الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

محمود درويش.. 78 شمعة

محمود درويش
محمود درويش
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لو ظل محمود درويش بيننا لكان الآن يطفئ شمعته الثامنة والسبعين، ليحتفل - ونحن معه- بذكرى قدوم من قضى ردحًا في نسج أبيات القضية التي عاش لأجلها منذ تفتحت عيناه، ربما كان ليُفرج عن أبيات أخرى عن قومه الذين لا يزالون في التيه الذي صنعه الاحتلال، أو يُلقي كلمات ناعمة في مديح من تغزّل بها يومًا، أو يستعيد بحديث عابر ذكرى صارت بوجوده تاريخًا.
في قرية البروة الفلسطينية، والتي تقع في الجليل شرق ساحل عكا، انطلقت صرخات الرضيع محمود درويش، في الثالث عشر من مارس عام 1941، ليتنفس هواء بلاده القابعة تحت الانتداب البريطاني بسبب جحيم الحرب العالمية المُندلعة في أوروبا ويمتد لفح لهيبها إلى الشرق الأوسط، والتي ما إن انتهت حتى شاء حظه أن يرتطم بقضيته منذ بدايتها، فلم يكد يتم السادسة من عمره، حتى استيقظ ليلة حالكة السواد على أصوات انفجارات بعيدة تقترب، وهرج في المنزل، وهروب مفاجئ من البيت الذي اقتربت منه العصابات الصهيونية، مع أسرته لأكثر من ست وثلاثين ساعة، قضت الأسرة بعضها مُختبئة في المزارع من عصابات الهاجاناة، الذين انتشروا في القرية كالجراد، وما انفكوا يقتلون ويحرقون ويدمرون كل ما يجدونه أمامهم تحت دوي القنابل، ليجد محمود الصغير نفسه أخيرًا مع آلاف من اللاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، الذين تعرضوا للاقتلاع من أرضهم، وتدمير مدنهم وقراهم.
" كنت في السادسة من عمري، لكن ذاكرتي قوية، وعيناي ما زالتا تسترجعان تلك المشاهد.. كنا ننتظر انتهاء الحرب لنعود إلى قرانا، لكن جدي وأبي عرفا أن المسألة انتهت، فعدنا متسللين مع دليل فلسطيني يعرف الطرق السرية إلى شمال الجليل.. وقد أقيمت على أراضيها موشاف أحيهود، وكيبوتس يسعور.. وكانت صفتنا في القانون الإسرائيلي "الحاضرون- الغائبون"، أي أننا حاضرون جسديًا ولكن بلا أوراق.. صودرت أراضينا وعشنا لاجئين".
عاش الطفل محمود في حيفا بعد انتقال العائلة إلى قرية "الجديدة"، واشتُهر داخل المجتمع العربي في الأرض المحتلة بوصفه شاعر المقاومة، وكان تأثيره قويًا لدرجة أنه كان قادرًا بقصيدته على إرباك حمَلة السلاح من جيش الاحتلال، وكانت الشرطة الإسرائيلية تحُاصر أي قرية تُقيم له أمسية شعرية؛ وظل في حيفا عشر سنوات أنهى فيها دراسته الثانوية، وانتسب إلى الحزب الشيوعي، وعمل في صحافة الحزب مثل "الاتحاد"، و"الجديد" -التي أصبح فيما بعد رئيس تحريرها- وظل ممنوعًا من مغادرة حيفا مدة عشر سنوات فيما يُشبه الإقامة الجبرية، حتى حصل على هوية حمراء في البداية، ثم زرقاء لاحقًا، فكانت أشبه ببطاقة إقامة، ولكن سُرعان ما تم اتهامه بالقيام بنشاط معاد لدولة إسرائيل، فطورد من قِبل أجهزة الأمن الإسرائيلية بشكل متواصل، وتم اعتقاله خمس مرات، وبعد سلسلة من الحصار، اضطر الحاكم العسكري إلى تحديد إقامته في الحي الذي يعيش فيه، فصار محظورًا عليه مغادرة الحي منذ غروب الشمس إلى شروقها في اليوم التالي.
يقول درويش: "من العام 1967 إلى العام 1970 كنت ممنوعًا من مغادرة منزلي، وكان من حق الشرطة أن تأتي ليلًا لتتحقق من وجودي، وكنت أعتقل في كل سنة وأدخل السجن من دون محاكمة.. ثم اضطررت إلى الخروج؛ حاولت السفر قبلًا إلى باريس لكن السلطات الفرنسية رفضت دخولي إلى أرضها في العام 1968، كانت لدى وثيقة إسرائيلية لكنّ الجنسية غير محددة فيها، الأمن الفرنسي لم يكن مطلوبًا منه أن يفهم تعقيدات القضية الفلسطينية، كيف أحمل وثيقة إسرائيلية وجنسيتي غير محددة فيها وأقول له بإصرار إنني فلسطيني، أبقوني ساعات في المطار ثم سفّروني إلى الوطن المحتل".
غادر درويش الأراضي المُحتلة إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة وأصبح طالبًا في معهد العلوم الاجتماعية بموسكو، وكان اصطدامه بمشكلات الروس يوميًا جعل فكرة أن موسكو هي فردوس الفقراء تتبخر من ذهنه، ففقد الفكرة المثالية عن الشيوعية ولكنه لم يفقد ثقته بالماركسية. بعد ذلك انتقل إلى القاهرة، وهو الأمر الذي اعتبره من أهم الأحداث في حياته الشخصية، وسرعان ما عيّنه الكاتب محمد حسنين هيكل -الذي كان يرأس تحرير الأهرام آنذاك- في نادي كتّاب الأهرام، حيث التقى نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وبنت الشاطئ -الذين كانوا يتشاركون معه المكتب ذاته وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي بجوارهم- وتوطدت صداقة درويش مع محفوظ وإدريس، وكان يُنظر إليه باعتباره شاعر المقاومة، وكانت من أهم أعماله فيها قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" التي نُشرت في الأهرام، وصدرت في كتاب "أحبك أو لا أحبك".
يروي الشاعر الراحل: "الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية؛ في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها، ولم يكن هذا القرار سهلًا. كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي. أفتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة.. وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبًا والأدب المصري، التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدّهم من آبائي الروحيين".
انتقل درويش عام 1973 إلى العاصمة اللبنانية، والتي عاش فيها حتى عام 1982، ولها في قلبه مكانة خاصة، وكتب فيها واحدًا من أهم دواوينه "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، وفي عام 1977 وصلت شهرته إلى أوجها، حيث تم توزيع أكثر من مليون نسخة من أعماله، في الوقت الذي امتلكت فيه قصائده مساحة قوية من التأثير على كل الأوساط، حتى إن قصديته "عابرون في كلام عابر" قد أثارت نقاش حاد داخل الكنيست الإسرائيلي، كما أنه عمل رئيسًا لتحرير مجلة "شئون فلسطينية"، وأصبح مديرًا لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يؤسس مجلة الكرمل عام 1981، ولكن لسوء حظه، أن البلاد التي كان يراها ورشة أفكار، ومختبر لتيارات أدبية وفكرية وسياسية تتصارع وتتعايش في وقت واحد اندلعت الحرب.
"بعد اندلاع الحرب صار الدم والقصف والموت والكراهية والقتل.. كل هذه صارت تهيمن على أفق بيروت وتعكره. وبعض أصدقائي هناك ماتوا وكان عليّ أن أرثيهم، وأول من فقدت هناك غسان كنفاني. وأعتقد أن الحرب الأهلية في لبنان عطلت الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية التي كانت تجتاح بيروت، وانتقل الناس إلى جبهات مختلفة ومتناقضة ومتحاربة"؛ لذا جاء درويش إلى دمشق أواخر عام 1982 ليُحيي أمسية كانت مقررة على مدرج جامعة دمشق، والتي لم يتسع مدرجها للجماهير، فاضطرت الجهة المُنظمة إلى نقل الجمهور إلى مدرج الأسد في سيارات نقل، وفوجئ درويش بأن المدرج والملعب مليئان، فقال أحد الشعراء عبارة ظل درويش يرددها بعد ذلك "والله لو قتلناه وشرحنا أسبابنا للقاضي سنأخذ براءة".
انتقل درويش إلى تونس، حيث قابل زعيم منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات، الذي طلب منه مواصلة إصدار جريدة الكرمل، فسافر درويش إلى قبرص للحصول على رخصة الجريدة، وصدرت "الكرمل" من قبرص فيما كان يُحررها في باريس ويطبعها في نيقوسيا، وكان يعاونه في ذلك الشاعر سليم بركات، وظل درويش في باريس ما يقرب من عشر سنوات ولكن في شكل متقطع، فكان يسافر باستمرار، وكان حريصًا على البقاء قريبًا من منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، ولكن استقراره في باريس جعله يكتب فيها دواوينه الشهيرة "ورد أقل"، "هي أغنية"، "أحد عشر كوكبًا"، "أرى ما أريد"، "لماذا تركت الحصان وحيدًا؟"، ونصف قصائد "سرير الغريبة"؛ كما كتب نصوص "ذاكرة النسيان" وكان هناك متفرّغًا للكتابة، رغم انتخابه عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حيث كتب هُناك أيضًا نص إعلان الدولة الفلسطينية، ونصوص كثيرة ومقالًا أسبوعيا في مجلة "اليوم السابع"، وكان احترام جميع الفصائل والمتناحرين داخل القضية الفلسطينية له جعل عرفات يحاول إقناعه بعد إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى بتولي وزارة الثقافة الفلسطينية، ولكن الرد كان بالرفض، مُعللًا رفضه بأن أمله الوحيد هو العودة إلى الوطن، ثم التفرغ لكتابة الشعر. يقول: "كانت باريس عبارة عن محطة أكثر منها إقامة أو سكنًا، لا أعرف، لكنني أعرف أنه في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية، وإذا أردت أن أمُيّز شعري، فأنا أتمسك كثيرًا بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينيات وما بعدها. هناك أتيحت لي فرصة التأمل والنظر إلى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة".
عام 1993 أُتيح لدرويش أثناء تواجده في تونس مع المجلس الوطني الفلسطيني أن يقرأ اتفاق أوسلو، عندها اختلف مع ياسر عرفات لأول مرة حول هذا الاتفاق، وكان رفضه قويًا، حتى أنه قدّم استقالته من المجلس عندما تم التوقيع على الاتفاقية بالأحرف الأولى، مُبررًا ذلك بأن الاتفاق ليس عادلًا لأنه لا يوفر الحد الأدنى من إحساس الفلسطيني بامتلاك هويته، بعد توقيع الاتفاقية أصبح في إمكان درويش العودة إلى جزء من وطنه المحتل، فشعر بأن من واجبه الوطني والأخلاقي ألا يبقى في المنفى، فاختار الذهاب إلى عمان لأنها قريبة من فلسطين وكان يمضي نصف وقته في رام الله التي أشرف فيها على صدور مجلة الكرمل، والنصف الآخر في عمان؛ ولم تختلف الحياة في بيروت وباريس والقاهرة عن حياته في عمان وكان معظم وقته في العمل، فكتب "الجدارية"، "حالة حصار"، "لا تعتذر عما فعلت"، "كزهر اللوز أو أبعد"، "في حضرة الغياب"، أثر الفراشة"، والتي كتب معظمها بين عمان ورام الله "سيقال إنني أفضل باريس على رام الله أو على غزة، وبالتالي اتخذت الخطوة الشجاعة الثانية بعد الخروج وهي خطوة العودة".
غادر محمود درويش عمان وهو غير متأكد من رجوعه سالما إليها، ولهذا أجرى نوعا من تبرئة الذمة المبكرة، فقد أعطى العاملة الفلبينية حسابها المالي مقدمًا، وكذلك حارس العمارة المصري مُخبرًا إياهما بأنه ربما لن يعود. ليرحل عن عالمنا في الولايات المتحدة يوم السبت التاسع من أغسطس 2008، بعد إجراء عملية قلب مفتوح في المركز الطبي بهيوستن، حيث دخل في غيبوبة أدت إلى وفاته؛ ونعاه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مُعلنًا الحداد ثلاثة أيام في كل الأراضي الفلسطينية؛ وتم نقل جثمانه إلى رام الله بعد وصوله إلى العاصمة الأردنية عمّان، حيث كان هناك العديد من الشخصيات من العالم العربي لتوديعه، ليواري الثرى في 13 أغسطس في مدينة رام الله، ويُشارك في جنازته الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني وشخصيات أخرى في مقدمتهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس.