السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

جناية "كبار العلماء" على الإمام المراغي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم أكد أستفيق من صدمة البيان الأخير لهيئة كبار العلماء، الخاص بالطلاق حتى خرج الأستاذ الأكبر د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، ببيان ثان غاضب يوم الجمعة الماضى هاجم فيه منتقدى رأى الهيئة فى المسألة التى عرفت بـ «الطلاق الشفوى».
ولما كان بيان الأستاذ الأكبر «هامشا» على النص الأصلي-بيان الهيئة- لذا سأتوقف عند هذا «البيان-النص» الصادم الذى لم أستطع حتى كتابة هذه السطور أتخيل أو أتفهم كيف أذاع علماء الهيئة الأجلاء هذا البيان؟ وكيف سولت لهم أنفسهم أن يخرجوا على الملأ ببيان غاب عنه يسر الشريعة الغراء.
منذ البدء، أقر واعترف أنه منذ أحداث ٢٥ يناير وحتى الآن، تعرض ويتعرض الأزهر الشريف وعلماؤه الأجلاء لهجوم ظالم وعدوان جائر من أطراف متعددة وجهات متباينة باستثناء هذه المرة فإن الأزهر وتحديدا هيئة كبار العلماء هم الجناة والمعتدون.
وإذا كان قصارى أمر من هاجموا الأزهر، هو صب جام غضبهم على الأزهر كمؤسسة، وأحيانا على المذهب السنى، وهذان أمران لن يستطع أن ينال منهما أحد مهما حاول، فضلا عن أن رصاصات هذا الهجوم قد طالت أشخاص علماء الأزهر -إذا كان هذا آخر مدى المهاجمين- فإننا فى حالتنا الراهنة وجدنا هيئة كبار العلماء قد اعتدت على الأزهر، وتاريخه، ورسالته، ورموزه، ولن أكون مبالغا إذا قلت إنها جنت على سماحة الشريعة الإسلامية التى بنيت على اليسر ومراعاة مصالح العباد فى المعاش والمعاد كما قال العلماء قديما.
أولى الكوارث التى تطل بوجهها الصادم من بيان «كبار العلماء» هى توصيف الأزمة بـ «الطلاق الشفوى» وهل هو جائز أم غير جائز؟ وليسمح لى شيوخنا الأفاضل أن أخبرهم أنهم ضلوا الطريق بهذا التوصيف، لأنهم مشوا خلف اصطلاح خلقته وسائل الإعلام لزوم العمل المهنى، المشكلة الحقيقية ليست «الطلاق الشفوى» وإذا كانت الهيئة وشيوخها الأفاضل بدأوا بمقدمة خاطئة، فكان طبيعيا أن يصلوا إلى نتيجة خاطئة وهذ أمر من بديهيات المنطق. 
أما التوصيف الدقيق -كما أتصور- فهو أن الأزمة التى يواجهها المجتمع المصرى هى خراب بيوت كثيرة، ودمار للأسر، بسبب إساءة الرجال استخدام حق الطلاق وبصياغة أخرى «إذا نظرنا إلى الرجل وجدناه قد أساء استخدام هذا الحق -أى الطلاق- إساءة أصبحت مضرب الأمثال» بالمناسبة النص المنقول بين علامتى التنصيص ليس كلاما لى، بل هو كلام الإمام والعلامة الفقيه الراحل الإمام محمد مصطفى المراغى، شيخ الأزهر الراحل، وقال هذا الكلام فى فبراير عام ١٩٤١ بالأزهر وتحديدا فى الرواق العباسى أثناء ترؤسه لجنة منح الأستاذية فى كلية الشريعة، وناقل هذا النص الأستاذ محمد محمد المدنى -من علماء الأزهر الراحلين- فى مجلة الرسالة عدد ٣٩٨ بتاريخ ١٧ فبراير ١٩٤١م فى مقال بعنوان «أيام الرواق» 
ونمضى مع الكلام النفيس للإمام والعلامة الفقيه، لنرى ويرى شيوخ الهيئة الأجلاء كيفية النظر الفقهى الرصين والحصيف لهذه الأمور الخطرة، فيقول الأستاذ الأكبر المراغى: «فإذا كانت العلة تدور حول إحسان استعمال هذا الحق أو إساءته، فها هو الرجل قد أساء، فهل لنا أن ننتزع منه هذا الحق لنضعه فى يد القاضى؟ وحينئذ لا يجوز للزوج أن يطلق زوجته إلا أمامه فنكفل بذلك مصلحة الرجل والمرأة معا ونجعل رباط الأسرة فى يد أمين بعيد عن الهوى، خال من الغرض قدير على التقدير والنظر والموازنة والحكم العادل».
ما رأى شيوخ الهيئة الفضلاء فى هذه الدرة الفقهية التى تراعى مقاصد الشريعة فتضع بعين الاعتبار والتقدير رباط الأسرة المقدس فى مكانتها المناسبة؟ هل كان المراغى برأى شيوخ الهيئة الفضلاء من أصحاب الفتاوى الشاذة التى توقع بالمسلمين فى الحرام؟
كنت أتمنى أن يعمل شيوخ الهيئة قبل إصدار بيانهم بنصيحة أحمد بك شوقى فى بيته الشهير القائل:
بنى عامر لا تُضيعوا الحُلومَ.. فإن الأناة بكم أجملُ
لكن شاء الله -الذى لا راد لمشيئته- أن تحمل الهيئة وشيوخها الناس على العسر لا اليسر كما تدعو شريعة الإسلام ونهجه القويم. 
بالمناسبة ينقل الأستاذ محمد المدنى فى نفس النص أن أحد الأساتذة تقدم ببحث هاجم فيه موقف الإمام أبى مسلم الأصفهانى من النسخ، لأن الأصفهانى خالف رأى جمهور العلماء، فما كان من الأستاذ المراغى إلا أن قال لصاحب البحث: لا ينبغى أن تكون مخالفا رأى الجمهور مسوغا لرفض رأى أو قبوله، فالحق قد يكون مع واحد وقد يكون مع الجمهور، وهذه حكمة ثمينة أخرى يعلمنا إياها الشيخ المراغى، وأظنها لم تكن حاضرة فى أذهان علماء الهيئة عند مناقشة هذا الأمر.
بعد انتهائى من قراءة بيان الهيئة عن الطلاق، لم أتذكر فقط موقف الإمام المراغى، بل تداعى إلى ذهنى كذلك، موقف الأستاذ الراحل محمد زاهد الكوثرى، الذى رفض كلام الإمام المراغى وهاجمه، وقلت لنفسى لعل موقف الهيئة هو نفس موقف الشيخ الكوثرى، لكننى بعد مراجعة كلام الرجل، وجدت أننى قد ظلمته، ورغم أننى لا أميل كثيرا إلى الكوثرى لأنه حكم بكفر المراغى ضمنا فى مسألة أخرى غير الطلاق. 
لكن الرجل، والحق يقال، فقيه مخضرم فلم يبن رفضه لكلام الإمام المراغى على كلام مرسل بل اعتمد على قواعد مقررة فى الشريعة فقال فى رفضه: «إساءة بعض السوقة التصرف فى حق لا تدعو إلى التشريع العام، لأن التشريع العام لا يبنى على الشاذ»، أى أنه رفض رأى العلامة المراغى لأنه رأى أن المسيئين لحق الطلاق قلة، ومن ثم فالمسألة من الشاذ الذى لا يقاس عليه، وأغلب الظن أن الرجل لو عاش إلى يومنا هذا ووجد ملايين الأسر التى شردت لغير رأيه. 
ثم ألا يعلم الشيوخ الأفاضل أنه من واقع الإحصائيات التى تتحدث عن الطلاق فإننا أمام ما يسمى فى الفقه «ما عمت به البلوى»؟ ويعلم شيوخنا الأجلاء أن ما عمت به البلوى «مرعى» فى الشريعة أما الشاذ والنادر فلا حكم لهما.
ثانى الكوارث التى أطلقها بيان الهيئة، هو الحديث عن أن الطلاق الشفوى يقع فى المذاهب الأربعة، ولا أجد كلاما للتعليق على هذا الأمر لأن الأزهر ذاته لم يكتف بتدريس المذاهب الأربعة، بل أخذ على عاتقه تدريس كل المذاهب الإسلامية الفقهية والكلامية، ثم قبل كل ذلك وبعده الأزهر مهمته الحفاظ على الشريعة ومقاصدها وليس المذاهب والتيارات الإسلامية القديمة والحديثة. 
ثمة نقطة أخرى أو بالأحرى سؤال أوجهه لعلماء الهيئة يتعلق بموقف المذاهب الأربعة من الطلاق: هل أخذ علماء الهيئة فى حسبانهم قول الإمام مالك إن سلطة الطلاق تنزع من يد الرجل عند النزاع المفضى إلى الطلاق، ومن ثم تعطى سلطة الطلاق لـ «حكم من أهل الزوج» كما فى الآية الكريمة «فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها»؟ أى أن الإمام مالك لا يعتبر الطلاق حقا خالصا للزوج فى حالة نزاع سيترتب عليها هدم الأسرة فلماذا لم تقس اللجنة على هذه الحالة؟
كل ما سبق خاص بعلماء الهيئة تبقى نقطة أخيرة أو قصة أسوقها خصيصا لفضيلة الإمام الأكبر
د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر الذى أحبه وأقدره تقديرا خاصا. يعلم الإمام الأكبر أن كثيرا من الدراسات التى كتبت عن العالم الإسلامى فى العصر الحديث عللت تسلل التشريعات الأجنبية إلى قوانين البلدان العربية والإسلامية بالاستعمار، لكن هناك جانبا آخر لم يتحدث عنه الكثيرون تكشف عنه هذه القصة التى أوردها المستشرق الهولندى رودلف بيترز فى كتابه «التشريع المصرى الجنائى الإسلامى والعلمانى فى القرن الـ١٩» حيث يقول المؤلف إنه فى عام ١٨٦٠ أقامت أم مكلومة بقتل ابنتها، دعوى ضد قاتل ابنتها أمام قاضى الشرع فى الإسكندرية، لكن القاضى أبطل الدعوى لأن الشهود قُصر، وهؤلاء لا تقبل شهادتهم وفق المذاهب الأربعة، فما كان من السيدة المكلومة إلا أن أقامت دعوتها أمام المجلس النظامى، وهو محكمة «علمانية» حتى تبرد نارها فحكم المجلس النظامى بسجن المتهم ٣ سنوات، هذا يا فضيلة الإمام ما حدث ويحدث عندما يجمد شيوخ الشريعة على المذاهب الأربعة ولا ينظرون لواقع الناس بعين بصيرة، ثم بعد ذلك نقول إن الاستعمار تغلغل بقوانينه فى مجتمعنا والله وحده يعلم وسيحاسب من تسبب فى غزو قوانين الغرب لبلاد المسلمين وبالله التوفيق.