الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"مش" فيلم هندي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ستجلس فى مقعدك "الاقتصادى" غالبا كما عموم البشر أو فى مقعد للدرجة الأولى أو رجال الأعمال مسترخيا مستريحا، تنظر من شباك صغير مجاور تستطلع ضوء النهار، تكون وقتها قد وضعت حقيبتك الصغيرة فى درج الأمتعة العلوى فوقك تماما، وتبدأ فى متابعة وقراءة ما تحتويه شاشة موبايلك لتضع "لايك" هنا أو "سمايل" هناك، بعدها ستمر عليك المضيفة تسألك عن نوع الوجبة المفضلة، ستجيب بعد أن تنزع السماعة عن أذنيك، وتعود لتداعب بأصابعك شاشة صغيرة لوحية مركبة فى ظهر الكرسى الذى أمامك تبحث فى المعروضات عن فيلمك المفضل، ثم ها هى الطائرة تحلق فى الفضاء البعيد، وقد تقرر ما شاء لك الهوى وأنت ما بين سحابتين أن "تعمل زى الناس" لا مانع خذ وقتك .
هل فكرت ماذا كان الأمر عليه قبل فقط خمسة قرون من الآن، حين كان التحليق جوا حلما فخيالا فاستحالة فمحالا، سيصف الروائيون والسينمائيون الموقف ويضعون الحلول الفاتنة لمنح البشر ميزة التحليق فى السماء قبل اختراع ذلك الكيان المسمى طائرة، وكلها حلول ستكون فى إحتياج لعون كائنات غير أرضية، مثلا عفريته هانم (سامية جمال) أو غادة عادل (عفريتة عدلى علام) وسيصف المشهد بعبقرية بالغة أبو السعود الإبيارى وهو يقدم حله متمثلا فى بساط الريح الطائر "جميل ومريح وكلو أمان ولا البولمان.. بساط الريح يا طاير فوق وكلّك ذوق ".
لو حكيت نصف ماسبق من أشياء صارت طبيعية جدا فى أيامنا ومألوفة قبل تلك القرون الخمسة وأنت جالس على شاطئ النهر أو فوق جبل أو داخل خيمة مع صديق لك لظنوك مخبولا، أو لسايرك البعض موافقا صامتا ثم ذهب ينصح بأن يضعوك فى المارستان حتى تعود كائنا أرضيا " زى بقية خلق الله" يعرفه الأرضيون ويثقون به إلى جوارهم.
تحمل التجارب البشرية أحلامها فى الحياة وتخطو نحو التحقق، ولعل أكثرها مفارقة فى جعل الحياة على مقتضى الحلم ما تجلى فى صنعة "أبو القاسم عباس ابن فرناس" كأول بشرى يحلم بكسر نطاق الجاذبية والطيران بعيدا عن الأرض، والتحليق خارج مدارات ما ألفه البشر من سفر عبر الدروب الشاقة وبين المفازات اتقاء لما تضمه من أهوال وفق حكايات كتاب ألف ليلة وليلة وأخواتها.
لم يفعل ذلك عابثا أو لاهيا، كما لم يكن الرجل صاحب فراغ كبير من وقت أو مال موروث أو مأخوذ بصنعة لطف وخفة يد مثلا، ولا صاحب رغبة فى مداعبة الهواء بيديه أو قدميه ولا برأسه كما يفعل الكابتن حسن شحاته وهو يحرز هدفا إفتراضيا فى كل مرة يقترب مهاجمه من كرة عالية أمام مرمى الخصم.
منذ مايقرب من 1200 عام قرر أن يخترق تلك المساحة التى لم يجربها بشر ولا خطرت فى عقل فاهم أو فهيمة، وهى الهواء الذى وفق تعريف لسان العرب هو مجال بين السماء والأرض.
ستقول الحكاية الشائعة أن الرجل قد أودت به محاولته لخرق الجاذبية الى النهاية، سأذكرك بجلستك المستريحة على مقعدك فى الطائرة وأن الرجل كان سببا تاريخيا مباشرا فيها، وأضيف لك متعك الله بالقبول عند العموم والدهشة مصحوبة بالعافية، أن الرجل عاش عمرا مديدا يقارب ثمانين عاما وبعض المصادر تقول ويربو عن ذلك.
قاس منطق الطير فى الصعود وصنع بمقاييس عصره أجنحته الخاصة وفق نظريات رياضية متاحة، ثم كان أن دعى الناس ليشهدوا من فوق تلة بقرطبة الأندلس طيرانه، وحلق فعلا غير مندهش وداهش لمن يرقبونه وبالتأكيد مبتهجا وهو يطل عليهم، نعم لم تكتمل المحاولة بالهبوط الآمن وأصيب الرجل ولكن أى حادثة جرت وأى تاريخ أتمه؟! .. وعندما تنظر الآن إلى الطائرة وهى رابضة فى كل مطار تنتظر اقلاعا ستجد رسما لجسد طائر كبير نحيف رشيق بجناحين، تسير وتطير بنظرية الطائر ذاتها، وسيمكنك الآن أن تطلب من داخل ذلك الطائر الضخم متعدد صفوف الكراسى ودرجاتها قهوتك الساخنة وأنت تتذكر فضل الرجل، وأنت تدرك أن بعض الحياة حلم وأن ما يمضى منها التصاقا بالأرض هو فى عرف الزمان تكرار ومكوث ونكوص عن تجاوز الممكن والواقعى والفعل وقوفا حيرة أمام حائط يوميات " الحياة كما نعرفها" كما تغنيها الست أم كلثوم .
ندرك يقينا الآن أنه ليس فى الأمر ثمة معجزة أو سحر أو حكايات جن، كما أنه ليس بالتأكيد فيلما هنديا دراماتيكيا زاعقا، سيمثل ويغنى فيه شاروخان قبل وبعد أن يضرب الأشرار الذين دائما ينتظرون حيث لن يضربهم سواه، ثم يبهر معجبيه بخروجه من الأهوال متأبطا حبيبته وهو يجرى على لحن راقص وسط المزارع الكبيرة الخضراء.