الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة «23»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
سألنى صديقى عن سبب اختيارى للعنوان عاليه سبيلًا إلى مناقشة الكثير من القضايا والملفات المطروحة على الساحة المصرية، والواقع أن السؤال على النحو السالف الذكر يشى بالإجابة وعلى نحو دقيق؛ إذ وجدت أن «الدولة المدنية الحديثة» هى المنتهى والهدف الأسمى من كل عملية تحول ديموقراطى يمكن أن يسعى إليها مجتمع ما، سواء سعى إلى التحول الديموقراطى بشكل طوعى من النظام الحاكم، أو كان الأمر مدفوعًا بضغوطات داخلية أو خارجية، وصولًا إلى حد الثورة الشعبية، كما فى الحالة الوطنية الراهنة. 
فقد كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير نقطة الانطلاق الحقيقية نحو تحول ديموقراطى حقيقى وجاد يمكن أن نعول عليه فى تحقيق الطموحات الشعبية المشروعة الماثلة فى الحق فى العيش الكريم الحر، ولا ينفى ذلك أن الثورة الشعبية فى حد ذاتها، تمثل مناخًا رحبًا يستدعى على عجل الكثير من الجهات الأجنبية الرامية إلى تحقيق مصالحها، والتعرف على مستجدات الأوضاع، وكشف مآلات الأمور، عساها تتمكن من أن تدفع بها باتجاه مصالحها، وهو ما يؤكد صحة الحديث عن وجود استخباراتى واسع النطاق داخل المجتمع المصرى بالتزامن مع ثورة يناير، وهو أمر لا ينبغى أبدًا، ولا يصح على الإطلاق، أن نزيح به مفهوم الثورة الشعبية من الحدث المبهر الذى شهده العالم فى الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، وعليه فإن الثلاثين من يونيو لم يكن إلا تصحيحًا لمسار ثورة يناير، وبموجبه استرد الشعب ثورته، وامتلك إرادته مرة أخرى بعد ما لحق بها من تشوهات جراء الجماعة الإرهابية، وتداعيات تآمرها على الشعب بغية تحقيق أهدافها غير الوطنية. ربما كانت المقدمة السابقة، كلمة أراها حقا، وضرورة لا ينبغى أن تمر ذكرى ثورة يناير الأخيرة دون الإشارة إليها، ولو فى عجالة، وربما نعود إليها فى مقالات لاحقة. غير أننى، ما زلت أنظر إلى تجربتنا الوطنية من منظار «الدولة المدنية الحديثة»، لا أود أن يفوتنا حدث تاريخى بحق يمثل علامة فارقة فى حركة المجتمعات نحو أهدافها مرتكزة على ما تحتويه من قناعات وقيم ما هى فى الواقع إلا مبادئ «الدولة المدنية الحديثة». أحدثكم إذن عن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة التى أنتجت نموذجًا شديد الدلالة على ما بلغته «الدولة المدنية الحديثة»، من عمق ورسوخ، مشفوعًا بكثير من الرسائل البليغة التى علينا إدراك مضامينها ونحن نسعى إلى بناء «دولة مدنية حديثة».
فليس من شك أن الركائز الأساسية «للدولة المدنية الحديثة» إنما تتمثل فى العلمانية، والمواطنة، والديموقراطية، والركيزة الأخيرة تتسع كثيرًا لتشمل رشادة الحكم، وما يحتويه من قيم سيادة القانون، والشفافية، وحرية تداول المعلومات، وحرية الرأى والتعبير، إلى جانب المساءلة والمحاسبة، والتداول السلمى للسلطة، وغير ذلك من السمات الواجب توافرها فى «الدولة المدنية الحديثة».
والواقع أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة لا تقتصر رسائلها فى الشق المتعلق بالتداول السلمى للسلطة، بل هى نموذج جامع شامل لجميع ملامح الحكم الرشيد، وما يعبر عنه من قيم الديموقراطية. وفى السبيل إلى توضيح الأمر نوجز الملاحظات التالية:
- المشهد الحضارى الذى قدمته الولايات المتحدة فى إطار تسليم السلطة من الرئيس السابق أوباما إلى الرئيس الجديد ترامب، لا يمكن اختزاله فى عبارات المجاملة التى تبادلها الرئيسان، إذ لا ينبغى أن نهمل الصراع السياسى الذى يمثله الطرفان، وحتى لحظات قبل إعلان النتيجة النهائية كان أوباما يحذر من ترامب، ويشيد بمنافسته، ووزيرة خارجيته السابقة، وزميلته الديموقراطية هيلارى كلينتون، لكن بإعلان رأى الشعب، بات على أوباما الالتزام بالإرادة الشعبية الحرة التى اختارت التغيير، ولا يعفى ذلك أوباما من مواصلة دوره الوطنى كمعارض سياسى لا أكثر، وقد كان جميلًا أن نرى فى حفل التنصيب الكثير من الرؤساء السابقين، بعضهم ديموقراطى وبعضهم جمهورى، والكل يدفع باتجاه تأكيد قيم «الدولة المدنية الحديثة»، فى المقابل احتشد الآلاف فى الطرقات والميادين اعتراضًا على تنصيب ترامب، شاركهم وزير الخارجية السابق «كيرى» مصطحبا كلبه!، والشرطة تحرسهم، والإعلام العالمى يتابعهم، ولم لا؟ وقد رأوا فى خطاب وممارسات ترامب معاداة لكثير من فئات كثيرة من المجتمع الأمريكى، المرأة والأقليات....، لكن الأمر لا يمكن عزله عن التوجه الشعبوى الذى راج مؤخرًا فى أوروبا، ومثل ترامب امتدادًا أمريكيًا له. 
- لو أن حدثًا كهذا يمكن أن يختزله البعض، فلا يعيره اهتمامًا كبيرًا فى دلالته، أسوق إذن نموذجًا، لسخرية الأقدار أنه صادف التوقيت ذاته تقريبًا، فبينما تسلم ترامب السلطة فى احتفالات مشهودة فى العشرين من يناير الجارى، حمل التاسع عشر من يناير الوجه المغاير تمامًا؛ إذ أدى «أداما بارو» اليمين رئيسًا لجامبيا فى سفارتها فى السنغال المجاورة!، بحضور مفوضة المنظمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «إكواس» ،وسفرائها، ومسئولين سنغاليين، بعد الانتخابات الرئاسية الجامبية التى جرت فى الأول من ديسمبر الماضى، والتى على إثرها رفض الرئيس المنتهية ولايته «يحيى جامع» التنحى عن السلطة!، وقد أعقب تنصيب الرئيس الجديد، فى السفارة، احتفالات شعبية فى العاصمة الجامبية «بانجول»، واكبها صدور قرار بالإجماع من مجلس الأمن يعتبر «بارو» رئيسا شرعيا لجامبيا ويدعو «جامع»، لتسليم السلطة واحترام إرادة المواطنين!. ولا تتوقف الملهاة ولا معاناة الشعوب، حال غياب «الدولة المدنية الحديثة»، عند هذا الحد، فقد تحركت عدة جيوش ودخلت أراضى جامبيا لطرد «جامع»، وتمكين الرئيس «بارو»!. وبالفعل تم تنصيب «بارو» بعد ساعات من انتهاء المهلة التى منحتها «إكواس» «لجامع» لتسليم السلطة سلميا. لكنه أبدًا ليس هو المقصود من مفهوم «التداول السلمى للسلطة»، كما تنص قواعد وقيم «الدولة المدنية الحديثة».
- ثم ماذا عن سيادة القانون فى الأمر؟، لا شيء تقريبًا، فقد طار الرئيس المطرود «جامع» يوم الأحد ٢٢ يناير على متن طائرة إلى المنفى فى «غينيا»، غالبًا لينعم بثروات نهبها على مدار حكمه الذى استمر نحو ٢٢ عامًا!، بعد أن «وافق» على التخلى عن السلطة تحت ضغوط إقليمية وتدخل عسكرى لدول غرب إفريقيا، فلا محاسبة تمت، ولا مساءلة سئل عنها؛ إذ ما زال الطريق طويلًا شاقًا وعرًا إلى «الدولة المدنية الحديثة»، وقيمها المتعارف عليها؛ ذلك أن بإمكان مجلس الأمن الدفع نحو تبادل قسرى للسلطة، لكن، وبما أنه لم يكن تبادلًا سلميًا، فلا محل للسؤال الوقور عن «سيادة القانون» على نحو ما رسخت به «الدولة المدنية الحديثة»، وأُزيدك حسرة على «الدولة المدنية الحديثة»، فأفيدك بأن الرئيس المطرود، بأموال شعبه، له تصريح فريد، بالغ الدلالة، فبعد أن تولى السلطة إثر انقلاب عام ١٩٩٤، تعهد لاحقا بالبقاء فى الحكم «لمليار عام»!!.
- من غياهب التاريخ «المعاصر»!، نعود إلى الحديث عن «الدولة المدنية الحديثة»، فأشير إلى أن التبادل السلمى للسلطة لا ينبغى النظر إليه فى إطار موقع الرئاسة فحسب، بل تشهد الدولة الأمريكية الحديثة نقاشًا واسعًا فى الكونجرس الأمريكى، رغم غلبة حزب الرئيس «الجمهورى»؛ إذ على الوزراء وبعض الشخصيات المرشحة لشغل مواقع هامة أن تنال ثقة الكونجرس، وهو أمر ليس بالهين، فلا «دعم أمريكا» يشفع!، ولا «سيد قراره» ينفع!، بينما التعديل الوزارى فى بلدنا يحظى بكثير من السرية!، يلزمها لقاءات خارج مقر الحكومة!، وتسريبات لاعتذارات متتالية بسبب نقد الإعلام!، ثم وفى النهاية وجوه ترحل وأخرى بديلة تهبط علينا، دون أسباب معلنة؛ ومن ثم لا جديد فى السياسات، ولا طرح لرؤى متماسكة قابلة للتحقيق، غير أننا على أمل «الدولة المدنية الحديثة» لا نملك إلا أن نسير من حكومة إلى أخرى، نصوب مع الزمن خطوات ليس إلا بها تراكم تجربة وطنية صعبة، لكنها ضرورة لا بديل عنها؛ إذ لا تنشأ «الدولة المدنية الحديثة» فجأة، وبقرار تنفيذى مهما علا، بل هى نتاج تراكمات متتابعة. 
وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله، نُكمل قراءة المشهد الأمريكى، ودلالاته ورسائله فى سياق «الدولة المدنية الحديثة»، عسانا ندرك حقيقة موقعنا على الطريق إليها.