الإثنين 03 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

"ثقافة ماعت" : إبداع المصري القديم في العدل مازال مطلوبا لعالم اليوم

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعيد مؤتمر دولي تستضيفه القاهرة اليوم "الأربعاء" للأذهان ثقافة المصريين القدامى لإرساء العدل والفضيلة والصدق والحق وهي ثقافة عبرت عنها الكلمة المصرية القديمة "ماعت" والتي تبدو اليوم ترياقا مطلوبا لكثير من القضايا سواء في مصر أوعلى مستوى العالم ككل.
واختيرت "ماعت" التي تعد من أشهر المعبودات المصرية القديمة وتجسد العدالة والحق والصدق والانضباط كشعار للمؤتمر الدولي لحماية الممتلكات الثقافية الذي تستضيفه القاهرة اليوم "الأربعاء" وتنظمه وزارة الآثار بالتعاون مع وزارة الخارجية ومنظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.
وعلى أهمية هذا المؤتمر الذي يؤكد على حق كل الشعوب في حماية تراثها الثقافي والحضاري وكنوزها الأثرية وهويتها والمغزى الواضح لاختيار "ماعت" شعارا له في وقت تتعرض فيه الآثار بعدة دول في المنطقة العربية لعمليات نهب وممارسات تدمير فإن ثمة حاجة لتبني "ثقافة ماعت" المصرية القديمة في شتى مناحي الحياة.
فكلمة "ماعت" تعبر عن فلسفة ضاربة في الجذور التاريخية للمصريين فيما انتبه لها بعض كبار المثقفين في العالم المعاصر حتى إن مفاهيم مشتقة من " ثقافة ماعت" طرحت كسبيل لعدم تكرار الأزمة المالية العالمية الأخيرة بتداعياتها وتوابعها الخطيرة التي مازالت محسوسة على نحو أو أخر حتى اللحظة الراهنة.
وقد تبنت الروائية والشاعرة والناقدة الكندية مارجريت اتوود والتي يتردد اسمها بقوة كمرشحة محتملة لجائزة نوبل في الأدب، هذا المفهوم المصري القديم كسبيل للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الأخيرة فى كتاب يعبر عن العلاقة الوثيقة بين الثقافة والاقتصاد والجذور الثقافية للمشاكل الاقتصادية وخاصة اشكالية الديون.
ففى كتابها :"تسديد الديون وظلال الثروة والذي وصف بأنه من أهم الكتب التي سبرت أغوار الأزمة المالية العالمية الأخيرة توغلت مارجريت اتوود عبر التاريخ واستعارت كلمة "ماعت" من التاريخ المصري القديم كمفهوم يعنى عند المصريين القدماء العدل والفضيلة والتوازن والصدق كمبادىء حاكمة للطبيعة والكون.
وهذا المفهوم المصري القديم يتسع ليشمل أيضا السبل اللائقة التى ينبغى ان يتعامل بها الناس مع بعضهم البعض بما فى ذلك التداين اضافة للنظام الاجتماعى السليم والعلاقة بين الأحياء والموتى جنبا الى جنب مع معايير السلوك العادل والصادق والاخلاقى.
وتشمل تلاوين كلمة ماعت وظلالها الطريقة التى ينبغى ان تكون عليها الأشياء فيما يعنى عكسها ونقيضها الفوضى بالمعنى المادى والانانية والافتراء والكذب والممارسات الشريرة على وجه العموم وكل مايجافى ناموس الحق.
وهذا المفهوم الواسع حقا يربط بين التوازن في أمور البشر وبين نظام الكون..وكما تقول مارجريت اتوود بحذق فان طريق المفاهيم ليس بطريق الاتجاه الواحد واذا كان الاقتراض او الديون امر ملحوظ عبر التاريخ الانسانى فان البعض قد تطرف فى هذه المسألة فاذا بالانسان المعاصر" كائن مدين بديون ثقيلة وشاملة".
واذا كان من الصحيح انه لولا وجود مؤسسات تؤدى مهمة الاقراض بكفاءة ويسر فى الغرب لما تطورت الرآسمالية الغربية كل هذا التطور ووصلت للدرجة العالية التى بلغتها فانه من الصحيح ايضا كما تقول مارجريت اتوود ان الاعتقاد بأن الديون قد تنطوى على خطورة بقى ايضا كمكون هام فى مدركات الرآسالية على الاقل حتى وقت قريب.

غير أن العالم ينظر للديون في ظلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة باعتبارها مرادف للخطيئة فيما ترصد اتوود ملابسات النظرة السيئة للديون بقولها إنها ترجع في الحقيقة لقيام البعض بالاستدانة دون أن تكون لديهم ادنى قدرة على تسديد هذه الديون بل ان الكثيرين من المنتمين لهذه الشريحة وجدوا من يشجعهم ويغريهم على الاقتراض وتلك هي المشكلة.
وهناك أيضا حاجة "لانفاذ ثقافة ماعت" كسبيل حكيم لحل اشكاليات ديون تاريخية مثل الجرائم التي ارتكبها الاستعمار في حق الشعوب المستعمرة وتعويضها عن هذه الجرائم في وقت يتحدث فيه بعض المثقفين والكتاب المصريين عن حقوق تاريخية لمصر التي تعرض الالاف من ابنائها للموت جراء غزوات استعمارية كما دفنت ملايين الألغام في صحرائها الغربية اثناء الحرب العالمية الثانية بصورة اهدرت امكانية الاستفادة من مساحات كبيرة من أراضيها مازالت هذه الألغام التي زرعتها الأطراف الأجنبية المتحاربة مدفونة فيها بكل ماتحمله من مخاطر الموت وتعطيل التنمية.
على أن أي حديث عن إمكانية استخدام "ثقافة ماعت" كسبيل للتعويض عن مظالم تاريخية ارتكبتها قوى اجنبية ضد شعوب كثيرة من بينها شعب مصر لايجوز ان يغطي او يحجب امكانية الاستفادة من هذه الثقافة المصرية القديمة والدالة على الحكمة والعدل والحق والفضيلة "كترياق" لمظالم ارتكبتها أنظمة حكم سابقة في حق هذه الشعوب وتحولت الى "تركة سيئة".
ومن بين ألوان المظالم في هذه التركة السيئة والمنافية "لثقافة ماعت" الآداء الاقتصادى السىء وغير الرشيد والمتغافل عن الفارق الجوهري بين "النمو والتنمية" و تجاهل آراء الاقتصاديين من أصحاب الرؤى الوطنية والنزيهة والمناوئة للفساد على النقيض مما يحدث فى الدول ذات الانظمة الديمقراطية حيث تحظى هذه الكتابات باهتمام كبير من جانب مؤسسات ودوائر صنع القرار.
وكان صندوق النقد الدولى قد اعرب عن الدهشة حيال حجم الفساد الذى شهدته مصر قبل ثورة 25 يناير 2011 فيما باتت "ثقافة ماعت" كثقافة مضادة للفساد قضية ملحة بعد أن اتفقت القيادة السياسية والشارع المصري معا على أن الفساد يهدد أي مكتسبات لثورة 25 يناير-30 يونيو ناهيك عن كونه المعوق الرئيسي للتنمية الشاملة فيما تبدو القضية ذاتها مطروحة على الصعيد العالمي وكأنها "قضية الساعة مصريا وعالميا".
وفى نقده للخطاب الاقتصادى السائد يؤكد عالم السياسة الأمريكى الشهير فرانسيس فوكوياما وصاحب كتاب نهاية التاريخ على اهمية الدور الذى تلعبه الثقافة فى الاقتصاد سواء على مستوى التنمية الاقتصادية فى الداخل او الدور الذى تنهض به دولة ما فى الاقتصاد العالمى..ويركز فوكوياما على مايمكن تسميته "برصيد الثقة او رأس المال الحضارى" وهو القواعد والقيم الأخلاقية غير المكتوبة التى تتيح لأفراد جماعة ما ان يثقوا فى بعضهم البعض.
بل ان فوكوياما يجعل من "رأس المال الحضاري" مقياسا يعيد من خلاله رسم خارطة الاقتصاد العالمي، موضحا أن الدول التي تتمتع برصيد كبير من الثقة بمقدورها تأسيس كيانات اقتصادية عملاقة وذات ثقل كبير فى الاقتصاد العالمى..هكذا توقف فوكوياما عند الالتزام الأخلاقى طويلا باعتباره الطريق لشيوع الثقة بين افراد الجماعة الانسانية وكأن الرجل يتحدث عن مفهوم "الصدق والبر" بالتعبير الحضاري الاسلامي.
وفى مقاربة مغايرة للعلاقة بين الثقافة والسياسة والاقتصاد-رأى سمير أمين المفكر الاقتصادي المصري والعالمي البارز والذي اصدر كتابا جديدا بعنوان "ثورة مصر" أن ثورة يناير تشكل انطلاقة موجة مد جديدة في التاريخ المصري معتبرا أن حركة التاريخ كأمواج المد والجزر مابين ارتفاع المد الوطنى للمطالبة بالاستقلال والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وموجات الجزر التى تتراجع فيها هذه التوجهات.
واعتبر سمير أمين أن الثورة الشعبية المصرية لم تكن بعيدة عن أزمة الرأسمالية العالمية وتداعياتها مؤكدا على أهمية صياغة برنامج اقتصادى جديد كبديل لما كان سائدا من فساد واندماج سلبى فى المنظومة العالمية كما نوه بأهمية انفتاح مصر على التجارب التنموية فى بعض دول اسيا وامريكا اللاتينية وخصص فى كتابه حيزا وافيا لدراسة تجارب الدول الصاعدة والبلدان البازغة.
واذا كان العديد من المعنيين بقضايا مكافحة الفساد يتفقون على ان "الفساد بات ظاهرة عالمية " فلعل "ثقافة ماعت" التي ابدعها المصري القديم بحسه الحضاري المنحاز للحق والخير والجمال تسهم في مواجهة هذه الاشكالية ذات الطابع العالمي.
وفيما أضحت مصر تمتلك "ارادة سياسية قوية لمنع الفساد ومكافحته بجميع صوره واشكاله فانه من الواضح ان "القيادة السياسية قدمت كل الدعم لاستقلالية اجهزة الرقابة وانفاذ القانون لمنع الفساد بجميع صوره" فيما تبذل اجهزة الرقابة جهدا كبيرا في مكافحة الفساد بالتعاون مع القضاء المصري "للحفاظ على ثروات ومقدرات الشعب المصري وخلق مناخ يشعر فيه المواطن البسيط بالعدل والمساواة" لأن الفساد يشكل العقبة الرئيسية التي "تعوق الجهود الرامية لتحقيق التنمية الشاملة".
وواقع الحال ان قضية تطوير ثقافة مضادة للفساد مطروحة عالميا فيما يعكف باحثون على بحث الجوانب المتعددة لهذه القضية وفي دورية هارفارد للقانون-تناول البروفيسور روبرت باير ظاهرة تعددية انواع الفساد والوانه في سياق اهتمام امريكي واضح بهذه الإشكالية وسبل مواجهتها عبر الرقابة واستحداث لوائح جديدة الى جانب عناية ملحوظة بمسألة التعريفات للفساد ومرادفاته ومظاهره.
غير أن أهم مايركز عليه باير وغيره من اساطين القانون في السياق الأمريكي قضية كشف الفساد وسط اتفاق عام على ان الفساد يتخذ اشكالا بالغة التعقيد وقد يتخفى حتى في انبل الصور وبما لايمكن ان تصل اليه يد القانون مهما تعددت اللوائح والانظمة الرقابية.
وتتجلى هذه المعضلة في قضايا شهدتها الولايات المتحدة وغيرها من الدول بما فيها مصر حيث يكاد القاضي يجزم بأن المتهم الماثل امامه فاسد غير انه قد يحكم ببراءته للافتقار للأدلة الكافية وهي معضلة يعكف البروفيسور آدم سماحة على محاولة حلها في سياق الثقافة القانونية الأمريكية ومن منظور يقر بأن معضلة كهذه تشكل نقطة ضعف في الفقه القانوني للولايات المتحدة.
فالمطلوب ان تظهر وقائع الفساد مجسدة بوضوح في ظاهر الأوراق أمام القاضي في قضايا الفساد المتنوعة والتي باتت تشمل مجالات متعددة حقا بما فيها مسألة مثل تمويل الحملات الانتخابية وبما لايبدد ثقة المواطن في العملية السياسية ببلاده.
وكان الكاتب والباحث البارز الدكتور وحيد عبد المجيد قد اكد على ان الأراضي العامة تعرضت لعملية نهب واسعة النطاق في عهد النظام الأسبق الأمر الذي يفرض التصدي لها في بلد ابتكر المفهوم التاريخي للعدالة المعروف بالمسمى الفرعوني "ماعت".
وتبدو عملية تقصى الحقائق جوهرية فى اى نظام ديمقراطى كما تجلى فى الأزمة المالية الأمريكية الأخيرة التى تحولت لأزمة مالية واقتصادية عالمية حيث صدر ا"التقرير النهائى للجنة الوطنية حول اسباب الأزمة المالية والاقتصادية فى الولايات المتحدة" فى صورة كتاب جاء فى 545 صفحة.
وشارك في وضع هذا التقرير الذي جاء في صورة كتاب هنرى باولسون الوزير السابق للخزانة وبين بيرنيك رئيس بنك الاحتياطى الفيدرالى وتيموثى جيثنر وزير الخزانة حينئذ فيما وصف هذا التقرير فى الصحافة الأمريكية بأنه "اشمل واعمق وثيقة حول اسباب الأزمة المالية الأمريكية".
وعلى مدى عامين-عكف اعضاء اللجنة على جمع ومراكمة الأدلة المتعلقة بتورط مئات الأشخاص فى ممارسات غير مسؤولة وغير اخلاقية افضت لواحدة من اسوأ الأزمات المالية فى الولايات المتحدة والعالم فيما خلصت اللجنة ببلاغة الى ان ما حدث كان بفعل بشر غير اسوياء ولم تكن الأزمة العاتية لعنة من السماء وانما بفعل فاعل على الأرض وغياب للضوابط اللازمة فى بورصة وول ستريت مع جشع حفنة من المصرفيين.
وبناء على هذا التقرير شكلت لجنة جديدة من شخصيات قانونية واقتصادية ومصرفية بارزة باشراف الكونجرس او ممثلى الأمة الأمريكية لتنفيذ وتفعيل التوصيات الواردة فى التقرير ووضع الضوابط وصياغة معايير وقواعد جديدة تحول حدوث ازمة مالية على غرار الأزمة الأخيرة او تعريض الاقتصاد الأمريكى للخطر بعد ان تبين ان العديد من المؤسسات المالية الكبرى فى الولايات المتحدة كانت بالفعل عرضة للانهيار فى خريف عام 2008.
ولعل جوهر فلسفة هذه التحقيقات المستفيضة فى اسباب الأزمة المالية الأمريكية هو الحفاظ على ثقة الشعب فى النظام ومحاسبة كل من ارتكب اخطاء فى حق الأمة وارساء مبادىء عامة تفتح افاقا للمستقبل فيما بدت "الثقة المفقودة" جراء غياب "ثقافة ماعت" احد اسباب انهيار نظامي الحكم السابقين فى مصر.
انها مصر التاريخية التي ابدعت "ثقافة ماعت" وهي اليوم مدعوة بالحاح لاحياء هذه الثقافة بما تعنيه من التحرك بقوة لبناء ثقافة لمكافحة الفساد لأن الفساد يعني وئد الأمل وتقيح الجراح وطقوس الشك وفقدان الثقة وحشرجة الحقيقة..مصر عازمة على تبديد اسراب الظلام والفساد التي تحمحم بين الزوايا كأشباح ليل الخرائب !..بنور الفجر العنيد هاهي تغسل مالوثته خطى الظالمين "بأرض ماعت والجدود" !.