السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ادّاين وازرع.. ولا تِدّاين وتبلع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك، لابد عن يوم برضه ويعدلها سيدك، إن كان شيل الحمول على ضهرك يكيدك، أهون عليك يا حر من مدت إيدك، ماتيالله بينا أنت وياه، ونستعين ع الشقا بالله، وأهو اللى فيه القسمة طلناه واللى مايجيش إن شالله ما جا».. هذه الكلمات التى كتبها عام ١٩١٩ المبدع الذى لم يحرمه الله النصيب من اسمه «بديع خيرى»، وخلدها الرائع «سيد درويش» بلحنه الذى ستظل الأجيال تردده، وهى تعبر عن أحوالنا على مر العصور، فقد عاش المصريون منذ القدم وهم يحملون هم الغد ولا يهنأون برزق اليوم، فما بين انتظارهم للفيضان الذى يهبهم الخير والزرع رغم قسوته أحيانًا، وبين خشيتهم من الجفاف الذى تأتى معه السنوات العجاف، لم ينعموا بالرفاهية، لذلك كانت الحكم والتعاليم الفرعونية تحث على الادخار، وفى نفس الوقت الرضا بما قسمه الله، فنجد مثلًا تعاليم الحكيم «أمنموبى بن كنخت»، المكتوبة على إحدي البرديات المحفوظة فى المتحف البريطانى تؤكد على قيمة التوفير مثل: «شعرة من هنا وشعرة من هنا يعملوا ذقن»، «هات اليوم صوف وخد بكرة خروف»، «ادّاين وازرع ولا تِدّاين وتبلع»، كذلك نجد بعض الحكم التى تحفز على القناعة والرضا بالمقسوم مثل: «لا تجهد نفسك فى طلب المزيد عندما تكون قد حصلت على حاجتك، فإذا جاءتك الثروة من السرقة فلن تبقى معك للصباح، وستصنع لنفسها أجنحة كالإوز وتطير نحو السماء»، كذلك عبرت الحكم الفرعونية عن أهمية إدراك قيمة الأشياء مثل: «ليست الحكمة أن تعرف كل شىء، ولكن الحكمة أن تعرف قيمة كل شىء»، وتروى الأساطير الفرعونية أن قدماء المصريين كانوا يجودون بأجمل بناتهم وفاء للنيل حتى لا يضن عليهم بمياهه التى ترويهم وتروى الأرض، ورغم قسوة التضحية، وما يترتب عليها من آلام إلا أنها تعكس مدى حرصهم على المستقبل، وبالتالى أمثالنا الشعبية مثل: «القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود»، هى نتاج إرث ثقافى اكتسبه المصريون نتيجة ما مر بهم من ظروف وتجارب قاسية، ولكن هل ما زلنا نردد حكم الأجداد لنحث أنفسنا على تلك القيم؟، أم أننا أصبنا بداء الكسل والاستسهال، والتلذذ بالإعلام التحريضى الذى يخلع عنا رداء المسئولية ويلبسه للدولة فقط؟!، فنسخر من المطالبة بربط الأحزمة، ونكتفى بتوجيه اللوم للحكومة وإلقاء الكرة فى ملعبها، ونتجاهل أننا أيضًا مسئولون عما نحن فيه، لا أحد ينكر أن هناك قلة ينعمون بخيرات بلادنا، وهم مسئولون عن الفقر الذى يعانى منه الكثيرون، فكما قال الإمام على بن أبى طالب «ما جاع فقير إلا بتخمة غنى»، وأغنياء بلادنا بكل أسف أقل فى حجمهم الحقيقى من النملة!!، فالنملة حين تشبع وتجد أخرى جائعة تعطى لها خلاصات غذائية من جسمها!!، أما بنو البشر الذين اصطفاهم ربهم على العالمين، فكلما زاد شبعهم زاد طمعهم!!، لذلك على الدولة أن تبحث عن السبل التى تمكنها من تحقيق العدل وتأخذ من الغنى لتعطى الفقير، ولا تزيد الأعباء على محدودى الدخل، وتتصدى لأصحاب المصالح الذين يتضررون من الخطط الإصلاحية التى تحاول وضع حد أقصى للأجور التى يتقاضاها العاملون فى الدولة، أو فرض الضرائب التصاعدية التى تضمن عدالة التوزيع، ولكن فى نفس الوقت كما ننتقد الدولة ونطالبها بالقيام بدورها، علينا أيضا أن نلوم أنفسنا ونقومها، فلم نكن يومًا شعبًا مرفهًا، ولم يكن أغلب آبائنا وأجدادنا يملكون ما نملك أو يعيشون كما نعيش، ولكننا قررنا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأصبح أغلب الشعب مهما بلغت قسوة ظروفه يحرص على امتلاك الموبايل ووسائل التكنولوجيا الحديثة، ويصرف الكثير على كروت الشحن، وباقات الإنترنت التى لا تستخدم فى الغالب سوى لتصفح مواقع التواصل الاجتماعى التى أصبحنا مرضى بها، نعم الأسعار ارتفعت ولكن ما زال هناك دعم تقدمه الحكومة، وهناك منافذ بيع القوات المسلحة التى تبيع السلع الغذائية بأسعار مدعمة، إلى جانب الجمعيات الاستهلاكية والعروض التى تقدمها بعض المحال الكبرى، ولكن الكثير منا يتكاسلون بعد أن سيطرت علينا ثقافة «الديلفرى»، فيدفعون الثمن أضعافًا كان يمكن أن يوفروها، كذلك ندفع ثمن الكسل من صحتنا. فبعد أن كان الناس يمشون مسافات طويلة للحصول على احتياجاتهم، فيمارسون أفضل أنواع الرياضة يوميًا دون أن يشعروا، أصبحوا يستسهلون الميكروباص والتوك توك وسيلة للانتقال حتى فى المسافات القريبة!!، فانحنت الظهور وأصبح الكثيرون يعانون من الأمراض، ووصل الاستسهال إلى أن الدولة حين حاولت إلغاء الدروس الخصوصية التى أنهكت الأسر، وبدأ بعض المحافظين تنفيذ القرار فى محافظاتهم، هب الكثيرون سواء من الأهالى أو الإعلاميين ورفضوا القرار وطالبوا بالمساواة مع المحافظات التى لم تمنعها!!، فأين الآباء والأمهات الذين يعكفون على فهم المناهج الدراسية لشرحها لأبنائهم؟!، وأين زرع المسئولية فى نفوس الأبناء ليدركوا صعوبة الظروف المعيشية فيجتهدوا بقدر إمكانهم؟!، ورغم ذلك فما زال بيننا كادحون وصابرون يسعون للحصول على لقمة عيشهم، ويدبرون أنفسهم بشرف وعزة نفس، ورغم الهموم وضيق الحال يضحكون من قلوبهم بنفوسهم الراضية ووجوهم البشوشة المستبشرة التى ترتسم عليها علامات الكد والعناء وهم يجلسون على الأرض فى الحدائق العامة، راضين مهما قست الأيام ومستعدين للتضحية بأنفسهم فداء لوطن ربما لم يعطهم بقدر ما أحبوه، فعلينا أن نُقوّم أنفسنا ونكف عن الاستهلاك فى كل شىء عملًا بوصايا جدنا الحكيم بتاح حتب: «من يُطع بطنه، فهو يطيع عدوه».