسرعت - خرجت مسرعا- تقدمت الأميرة،...... الخ

انها أفعال تدور في وقت قصير وهو مزيج بين التخيل والواقع والفانتازيا الأقرب الى أجواء الف ليلة وليلة، حيث يجد الرجل امرأة فاتنه ومعها الوصيفات فيراقصها على أنغام الموسيقي ويظل الاثنين عالقان بأرض البهو الكبير. (قصة ساعة الحائط).

من جديد تطارد أفعال الحركة نفسها في اقصوصة (مانيكان رجالى) التى تدور على لسان فتاة - امرأة سرعان ما تحرك بها الزمن وأفعاله المتدفقة من سن السابعة عشر إلى ما فوق الثلاثين، هي في كلتا المرتين كائن حسي مشدود لمانيكان يعبر عن النموذج

المنشود لنساء كثيرات خاصة من يمتلكن نهود نافرة مثل الراوية، فلا يستحق مثل هذة النهود سوى مثل هذا الرجل، يوقظ أحاسيس المرأة في كافة اعمارها حسيا، متخذا لنفسه صورة بيجماليون الذي تدب في تمثاله الحياة ليتخذ منه حبيبة أو معشوقة الا ان الراوية بكل حسيتها تتخذ من التمثال عشيقا منشودا خصبا، لا تتغير صورته من المراهقه إلى النضج، المرأة هنا تختلف كثيرا عن باقية النساء أو الفتيات في القصص الاخرى التي تنضح منها صوفية الكاتبة، ولكنه مع وجود تشابهات متكررة، ففي العلاقات الصوفية لا يتوقف الرجل عن الظهور ولا يتردد في التقبيل والعناق حتى وان لم يكن حسيا، لكن المانيكان البلاستيكي هنا تحول إلى كائن آدمي ملئ بالحرارة التى تتناسب مع متطلبات امرأة فوق الثلاثين، يبدو أن الزمن متحرك ثابت، لكن المشاعر تجاه التمثال، الذي صار حيا، ظلت ثابته في كيان تلك المرأة.

وفي حنايا هذة القصص تتجدد العلاقة بين المفردات اللغوية للكاتبة وبين الألوان التى تعكس مدى عشقها للفن التشكيلي ولكن يبدو الأمر هنا محددا للغاية في بداية قصة (تحت المطر) وهي تصف الطاولات وأيضا السطور الأخيرة وهي تصف لون الشعر من خلال إعجاب الرجل العجوز به، حيث تبدو الألوان هي أول ما يلفت نظر الكاتبه إلى ابطالها وعوالمها مثلما حدث في هذة الاقصوصة (تحت المطر) المستوحاه عن عمل همنجواي.

وقد ظلت هذة العلاقة متلازمة مع الكاتبة من عمل إلى آخر حيث تستهل اقصوصة (الفراولة عندما يأتي الربيع) بالحديث باعجاب شديد عن جمال لونها الأحمر وهي تقول:

كانت الفراولة ولم تزل

تنبض بأحلى ألوان الأزل

عند الربيع، بعد زوال الصقيع

تضحك في الحقول

وهي تنهي على العقول

وتقول

قم واقطف حبات القلوب

قلبي أحمر

طعمه أخضر

ينبض اكثر

نبضا حاميا

نقشه دامي

اانت الجاني؟ وهنا تتجدد علاقة القاصة بالألوان ونبض الحياة ولا نسعي إلى تكرار العلاقة بين اللون الأحمر وفتاة تكتب ولكننا هنا سنري رؤية معاكسة تماما إلى العلاقة بين الفتاة والمانيكان الأصم، فحبات الفراولة تحل في الإعجاب مكان التمثال حيث يتكرر وجودها مع الزمن، ولكن للأسف، فإن حبات الفراولة مع زمن التقنيات الجينية قد أفسد المذاق ولكن هذا لم يحدث مع التمثال الحي، فهو قادر على العطاء، أما ثمرات الفراولة فلم تعد قادرة على استثارة حاسة التذوق لدى الفتاة التي اعتادت على أن تكون الثمرة الحمراء، طبيعية للغاية، فصارت أقرب إلى الزهور الاصطناعية.

لم تقع الكاتبة في أسر التكرار المصيري بالنسبة لبطالاتها، لكنها في قصة (حلم في ليلة صيف) تبدو كأنها المرأة التى نعيش داخل حلمها، ففي هذة الليلة تتكرر الصورة وكانها حدثت أيضا بالأمس ومئات الليالي الأسبق، فالفتاة ميرفت، لا تزال تستيقظ يوميا على وهم انها ستستعيد حبيبها الغائب الذي ابتعد منذ عامين، هي تراه عند سماع الهاتف وأيضا في مخيلتها تستعيده، في غرفتها المظلمة ولا يتركها حتى يأتي ضوء النهار لتكتشف مجددا انها في وهم، ولم تلتقيه منذ عامين، فقد سافر هذا العاشق.

بالطبع ليس لدينا اي تفسير لبقاء ميرفت على هيامها دون أن تحاول أن تجدد حياتها او ان تتفهم ان الرجل صار خيالا غير قابل للعودة، إنه مرض الوهم، الذي يصيب العشاق فيدفعون الثمن، لا شك أن هناك تماسا بين هذه العاشقة من طرف واحد وعاشقات الخيال والوهم في قصص أخري داخل المجموعة.

تتسم كتابات مؤلفي القصص القصيرة أنهم يؤلفون أعمالهم بين فترات زمنية متباعدة، ويبدو هذا واضحا في أقصوصة (قطة الزمالك) التي يختلف فيها المسار وكأنما الكاتبة تنفرد بهذا الموضوع ليبدو غير متوالف مع القصص

الأخرى، فهنا تختفي الألوان المناسبة داخل بعضها والجدران المليئة باللوحات لنجد أنفسنا أمام امرأتين وقطة، حيث تحكي الكاتبة عن صديقتها التي تربي القطة ولا تستطيع الفراق عنها وهناك صداقة ما بين المرأتين تفصلها بوشكى القطة، فصاحبة القطة تضطر إلى السفر بالسفينة وتتزوج من أجنبي وتغيب فترة طويلة وتنسى بوشكى لوجود ابنها المسمي بالبحار الصغير، وتنفصل عن زوجها، ثم تهتم بالحالة المرضية التي انتابت القطة، المدهش هنا هو الراوية التي تبدأ بالتعاطف مع القطة وتبادلها الحب، لكن بوشكى تموت وهنا تتغير أبعاد العلاقات وكأنما القطة قد فتحت في قلب الراوية نوعا من الحب، في الوقت الذي لم تمدنا فيه عن مشاعرها الخاصة تجاه رجلا تحبه، وعليه تبدو هذة القصة نبتا مختلفا عن ما قرأناه في باقي المجموعة،

ونقول هذا الرأي لأن الكاتبة ما لبثت أن عادت إلى عالمها المألوف لديها باتساعاته وألوانه في أقصوصة (سماء بلا ملامح) حيث الكاتبة تعيش لحظة قصيرة جدا مليئة بالمرونة عبر الزمن والفانتازيا ودون ان يكون هناك مكان محدد، القصة اشبه بلوحة لفنان سيريالى وليكن خوان ميرو حيث تتجاور الأشياء وتتقاطع فقط في إطار اللا زمن واللا مكان: الأشياء بالوانها، السماء باتساعها، رموز في الحياة قد لا تتلاقى إلا في هذة اللوحة، فالسماء فارغة من الأشكال والأحلام، ريشة في اليد، وردة حمراء، قرنفلة قرمزية، خصر راقص، رسامة أخرى تدغمس كل الألوان حولها بريشتها، إنها قصة مليئة

بالأفعال التى يمارسها الفنان التشكيلي المؤمن بهذة التكوينات وهو يعرف تماما ان اللوحة سوف تدهش المتفرج مثلما تدهشنا كتابات سمية سليمان.

لا تنسى الكاتبة عالمها الخاص من أقصوصة إلى اخري، ويبدو هذا واضحا في (متوازيات ليس لها أن تتقاطع) التي تتشعب منها الحواديت رغم قلة الشخصيات والحب المستحيل، المستحيل هنا تصنعه العاشقة التي تركت حبيبها يهاجر ويتزوج تاركا في داخلها مكامن الفنانة التي عليها ان ترسم كي تعالج معاناتها وهنا تبدو الكاتبة وقد توحدت مع البطلة كمعالجة ومريضة وكانها تستحضر تجربتها الشخصية في معالجة احدى حالاتها وقد تحولت إلى معالج،(مرادفة) وفجاءة تفهمت ان الكاتبة في هذة الاقصوصة هي بمثابة قارئة طالع لحياتها الخاصة التي عرفتها فيما بعد الكتابة، بما يعني انها تستشرف المستقبل بوضوح وكانها قارئة فنجانها، فقد تحولت في الواقع إلى صورة نسائية من الدكتور مجدي وهو يقوم بتفسير حالتها النفسية والعاطفية في مرسمه بعد أن قامت برسم لوحة تنعكس على صفحاتها كل ما بها من معاناه.

بالفعل لا يمكن أن نفصل الكاتبة في بعض قصصها عن الوظيفة التى امتهنتها فيما بعد حيث العلاج النفسي الروحي لكل ما حولها ولذا فإن القارئ يحتاج ان

يفهم عالم الكاتبة وهو يقرأ اقصوصة (معجزة ما) التي تستخدم فيها الكاتبة الكثير من مفردات مهنتها:

آه كم انا غريق - ثلاثة أسئلة حيرى تتكرر في رأسها كل يوم عندما تحاول فتح جفنيها وهي تستيقظ من دنياها - في المحطة لا تركب أي قطار - ليس لديها أي دليل على أنها هنا أو هناك - نرجس لا تحيا حياتها - كل ما عاشته كان سرابا- خمس وعشرون عاما تلبس فيها دورا غير دورها الحقيقي - والعديد من هذة الأفعال والمصطلحات التي تستخدمها المعالجة الروحانية في حياتها وهي أيضا ادواتها اللغوية حين تكتب كي تتفرد التجربة والإبداع وتجعلها بلا مثيل في تجربة القاصة الشرقية، ففي هذة الاقصوصة (معجزة ما) وضعت الكاتبة كل عصير حياتها العاطفية والوجدانية وقد امتلأت صفحات الاقصوصة بالتساؤلات التى ليست لها إجابات محددة وذلك لكثرتها وتضعنا نحن كقراء فيما يسمى أزمة التجربة الانسانية التي تتحول إلى عمل أدبي حيث أن الكاتبة تعيد غزل مفردات ما عاشته مع حبيبها في تجربتهما الرومانسية في أكثر من اقصوصة، بنفس اللغة والتفاصيل وان اختلفت أسماء الأبطال.