رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من نسي ماضيه فقد ذاكرته

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«من نسى ماضيه، فقد ذاكرته»، هذه المقولة نتداولها فى أوساطنا الشعبية عندما يتجاهل أى منا ماضيه، فهى تحمل الكثير من الدلالات والمعانى المعبرة عن الاستهجان، تذكرت تلك المقولة أثناء متابعتى لتصريحات الدكتور أحمد عماد وزير الصحة، التى أثارت لغطا واسعا، وفتحت الباب أمام المخاوف من تراجع الدولة عن مسئولياتها تجاه الشرائح الفقيرة. الوزير فى سابقة لم تحدث من قبل، اتهم مجانية جمال عبدالناصر فى منظومتى الصحة والتعليم، قائلا إنها وراء تدهور المنظومتين معا، مشيرا إلى عدم قدرة الدولة على تحمل أعبائهما.
ما جاء على لسان الوزير، يا حضرات، ليس له تفسير، سوى أن النية تتجه نحو تخلى الحكومة عن مسئولياتها الرئيسية، المتمثلة فى البعد الاجتماعى والاهتمام بالخدمات الضرورية للنهوض بالأمة، فالتعليم والصحة قضية أمن قومى إن كنتم لا تعلمون.
فى هذا المقام أنا لا أدافع عن جمال عبدالناصر أو أؤكد انحيازى إلى ثورة يوليو، لكن التزاما بمسئولية الكلمة، فعبدالناصر لم يكن نبيا أو ملهما من السماء، نزل عليه الوحى فمنحه قدسية، لكنه إنسان ينتمى إلى بنى البشر، أخطأ وأصاب، شأن كل الزعماء والقادة فى التاريخ الإنسانى، إلا أن ما فعله فيما يتعلق بالتعليم والصحة منح هذا البلد مكانته وجعله رائدا للمنطقة فى جميع المجالات، قبل أن تسقط تلك المكانة على أيدى المرتدين على ثورته من تناسوا ماضيهم، وهؤلاء هم الذين استفادوا من المجانية.
وبدلا من أن يعكف معالى الوزير على دراسة أسباب الفشل الذريع فى منظومة الصحة، والعمل على ابتكار الحلول - شأن كل وزير يعرف حدود مسئولياته - راح يعلق أسباب الفشل على شماعة التعليم المجانى، رغم أن التعليم المجانى هو الذى جعله يدخل كلية الطب ويتخرج فيها طبيبا، وتتحمل الدولة تكاليف دراسته فى الخارج، ليعود أستاذا فى الجامعة ثم وزيرا، فالتعليم المجانى هو الذى أفرز جميع أطباء مصر، أكرر مرة أخرى، جميع أطباء مصر دون استثناء.
إن هجوم الوزير على مجانية التعليم والعلاج لغير القادرين هو ردة علنية على الدستور الذى أقسمت الحكومة ومنها الوزير على احترامه، لذا لا يمكن التعامل مع تلك التصريحات رغم تراجع الوزير عنها، باعتبارها حديثا عابرا أو خطأ غير مقصود، فهو مسئول وصاحب قرار، وما يدلى به من تصريحات، لا بد أن تكون محل اعتبار ونقاش على جميع المستويات، فهى تعبير عن سياسات الحكومة التى ينتمى إليها، لذا لم يكن غريبا أن يعتبر البعض تلك التصريحات توجها لمخالفة الدستور الذى نص صراحة على استقطاع نسبة من الموازنة لهما، كما أن الموازنة نفسها هى استقطاع الضرائب من أموال الشعب وليست منة من الوزير أو زكاة من حكومته. 
فإذا كان هذا يتعلق بما أورده وزير الصحة، ويعبر عن سياسة الحكومة، فهذا لا يمنع الاعتراف بأن التعليم يعانى من أمراض مزمنة، وهذه حقيقة، أما السبب إن كنت لا تعرف يا معالى الوزير، فهو سياسات الحكومات المتعاقبة، لكن إلقاء الاتهامات العشوائية على زعامة استثنائية فى تاريخ مصر، مثل جمال عبدالناصر والسعى نحو إهانة أعظم إنجازاته، فهذا يؤكد بما لا يدع مجالا لأى شك قصورا فى وعى الحكومة، وفهما محدودا لدورها فيما يتعلق بالبعد الاجتماعى ومسئولية الدولة تجاه مواطنيها.
فعندما يفكر مسئول أيا كان موقعه فى دوائر السلطة، أن يجور على حق المواطن غير القادر فى التعليم والتصريح بعدم قدرة الدولة على توفير العلاج المناسب للفقراء، يصبح الحديث عن الانحياز إلى الفقراء والشرائح معدومة الدخل أمرا عبثيا، يتنافى مع مفهوم المسئولية الوطنية للحكومة فى تحقيق العدالة الاجتماعية ويفقد الثقة فى كل التصريحات الصادرة عنها.
إن أكثر ما يثير الدهشة من القول والممارسات على حد سواء هو الإصرار على نسيان الذات والهوس بالوجاهة، فلو أن السيد وزير الصحة عاش لحظة صدق مع نفسه، وأيقظ ذاكرته، ما جرؤ على هذا القول الذى أثار غضب الناس، ولو أن معاليه استرجع السنوات التى عاش فى رغدها، لأدرك فلسفة إنجازات ثورة ٢٣ يوليو، وعرف المعنى والمغزى من مجانية التعليم وكفالة الدولة لعلاج غير القادرين، فإن كنت لا تعلم يا وزير الصحة، فهذه كارثة كاشفة وفاضحة عن فشل التعليم المجانى فى تعليمك التاريخ الذى جعلك وزيرا له «شنة ورنة» بدون أن تعلم شيئا عن ثورة غيرت وجه الحياة فى مصر.
هل يعلم معالى الوزير ومعه غالبية المسئولين فى هذه البلد، أنهم جميعا من جيل ثورة يوليو وأنهم نشأوا وترعرعوا فى كنف إنجازاتها، فإذا كان الوزير وزملاؤه من أعضاء الحكومة لم يقرأوا التاريخ ولا يعرفون أسباب قيام الضباط الأحرار بثورتهم، فهذه مصيبة تعبر بجلاء عن صحة تصريحاته، باعتبار أن مجانية التعليم كانت كارثة حقيقية على البلد، كارثة جعلت من يتولون أمر البلاد والعباد يصلون إلى أعلى المناصب، دون أن يعرفوا كيف وصلوا إلى مواقعهم، ودون أن يعرفوا، حقائق دامغة عن أوضاع المصريين قبل ١٩٥٢.
معالى الوزير، عليك أن تعرف تلك الحقائق.. قبل ثورة الضباط الأحرار وتخليص مصر وشعبها من طغيان الملك وحاشيته، كان الشغل الشاغل للنخبة السياسية والأحزاب وقتها كيفية مكافحة الحفاء، يعنى غالبية المصريين كانوا حفاة يا معالى الوزير، ولك أن تتخيل كيف كان حالهم، الثورة جاءت لتخلصهم من الجهل والمرض والفقر، ولولاها ما استطعت أنت وما استطاع غيرك من الناقمين على إنجازات جمال عبدالناصر، النجاة من الفقر والجهل والمرض، وما كان لكم بلوغ ما أنتم فيه الآن من مناصب ووجاهة وسلطة تدهسون بها الشعب المطحون من المرض والجهل والفقر.