الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المسألة الأخلاقية.. من الأخلاق إلى الأخلاقيات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يميل زمننا إلى الاحتكام إلى الأخلاقيات بدلا من الرجوع إلى الأخلاق، مفضلا الاحتماء بالظلال المتحركة القابلة للمعالجة والتراجع -وإعادة إلقاء النظر الفاحص طورا بعد طور- على ما يناسب الفترة والمزاج والتاريخ والسياسة والجماعات الحاكمة، ومختلف المتغيرات التى تتحرك خريطة الأخلاقيات من أجل التماشى معها.
من الغريب فعلا أنك تتحدث عن الأمر بأنه مناف للأخلاق فيأتيك التعليق عن الأخلاقيات التى هى أخلاق مرحلة زمنية وبشر محدودين فى المصلحة والمزاج والميل. معارضة ظاهرة يوافق عليها أبناء زمن ما قد يؤدى بك فى الدول المتطورة إلى السجن. مثلما هى حال المتطرق لمسائل مثل التشكيك فى المحرقة، ودعاة كتابة التاريخ الصهيونى المليء بالخرق والمبالغة، أو الإدلاء فى مسألة المثلية الجنسية من وجهة نظر دينية مثلا... كل ذلك مسائل بلغ زمننا نقطة استصدار قوانين فيها، قوانين مصدرها الأخلاقيات والجدل المجتمعي، بما فيه من وسائل الضغط على الرأى العام بواسطة الصحافة، التى هى أداة مشكوك فى أمرها، فالإعلام بيد أقليات تملى ما تريده فيما يوافق هواها.
تنويعات
الأخلاقيات والقوانين يسيران فلسفيا صوب التعالى على الإنسان. محو الإنسان من قبل الإنسان بحجج إنسانية.
سيقول قارئ هذه الحروف بأنه كلام مجنون أو فيلسوف. وهنا نقف على عتبة مهمة: لجنون والفلسفة. هذان البعدان الغائبان فى حياتنا إلى درجة كبيرة. والحاضران فى حيوات الغير أكثر مما ينبغي.
هل تكون الحرب المطلقة على فكرة «المطلق» حربا ظافرة بالضرورة؟ لا أعتقد ذلك شخصيا. والأخلاق المتعالية التى هى طورا سليلة العقائد الدينية (فى عصر قليل الاحتفال بالتعالى الديني)، وطورا سليلة الخلاصات البشرية من تجارب وتفكيرات ومناوشات دامية أحيانا، هل يتم تجاوز كل ذلك بحجة أن إنسان اليوم أكثر فطنة من الإنسان فى أى زمن آخر؟
أسئلة تطرح بشدة وترجو التأمل لا الرد.
إن الأخلاقيات مجموعة من التدابير والتوصيات الأدبية والأفكار الخلفية التى تنتج عنها مدونة للسلوك يتبعها الناس كل وأفقه المهنى أو دائرة اشتغاله. لتتحول الأخلاقيات إلى مرجعيات فى الحكم يستدل بها الجميع فى حياتهم؛ لأنها تضمن لهم الحال الأفضل للسلوك والحكم والامتناع فى حالات ووضعيات معطاة. 
الأخلاقيات مسطرة اختيارية طورا واضطرارية أطوارا نقيس بها ما يجب وما لا يجب، تتراوح بين كياسة التصرف وحسن التدبير والتدبر وقوة القانون التى تصل إلى التجريم والتشريع وإدراج الضبط والانضباط والعقاب أيضا. من هذا المنطلق الأخير يصبح الهامش الذى يملكه الناس فى تحديد هذه الأخلاقيات هامشا خطيرا إلى حد ما بما أنه ينتج أولا سلطة معنوية لا تلبث أن تصبح سلطة مهيمنة قمعية تملك القدرة على الضبط والردع.
جميل أن نتأمل طريقة المفكرين الكبار فى التعامل مع وضعيات مبالغ فيها لهذه الأخلاقيات الائتلافية التى يرفضها بعض الكبار فيحولون سلوكهم المعارض إلى وثيقة مضادة تبحث عن إمكانيات تاريخية (وليست آنية) لتصحيح المسار الأخلاقى للزمن الذى جاءوا فيه، زمن لا يترك أمامك إلا الموقف لتقول من خلاله كلمتك. 
فى قلب الحرب العالمية الأولى نشر برتراند راسل مقالا رافضا للتجنيد ولخوض الحروب ولحمل السلاح أصلا، فى مرحلة كانت بلاده متورطة فيها فى الحرب قلبا وقالبا، أدخلوه السجن فى اليوم الموالى لمخالفته القانون طبعا، وكان أكبر شخصيات زمنه آنذاك. عندما سُئل لاحقا عن سر إصراره على نشر مقال يعلم يقينا أنه سيدخله السجن، قال: أنا أصر على أن يقول الناس فى الأزمنة اللاحقة بأنه وسط الجنون الجماعى لذلك المن فى تلك الزاوية من العالم كان هنالك رجل عاقل.
شبيه بهذا الموقف وأكثر بلاغة ربما ما فعله الفيلسوف الفرنسى رجاء جارودى، حينما نشر كتابه «الأساطير المشكلة لدولة إسرائيل» وكان نص قانون «غيسو» يمنع التشكيك فى المحرقة والنبش فى خباياها. اقتيد جارودى وهو أكبر فلاسفة بلاده إلى المحاكم، ثم حكم عليه بغرامة وسجن تأديبي. تعليقا على سؤال شبيه بسؤال الصحافة لراسل أجاب: أريد لسجنى أن يكون وثيقة للأجيال اللاحقة لكى تتأمل الخطأ الذى صادقت عليه فترتى التاريخية.
وهكذا تقف الأخلاق ضد الأخلاقيات حينما يصاب الزمن بالجنون لسبب «إنساني» أو لآخر...
من وجهة نظر فلسفية، نرى أن تاريخ الفلسفة قد سار مسارا جوهريا، باحثا وسط العالم وداخل العقل عما هو جوهري، عن الأساسي، عما يحكم الأعراض ويقاوم سريانها القوى المستمر، أما منذ نصف القرن تقريبا؛ فإن الكلام ألم فى مباحث الفلسفة ونقاشاتهم هى العرضية؛ العرضية تجعلنا نضحى بطريقة مغرية بكل يقينياتنا، فيصبح التاريخ صياغة فى حين كثير من الصياغات هى «أقدار» تصنع سعادة أو تعاسة ولا تصنع فصلا فى كتاب أو ترسم نقاشا على منبر كثير الضوء، بسرعة تتهرب الفلسفة من القضايا الشائكة بوضعها فى منتصف المسافة بين نقيضى ثنائية إقصائية لا تفتح باب الإمكانيات التى تعج بها التجربة الإنسانية.
خلاصة القول
يتساءل المتفلسف حديث العهد بالفلسفة: فوق أى أرض يمكننا أن نقف من أجل تأمل المشهد ومحاولة الفهم، فيجيبه الفيلسوف: عليك أن تتكلم وتمشي، لأنك إن ظللت واقفا أو رغبت فى الوقوف والتأمل فإن قطار الفلسفة سيفوتك بيسر كبير...
هل الشك فى اليقين الواحد؟
هل قدر الاتجاهات المتقابلة هو أن يكتفى كل اتجاه بما لديه بحجة أن لكل اتجاه يقينياته العرضية وعرضيته التى تزن زنة اليقين؟
عصرنا قلق من الالتزام بأى شيء. يقول بلا مبالاة: عندما نشك فى كل شيء تبقى لنا منظومتنا هذه هى اليقين الوحيد... لا نثق إلا فى قدرتنا على الشك والرفض...