الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الديمقراطية بين الممارسات والشعارات "6"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يؤكد أرسطو (٣٨٤-٣٢٢ ق.م) أن الحاكم الغيور على مصلحة بلاده عليه أن يبذل قصارى جهده لتحرير شعبه من سجنين، هما: الفقر والجهل، فكلاهما يحول بين المواطن وممارسة حقوقه الديمقراطية. فالعوز يدفع المرء للتنازل طواعية عن رأيه لمن يدفع الثمن، والثانى يجعل من المواطن مجرد دمية تتحرك بمقتضى إرادة الأغيار، فعقله العاجز لا يقوى على فضح مكائد من يتعمدون اللعب به على المسرح السياسي. وعليه لا ينبغى على أى حاكم الفرح بتأييد الجماهير، الذين تقودهم عواطفهم أو حماستهم، فإن ذلك الدافع سرعان ما يتبدل أمام الإغراءات المادية أو الوقوع فى شَرَك شعارات عقدية أو أيدولوجية.
أما الدرب الثانى الذى يحول بيننا وبين ممارسة الديمقراطية فى مناقشاتنا أو محاوراتنا: فيتمثل فى ادعاء أحد المحاورين بأنه يمتلك فصل الخطاب والحقائق، التى لا يمكن الشك فيها، الأمر الذى يدفعه إلى اتهام محاوره الذى يخالفه الرأى بالجهل والدونية، ومن ثم يستبيح الإطاحة به أو تجاهله أو إرغامه على السكوت أو الخنوع والخضوع، والغريب أن الجمهور يطلب دومًا هذه الروح العدائية فى المناقشة ليصفق للمنتصر ويزدرى الخاسر دون أدنى مراعاة أو تعقل لشروط التناظر ومضمون موضوع النقاش، فتصبح الديمقراطية على أيديهم مجرد ظلال باهتة، كثرة المؤيدين أو المعارضين. وطالما حذر الفيلسوف الإنجليزى ديفيد هيوم (١٧١١-١٧٧٦) من الديمقراطيات الفاسدة، وهى تلك التى يتشدق بها من لم يدركون مسئولية تطبيقها، فليس هناك أسوأ من غلبة الجهلاء، أو كثرة الحمقى عند التشاور أو اتخاذ القرار أو تقييم الأفكار، تلك التى تعبر عن ديكتاتورية عصبة الكثرة. 
والصواب لإصلاح هذين الدربين من الاستبداد هو تفعيل الديمقراطية الحقيقية أى أن تصبح قراراتنا الاستراتيجية وخططنا التكتيكية وليدة حوارات ومناقشات بين علماء متخصصين لا مجال فى موائدهم للمجاملة أو المداهنة أو التحزب أو الاتفاقات المبرمة قبل التصويت عليها لتطبيقها وتنفيذها. فإن مثل ذلك الفعل سوف يجعل كل المشاركين فى الرأى مسئولين مسئولية كاملة عن المقاصد والمآلات ويختفى المثل القميء الشائع (اربط الحمار كما يريد صاحبه)، ويمنع صاحب السلطة من الانفراد بالرأى ويعّوده فى الوقت نفسه على دراسة الآراء المتباينة وتمحيصها بمنطق العقل الجمعي، والإيمان بأن النقد والمعارضة من سبل الإصلاح والبناء وليس الهدم. وعلينا كذلك الالتزام بمعايير التناظر بداية من اختيار المتناظرين والصفات والسمات التى يجب أن تتوفر فيهم.
والجدير بالذكر أن الفكر الإسلامى اشترط توفر العديد من الخصال والسمات فى متخذى القرار وأهل الشورى وأرباب التناظر وأطلق عليهم أهل الحل والعقد، ومن ثم لا تجوز المشورة أو الديمقراطية إلا فى وجودهم.
ولا ريب فى أن التشاور والنقاش والتثاقف من أهم تطبيقات الديمقراطية التى ننشدها ومن ثم السؤال يطرح نفسه: هل نحن ديمقراطيون فى دور العلم وحلقات البحث؟ إن الواقعات تشهد بالنفي، فدروسنا فى المدارس والجامعات المصرية تسير وفق نهج تلقينى استبدادى سلطوي، فالمعلم يلقى الدروس على طلاب المدارس وفق مقررات دراسية لم يشارك فى وضعها ومن ثم فهو مكلف بتوصيلها لعقول الطلاب دون قيد أو شرط، وعليه تصبح وظيفة الملقن هى حشو أدمغة الطلاب بالمعارف المكتوبة دون مناقشتها من حيث القيمة والغاية والمقصد ومدى الاستفادة منها فى الحياة العملية. 
والغريب أن جل المشتغلين بالعملية التعليمية والمناهج التربوية - فى مصر على وجه الخصوص - يعلمون أن مثل هذه الطرائق التلقينية قد ثبت فشلها فى التطبيق وعجزت عن صناعة العقول وتنمية المدارك وعصف الأذهان، بيد أن الواقع يشهد بأنهم مصرون على هذا النهج الخاطئ، فلا نكاد نلمح فى برامجنا الدراسية ساعات أو حصص للمناقشة الحرة بين المعلم والتلاميذ، ولم نسمع كذلك عن تلاميذ أعادوا صياغة ما يدرسون من معارف بأساليبهم وتعبيراتهم الخاصة ولم نقف أيضًا على ضروب من الأسئلة أو الاختبارات تخاطب المهارات الإبداعية أو العقليات الناقدة، بل جميعها ينشد ما اختزنه أذهان الطلاب من معلومات بغض النظر عن كونها معارف مشوشة تفتقر إلى الدقة أو مشوهة يعوزها الوضوح والبساطة.
وللحديث بقية