الإثنين 06 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

السادات وماكرون

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يبدو أن عجلة الزمان التى تدور تتشابه أحداثها بالفعل، وما بين الشرق والغرب والماضي والحاضر نرى فى الآفاق تكرارًا لسيناريو حدث فى مصر منذ أكثر من أربعين عامًا، ففى ١٧ يناير ١٩٧٧، ألقى الدكتور عبدالمنعم القيسونى، نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية، حينذاك، بيانًا أمام مجلس الشعب، تضمن مجموعة من القرارات الاقتصادية الجوهرية، منها تحريك أسعار بعض السلع المدعمة، مثل الخبز والسكر والشاى والأرز والزيت والبنزين، بجانب ٢٥ سلعة أخرى.
هذه القرارات الجوهرية وقتها كانت كفيلة بالقضاء على الأورام الخبيثة، والتشوهات الاقتصادية المصرية مبكرًا، وإذا ما كتب لها النجاح فى إقرارها حينها، لكان الجسد الاقتصادى المصرى «عفى» وقوى وصحى، الآن، لكن لعب أصحاب «الحناجر» العالية والمتدثرين بعباءات النضال المزيف، وجماعات الاتكالية، وأغلبهم كان ينتمى لليسار المصرى، الدور المحورى فى إحباط مشروع الإصلاحات الاقتصادية المبكرة للغاية.
خرج أصحاب «الحناجر» العالية من اليسار وفى القلب منهم المتدثرون بعباءة الناصرية، لتأليب العمال فى مصانع وشركات الغزل والنسيج سواء فى حلوان أو شبرا الخيمة، بجانب عمال شركة الترسانة البحرية فى منطقة المكس بالإسكندرية، وبدأ العمال يتجمعون ويعلنون رفضهم للقرارات الاقتصادية وخرجوا إلى الشوارع فى مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وبسقوط الحكومة والنظام.
ثم تطورت المظاهرات لتضم، الجامعات والموظفين بجانب الأحزاب والنقابات، وخرجت للشوارع والميادين، ثم سرعان ما تحولت إلى عنف وتخريب وتدمير، منها حرق أقسام الشرطة مثل «الأزبكية والسيدة زينب والدرب الأحمر وإمبابة والساحل وحتى مديرية أمن القاهرة»، بجانب حرق المنشآت العامة، ووصل الهجوم إلى بيت محافظ الدقهلية فى المنصورة وتم نهب أثاثه وحرقه، ونزل إلى الشارع عناصر اليسار بجميع أطيافه، رافعين شعارات الحركة الطلابية.
هنا كانت الكارثة والوبال الحقيقى الذى جلبه هؤلاء على مصر ومستقبلها، بوقوفهم أمام مشروع الإصلاح الاقتصادى، ما أجبر الرئيس الراحل أنور السادات على التراجع وإلغاء القرارات، ما ترتب عليه كارثتان، اقتصادية وسياسية، وتدفع مصر ثمنهما غاليًا منذ عام ١٩٧٧ وحتى الآن.
فأما التأثير الاقتصادى، فكان فى تزايد انتشار الأورام والتشوهات فى جسده، وبمرور الوقت يزداد ضعف وعلة، يقابله زيادة كارثية فى فاتورة الإصلاح والعلاج مع تراكم السنين.
وأما التأثير السياسى، فإن السادات أطلق يد جماعة الإخوان وحلفائها فى الشارع لمواجهة اليسار، فسيطرت الجماعة الإرهابية، وغرست أنياب أفكارها المتطرفة فى عقول المصريين، وكان يناير ١٩٧٧ تاريخًا فاصلاً وجوهريًا فى تغيير وجه مصر التنويرى والحضارى، والعودة بها إلى عصور الظلام.
كما رسمت تلك المظاهرات التخريبية، والمدمرة لمشروع انطلاقة مصر الاقتصادية والنهضوية، سياسة خليفة السادات، الرئيس حسنى مبارك، حيث استمر ٣٠ عامًا، مستخدما المسكنات فى علاج أورام سرطانية تنهش فى الجسد الاقتصادى والسياسى، مخلفة نتائج مدمرة، وتضاعفت فاتورة العلاج وظلت تنتقل من خانة العشرات إلى المئات ثم الآلاف والملايين والمليارات والتريليونات مع مرور السنين.
وكان القرار الأخطر فى تاريخ مصر، عندما واجه الرئيس عبدالفتاح السيسى هذه الأوجاع والآلام المميتة بمشرط جراح، عام ٢٠١٦ واتخذ قرار العلاج الجذرى، لإنقاذ مصر، مثلما أنقذها سياسيًا من غول الجماعات الإرهابية، وكأن السيسى جاء لإصلاح ما دمره أصحاب «الحناجر» العالية، وما رسمته سياسة الضعف والخنوع والخضوع للشعارات الزائفة التى تضر وتدمر ولا تفيد.
وتخيلوا، لو كان الدكتور القيسونى، وهو من أشهر الاقتصاديين الذين عرفتهم مصر، قد نجح فى مشروع الإصلاح الاقتصادى عام ١٩٧٧ أى منذ ٤١ عامًا بالتمام والكمال، ماذا كان حال مصر الآن؟ على الأقل ما دفعنا ثمنًا باهظًا لهذا الدواء المر لعلاج الجسد العليل الذى ظل ينهش فيه المرض على الأقل طوال ٤١ عامًا، وما من جسد ينهش فيه مرضًا خبيثا طوال أربعة عقود كاملة، إلا وقد دمر كل أعضائه، وأصابه بالوهن والهزال وأدخله فى غيبوبة الموت والفناء.
خطيئة تراجع السادات عن الإصلاحات الاقتصادية، نزولاً على رغبة تلك التنظيمات الاتكالية، يكررها الآن الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» الذى قرر التراجع عن قراراته الاقتصادية استجابة للمخربين والمدمرين.
وهنا لابد من لفت النظر لأمرين مهمين، الأول أن التراجع عن قرارات إصلاحية مهمة تنهض بالتنمية والازدهار الاقتصادى، أمر خطير، ويقوض فرص التحسن ويؤجل التقدم.
أما الأمر الثانى، فإن تراجع السلطة عن اتخاذ الخطوات الإصلاحية، وتلبية كل المطالب المخربة والمدمرة، خطيئة سياسية، تضخم من ذوات المخربين، وتصدر لهم أوهام القوة والتأثير، وتضعف من قوة وسطوة وهيبة النظام، ومن ثم ترتفع سقف المطالب للمخربين، فى انتهازية سياسية كبرى، ويخرج خصوم النظام للانقضاض عليه، وتوجيه ضربة إزاحته من الحكم، للقفز على مقاعد السلطة.
وإذا أردنا أن نعرف ما يمكن أن تؤدى إليه احتجاجات أصحاب السترات الصفراء فى فرنسا، سيكون ذلك فى عبارة واحدة: «مزيد من التصعيد»، وإذا أردنا أن نفهم أسباب هذا التصعيد رغم قرار حكومة ماكرون بتعليق قرار زيادة أسعار الوقود ستة أشهر، فلابد أن نضع الصور إلى جوار بعضها حتى نكون مشهدًا واضحًا بديلاً للمشهد الملتبس الحالى. 
أصحاب السترات الصفراء يرفضون فض احتجاجاتهم بعد انتصارهم الرمزى فى معركة أسعار الوقود مع ماكرون وحكومته وقرروا التصعيد بالبقاء فى الشوارع وإشعال النار فى شوارع باريس والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة ومواجهة رجال الشرطة وحددوا معركة رمزية مع الحكومة هى رفع الحد الأدنى للأجور، وحتى إذا تراجع ماكرون للمرة الثانية ووافق على زيادة الحد الأدنى للأجور، لن تتوقف الاحتجاجات بل ستجتذب إلى صفوفها مجموعات جديدة أكثر تنظيمًا ولها تاريخ من العمل السياسى والعمل السرى، وستطالب ساعتها برحيل ماكرون وإسقاط حكومته وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة.
إدوار فيليب، رئيس الحكومة الفرنسية، أعلن من جانبه نشر ٩٥ ألف عنصر أمنى فى أنحاء البلاد تحسبًا لموجة الاحتجاجات الجديدة، كما جدد تحذيراته بأن الحكومة لن تتردد فى ملاحقة المخربين ومثيرى الشغب ومحاسبتهم وفق القانون، مرددًا كلام الرئيس ماكرون من ضرورة التفرقة بين المواطنين السلميين الذين يرفعون مطالبهم دون الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة وبين مثيرى الشغب الذين يتسببون بأضرار بالغة للاقتصاد.
وما بين مطالب المحتجين وموقف الحكومة والتصعيد الحتمى بين الجانبين، لابد أن نضع فى المشهد التحركات السياسية والسرية لأحزاب ومجموعات تسعى لتحويل الاحتجاجات إلى حراك منظم وضاغط على حكومة ماكرون، فجماعات اليمين المتشدد نشطت خلال الاحتجاجات ويعتبرها الخبراء المسئولة عن رفض التجاوب مع قرار تعليق زيادة أسعار الوقود والتصعيد التدريجى فى المطالب، بدءًا من الحد الأدنى للأجور إلى استقالة الحكومة واستقالة ماكرون أيضًا.
شهود عيان وصحفيون يشيرون إلى وجود مئات المسلحين اليساريين وسط المحتجين، وهؤلاء يحولون الاحتجاجات إلى مواجهات مباشرة مع الشرطة من خلال بناء الحواجز وإشعال النيران فى الشوارع وتدمير سيارات الشرطة والمبانى العامة، وهؤلاء المسلحون مدربون جيدًا على تكتيك المواجهة وإحداث الخسائر ثم الانسحاب فى توقيت مثالى قبل القبض عليهم.
الجماعات الراديكالية اليمينية اندمجت تلقائيًا بحركة السترات الصفراء للقفز على الاحتجاجات وتحويل مسارها إلى منصة سياسية مشتعلة يشهدها العالم كله، حتى يمكن الإعلان عن الأجندات المتطرفة التى ترفض المهاجرين والأقليات وتطالب بسياسات قومية، ومن بين هذه الجماعات جماعة الدفاع عن الاتحاد التى تتبنى العنف تجاه المهاجرين والمسلمين وجماعة العمل الفرنسى المحظورة والمعروفة بميولها الفاشية وعدد من زعماء التطرف الذين يطالبون بثورة وطنية شعبية من أجل استعادة الهوية الفرنسية الضائعة، كما يطالبون بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبى وطرد المهاجرين والمسلمين من البلاد. 
هذه الحركات والجماعات اليمينية التى تؤجج الاحتجاجات فى فرنسا، قرارها ليس من داخل فرنسا، وسقف تطلعاتها يتم صنعه فى أروقة أجهزة الاستخبارات الأمريكية، والمعركة الآن تتعدى أسعار الوقود أو الحد الأدنى للأجور، إلى اذلال إيمانويل ماكرون وحكومته، فإما أن يلجأ للمفاوضات السرية مع الأجهزة التى تشعل الشارع فى بلاده ويبحث عن وسيلة يبرر بها التنازلات الضخمة عن تصريحاته ومواقفه التى تحدى فيها ترامب والولايات المتحدة، وإما أن يتحمل الضربات المتتابعة والخسائر الاقتصادية المتوالية، والتى يمكن أن تحول فعلاً الاحتجاجات الباريسية المدعومة من اليمين المتطرف إلى احتجاجات شعبية واسعة فى عموم البلاد.
بمعنى آخر، ما يحدث فى فرنسا نموذج حى لتجربة إخضاع أوروبا بقسوة وجلافة على طريقة ترامب، إما أن يدوروا فى فلك سياسات ترامب الفجة تجاه العالم أجمع ويدفعوا ما يطلب منهم أن يدفعوه، أو أن يتعرضوا لضربات وعقوبات قاسية، ومنها تحريك الجماعات والأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة لإشعال البلدان الأوروبية، أى الخيارين أنسب لفرنسا وألمانيا والدول الأوربية الأخرى؟ أعتقد أن ماكرون سيركع، ولكنه يبحث عن الوسيلة التى يقدم بها إلى العالم ركوعه وانصياعه لسياسات ترامب.
حفظ الله مصر وشعبها وجيشها.