الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

المشهد الراهن للمكتبات وأزمة الكتاب الورقي

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بقدر ما يثير قيام مثقف مصري كبير في قيمة وقامة الدكتور بطرس غالي بإهداء مجموعة من كتبه النادرة لمكتبة جامعية شعورا بالإعجاب فان هذا الحدث قد يسهم في فتح ملف المشهد الراهن للمكتبات العامة والخاصة واشكالية التأثير السلبي للكتاب الرقمي على الكتاب الورقي.
فقد ضرب الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة مثلا مضيئا للمثقفين المصريين عندما أهدى مؤخرا مجموعة من الكتب النادرة لمكتبة المجموعات الخاصة والكتب النادرة بالجامعة الأمريكية في القاهرة فيما تحمل بعضها توقيعات لشخصيات عالمية بارزة مثل هيلاري كلينتون.
وحسب تقارير منشورة فقد بلغ عدد الكتب المهداة للجامعة الأمريكية 13 ألف كتاب بلغات عديدة تعد بمثابة صورة كاملة للحياة الدبلوماسية للدكتور بطرس غالي فيما تعرض بعضها حاليا بالمكتبة الرئيسية للجامعة الأمريكية.
وفي معرض تناوله لأحوال الثقافة المصرية أشار الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة لأهمية المكتبات لافتا إلى دور المجتمع المدني ممثلا في رجال الأعمال والأثرياء والقادرين في العمل الثقافي، وقال " في الدول المتقدمة يتجه القطاع الخاص إلى المشاركة في هذه الأنشطة ونجد المكتبات التي انشأها الأثرياء" مضيفا "ولكن الغريب أننا لم نسمع يوما في عصرنا الحديث أن ثريا مصريا أقام مسرحا أو أنشأ مكتبة".
وقد يمكن وضع قضية المكتبات ضمن سؤال كبير طرحه الكاتب والباحث المرموق نبيل عبد الفتاح وهو "ماقيمة ومعنى المعرفة في مجتمع ودولة لايأبها بها؟..هل يمكن لدولة أن تتطور في مجالات التقنية وتستوعب ثوراتها الرقمية والمعلوماتية دون تكوين ورؤية وبنيات ولغة معرفة؟".
كما تساءل نبيل عبد الفتاح في سياق إشارات للمكتبات الرقمية "هل الاختزالات في اللغة الرقمية وايجازاتها تبني جدارا عازلا بينها وبين الكتابة الفلسفية والمعرفية والسوسيولوجية والقانونية والسياسية الورقية".
وإذا كان الأديب المصري الخالد توفيق الحكيم قد عمل رئيسا لدار الكتب المصرية بين عامي 1951 و1956 فان المبدع الأرجنتيني الفذ خورخي لويس بورخيس وصاحب مقولة:"أن الله منحني الكتب والليل" كان قد عمل لفترة أمينا للمكتبة الوطنية في بيونس ايريس ولعلها كانت قبل أن يتدهور نظره على عتبة الـ50 عاما حتى بات كفيفا.
وعن العلاقة الوجدانية بين القراء والمكتبات الخاصة والعامة يستعيد الدبلوماسي السابق والمحلل السياسي والكاتب اللامع جميل مطر تجربته الخاصة منذ أن كان شابا صغيرا فضلا عن "تجارب عديدة مع رواد مكتبات خاصة وعامة في الهند والصين والأرجنتين والولايات المتحدة وبريطانيا" مضيفا "هناك بالتأكيد علاقة تنشأ بين الفرد والكتاب وهي علاقة ثقافية وعاطفية".
وقد يشارك كثير من عشاق الكتب الورقية الأستاذ جميل مطر في مشاعره وهو يقول بعد أن استعاد تجربته الخاصة مع الكتاب وروائح الورق والصمغ والجلد الذي كانوا يغلفون به الكتب الثمينة، قائلا" أعرف أنني وكثيرون غيري لن تتاح لهم الفرصة في المستقبل ليستمتعوا بمثل هذه الرائحة أو اللحظة، فالكتب الرقمية التي تحل محل الكتب الورقية لنقرأها على شاشة الكمبيوتر لارائحة لها ولاملمس واعترف انني فشلت في إقامة علاقة عاطفية مع أي منها".
وواقع الحال أن القضية قد تتجاوز حتى المشاعر الحميمة لقاريء عاشق للكتاب الورقي مثل جميل مطر حيث بات الكتاب الرقمي أو المكتبات الإلكترونية تؤثر بشدة على المكتبات العامة ثم انها قضية مثارة في الغرب منذ عدة سنوات.
وفي بلد مثل فرنسا بات الكتاب الرقمي عنصرا لايمكن تجاهله في المشهد الثقافي بينما يعاني الكتاب الورقي من أزمة انخفاض مبيعاته كما كشفت دراسة اجراها مؤخرا معهد "جي اف كا" مع صحيفة الفيجارو بينما تحولت دار النشر الإلكترونية "امازون. كوم" إلى علامة أمريكية مثيرة للاعجاب في عصر الثورة الرقمية التي تعد الولايات المتحدة صاحبة القدح المعلى فيها.
وتشكو مكتبات بريطانية من غزو "امازون.كوم" الذي يصل لحد الاجتياح في بلد يتوالى فيه اغلاق المكتبات العامة ويتراجع عدد زوار هذه المكتبات عاما بعد عام. 
ففى عام 2012 اغلقت أكثر من 200 مكتبة عامة في بلد كبريطانيا أبوابها فيما انخفضت نسبة زوار المكتبات العامة في العام ذاته بنحو اثنين ونصف في المائة حسب إحصاء رسمى نشرته صحيفة "ذى جارديان" ولم يكن الحال افضل في الولايات المتحدة حيث توالت تقارير صحفية كادت أن تكون بمثابة المرثية الأخيرة لهذه المكتبات التي تعانى بدورها من الاغلاق فضلا عن المنافسة الشرسة من جانب الكتب الإلكترونية على شبكة الإنترنت.
وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت حينها حتى تستمر المكتبات العامة مفتوحة وتستقبل القراء هاهى المحصلة تبعث على الأسف خاصة وان معدل اغلاق المكتبات يتصاعد عاما بعد عام فيما يقدر عدد المكتبات العامة في بريطانيا عام 2012 ب4265 مكتبة بعد أن كان مجموعها يصل إلى 4612 مكتبة في عام 2010.
واستمر هذا الاتجاه في بريطانيا وزيادة عدد المكتبات المغلقة رغم أن نشطاء ثقافيين يشنون حملات مكثفة للحيلولة دون استمرار هذا الاتجاه الذي يهدد في نظرهم التراث الثقافي لبريطانيا.
والغريب أن يتزايد معدل إغلاق المكتبات العامة في بلد كبريطانيا رغم أن نسبة المتطوعين للعمل في هذه المكتبات وخاصة تلك المكتبات التابعة للمجالس المحلية تتزايد حسبما توضح الإحصاءات.
وأهم سبب لهذه الظاهرة المؤسفة يرجع إلى الكتب الرقمية بجانب سياسات التقشف واتجاه السلطات المحلية لخفض نفقاتها رغم أن جمعية المكتبات الكبرى في بريطانيا لاحظت أن المكتبة العامة لم تعد مجرد مقصد لاستعارة الكتب وانما هي ملتقى ثقافى بامتياز ومكان للقراءة والبحث والتفاعل وتكوين صداقات بين القراء تبدد العزلة التي يعانى منها الإنسان الغربى المعاصر في زمن مابعد الحداثة.
وفى سياق استنكاره لتصاعد ظاهرة اغلاق المكتبات في بريطانيا- يقول الكاتب المسرحى بيلى ايليوت "لقد ناضل الرجال والنساء جيلا بعد جيل من أجل الحق في القراءة والنمو الثقافي والفكري والاجتماعي"، مضيفا "أنه تراث تراكم عبر عقود وعقود حتى أثمر وهاهو الآن مهدد بالضياع".
واعتبر بيلى ايليوت أن اغلاق المكتبات يعنى ازدراء الثقافة وافقار الفكر فيما كان الكاتب المصرى الراحل محمد مستجاب قد لمس منذ سنوات أزمة القراءة والمكتبات العامة في مصر، مؤكدا على أن ثمة حاجة واضحة لخلق نوع من الألفة بين الناشئة والشباب وبين الكتاب عموما والكتاب الثقافى على وجه الخصوص فيما لايجوز بأي حال من الأحوال أن تفرض البيروقراطية سطوتها على المكتبات العامة لتتحول إلى مجرد مخازن للكتب أو "عهدة يخشى أمين المكتبة من ضياعها".
فالقضية كما أشار الراحل مستجاب بلغته الساخرة والمحببة ليست مجرد وجود مكتبات عامة بقدر ماهى مدى قابليتها للقيام بوظيفتها الثقافية بعيدا عن اللافتات أو احتفاليات افتتاح المكتبات وفى هذا السياق فان المكتبات العامة في المناطق الشعبية والريفية لاتحتاج فقط لقراء من الأجيال الجديدة وانما هي أيضا بحاجة لادارات ذات وعى بأهمية القراءة والفهم والمناقشة.
واذا كان من الواضح لكل ذى عينين أن أزمة المكتبات العامة كما رصدها محمد مستجاب منذ سنوات مازالت مستمرة إلى حد كبير فعلى هذه المكتبات أن تفتح ابوابها لجمهور القراء في مواعيد مناسبة للقراء مع الأخذ في الاعتبار بأن ممارسة القراءة الحرة للطلاب تكون خارج اطارالروتين المدرسى وتزداد كثافة في الإجازات الأسبوعية والموسمية.
فالمكتبات العامة "كبيوت دافئة للقراءة" لها أن تراعى متطلبات وظروف القراء وان تتحرر بعض الشىء من القواعد البيروقراطية الجامدة لتتحول إلى مؤسسات فاعلة ذات تأثير ايجابى لا"مجرد عهدة حكومية كلما قل استعمالها قلت اخطار تبديدها ويتمنى القائمون عليها الا يمس كتبها أحد".
ويبدو أن هناك حاجة لاستعارة المفهوم الذي تتبناه جانين كوكس رئيسة جمعية المكتبات الكبرى في بريطانيا حول الأدوار الجديدة للقائمين على إدارة المكتبة العامة حيث باتت هذه الأدوار ذات طابع تفاعلى ودينامى مع الزوار بعيدا عن سلبية الاكتفاء بالدور البيروقراطى أو تعليمات اللوائح القديمة للمكتبات العامة.
أنه مفهوم "المنافع الاجتماعية للمكتبات العامة" كما تسميه ميراندا مكيرنى رئيسة هيئة تشجيع القراءة في بريطانيا وهو مفهوم قد يكون مفيدا في بلد كمصر حيث تواجه حتى المكتبات الخاصة للشخصيات الثقافية الرفيعة المستوى مشاكل جمة في حالة الوفاة أو المرض.
وكانت الإعلامية كريمان حمزة قد أوضحت أن مكتبة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد-شفاها الله وعافاها- معرضة للضياع وتساءلت: "هل نترك هذا العمل الفنى العالمى تأكله عوامل التعرية معتبرة أن هناك حاجة لجهة مصرية تعرف قدر صاحبة المكتبة وتحولها إلى "مركز اشعاع ثقافى-سياحى عالمى".
واعادت كريمان حمزة للأذهان أن الدكتورة نعمات أحمد فؤاد التي وصفتها "بالكاتبة والأديبة والشاعرة والفنانة والمناضلة" هي صاحبة ستين مؤلفا وثلاث موسوعات فيما سردت معالم هذه المكتبة الخاصة بتصميمها الفنى الفريد بمزيج فرعونى وإسلامى والتي تحوى نفائس الكتب وكنوز التراث والحضارة الإنسانية على مر العصور.
لانريد مكتباتنا العامة مهجورة متروكة أو مغلقة !..لانريد الكتاب في رفوف لاترى !..وفي بلد كمصر مازال للكتاب الورقي عشاقه رغم "صفير الغاشية" للكتاب الإلكتروني !..صحيح أن الكتاب الورقي يتأثر سلبا بالكتاب الرقمي لكن المؤكد أن المرثية الأخيرة للكتب الورقية لم يحن وقتها بعد.