الثلاثاء 04 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

يوم مات الأستاذ "2-3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نكمل اليوم ذكريات الساعات الأخيرة فى حياة أديبنا الكبير الراحل الأستاذ نجيب محفوظ.
ما إن أفاق نجيب محفوظ من العملية حتى وجد محمد سلماوى أمامه.
فسأله: هو إيه اللى حصل؟
شرح له سلماوى كيف تعثر ووقع وأصيب فى رأسه.
سأله الأستاذ: وبتقول إننا فى مستشفى الشرطة، وإنهم عملوا لى «غرزتين»؟
رد محمد سلماوى : نعم.
قال نجيب محفوظ بخفة ظله المعروفة: لم أكن أعرف أن الشرطة تسمح الآن «بالغرز»!
وضحك من قلبه. وضحك معه سلماوى. الذى لم يكن يخطر على باله أكثر مما أكده الأطباء. أن المسالة بسيطة. وكل شىء طبيعى.
لكن عندما صدرت جرائد اليوم التالى وهى تحمل خبر إجابة نجيب محفوظ ونقله إلى المستشفى. فوجئت السيدة «عطيه الله» قرينته بالتليفون يدق فى حجرته بالمستشفى.
وقال لها المتحدث: نحن رئاسة الجمهورية.. والسيد الرئيس حسنى مبارك يرغب فى التحدث إلى الأستاذ نجيب محفوظ!
شكرت زوجة الأستاذ المتحدث. وأبلغته أنه لا يتحدث عادة فى التليفون بسبب ضعف سمعه. فاستأذن المتحدث منها للحظات. ثم عاد ليقول لها إن الرئيس يود إبلاغ تحياته للأديب الكبير. ويسألها إن كانت فى حاجة إلى شىء. فطلبت منه إبلاغ شكرها هى والأسرة للرئيس.
ثم يمضى محمد سلماوى فى كتابه ليروى تفاصيل أيام وآلام نجيب محفوظ فى المستشفى. وكيف بدأ توافد المئات من تلاميذ وعشاق نجيب محفوظ على المستشفى لزيارته والاطمئنان عليه. حتى قرر الأطباء فى النهاية منع الزيارة. وقصرها على زوجته وابنتيه وسلماوى وجمال الغيطانى ويوسف القعيد. الذين كان الأستاذ يسميهم «أولادى»!
ولم يتوقف سلماوى عن زيارة نجيب محفوظ فى المستشفى صباح ومساء كل يوم. وكان قلبه يرتجف صعودًا وهبوطاً. مع تدهور أو استقرار الحالة الصحية للأستاذ.
وكان الأستاذ نجيب يحب أن يسمع من سلماوى قصيدة «خوسيه مارتى» شاعر الحركة الكوبية فى أواخر القرن التاسع عشر والتى كان يقول منها:
ازرع وردة بيضاء.
فى الصيف كما فى الشتاء.
للصديق المخلص.
الذى يمد لى يده صادقًا
وللشخص قاسى القلب
الذى ينزع قلبى من بين ضلوعى
لا أزرع شوكًا ولا عوسجًا
أزرع وردة بيضاء.
ويقول محمد سلماوى وكأنه يبكى: فى كل مرة كنت أقرأ فيها هذه القصيدة على الأستاذ. كنت أشعر أن «مارتى» لا يمكن أن يكون قد كتب تلك القصيدة إلا عن نجيب محفوظ. الذى ملأ حياتنا ورودًا بيضاء أسعدنا بها جميعاً. حتى قساة القلوب منا الذين هاجموه لم يضمر لهم إلا تلك الوردة البيضاء التى لم يكن يملك غيرها!
قبل رحيل نجيب محفوظ بيوم أصيب فجأة بنزيف فى القولون. وحاول الأطباء حتى منتصف الليل جاهدين إيقاف النزيف بلا جدوى. وكان الأستاذ قد دخل فى الغيبوبة الأخيرة.
وجاء سلماوى إلى المستشفى حاملًا معه نسخة أولى من كتاب الأستاذ «أحلام فترة النقاهة». وهو يظن أن الأستاذ سوف يسعد به وكان ينتظر صدوره.
فوجئ سلماوى بأخبار النزيف الذى أصاب الأستاذ نجيب. وقف أمام حجرته ونظر إلى الداخل. كان الأستاذ نائمًا يخضع لعملية نقل دم تعويضًا عما فقده من النزيف.
كانت الحجرة هادئة لا صوت فيها. وكان الدم ينزل قطرة قطرة فى الخرطوم الذى يصل إلى يده اليمنى. وخطا محمد سلماوى إلى داخل الغرفة بخطوات متثاقلة حتى وصل إلى حافة سريره. كان وجه الأستاذ نجيب يبدو شاحبًا. وقال الطبيب إنه مازال تحت تأثير المهدئ الذى أخذه بعد العملية.
مال سلماوى على أذن الأستاذ اليسرى..
وقال له: صباح الخير يا أستاذ نجيب.
قال له الطبيب: لن يسمعك.. فهو لم يفق بعد.
قال سلماوى: أعرف ذلك.. لكن ما لا أعرفه هو لماذا نزف؟
خرج الأطباء وتركوا سلماوى فى الحجرة مع الأستاذ الغائب فى غيبوبة المخدر.
وكان المشهد إنسانيًا مؤثرًا. نجيب محفوظ نائم فى سريره فى غرفة المستشفى الباردة. بأعوامه الخمسة والتسعين وذقنه التى طالت. وجسده الذى أنهكه الزمن والمرض. وسلماوى تلميذه المحب ومريده الوفى.
الأستاذ على فراش الموت..
والتلميذ يقف وحيدًا معه. حائرًا لا يدرى ماذا يفعل وماذا يقدم له ليخلصه من عذاب المرض وآلامه.. وفى قرارة قلبه يتمنى سلماوى لو أن الأستاذ يفيق ويتحدث. أن يقول ماذا يريد حتى ينفذه له الجميع.
ويتساءل سلماوى بينه وبين نفسه: هل قال لنا لكننا لم نسمع. ولم نفهم.
ربما قال بالكلمات حين صاح يومًا فى أدب: أرجوكم سيبونى.. كفاية!
أو ربما قال بالإشارة حين ظل ينزع بيده قناع الأوكسجين وقال: عايز أروّح !
وكانت زوجته السيدة «عطية الله» قالت لمحمد سلماوى إنها فى آخر مرة سمعته فيها يتكلم قبل أن يغيب عن الوعى. كان ينادى أشخاصًا رحلوا جميعًا عن عالمنا. وأنها تعرفت من بينهم على اسم «صلاح جاهين»!
وحين سمعت الممرضات صوته وهو ينادى حاولن التحدث إليه. فلم يجب عليهن. وظل يتحدث إلى الآخرين الذين رحلوا. لكنه الآن لم يعد يتحدث. لا مع سلماوى ولا مع الذين رحلوا!
نعم كان المشهد فى حجرة الموت مؤثرًا..
وكان المشهد والصمت أقوى من قدرة محمد سلماوى. لكن الله وحده ألهمه أن يتحدث إلى الأستاذ الراقد على فراشه الغائب عن وعيه فى ساعاته الأخيرة فى الحياة. فقرر سلماوى أن يحدثه كما لو أنه فى كامل وعيه. تمامًا كما كان يحدثه فى بيته. لقد أمضى السنوات يحدثه فى كل ما لم يكن يستطيع قراءته أو مشاهدته.. فلماذا يتوقف اليوم وفى تلك الساعات؟