الإثنين 27 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أطفالنا بين التلقائية و التدريب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تتوالى مراحل النمو النفسي وتتشابك بحيث يصعب تحديد نقطة زمنية معينة قاطعة تنتهى عندها مرحلة لتبدأ مرحلة جديدة، والاجتهادات العلمية المتخصصة لتناول هذه المشكلة عديدة تفوق الحصر، ولسنا بحال في مجال التعرض لها، ما يعنينا هو الإشارة إلى حقيقة علمية مؤداها أن انقضاء مرحلة معينة من مراحل النمو النفسي لا يعنى اندثار ملامحها تماما، بل أنها تظل قائمة بشكل أو بآخر فيما يليها من مراحل، وهكذا حتى نهاية العمر.
ولقد حظيت قضية التنشئة الاجتماعية باهتمام فلاسفة ومفكري العلوم الإنسانية منذ القدم، ففي القرن السادس قبل الميلاد أرجع الفيلسوف الصيني كونفوشيوس فساد نظام الحكم إلى غياب المواطنة الصالحة بسبب عجز الأسرة عن تلقين الفضيلة والحب المتبادل والمصلحة العامة، لهذا دعا جهاز الدولة إلى تحمل مهمة تعليم الناشئة ابتغاء خلق نظام اجتماعي سليم يتأتى معه قيام حكم صالح.
كذلك ذهب أفلاطون في كتابه "الجمهورية" إلى اعتبار التعليم واحدا من أهم أعمدة الدولة الفاضلة وكرس أرسطو الكتاب الأخير من " السياسة " للحديث عن التربية جاء فيه أنه ضمن واجبات الحاكم أنه يهتم غاية الاهتمام بأمر تربية النشء وفي العصر الحديث نبه روسو إلى تأثير الثقافة والتنشئة الاجتماعية على نظام الحكم في الدولة وسياستها العامة، فضلا عن إشارات ابن خلدون والعديد من المفكرين العرب.
ويشير مفهوم التنشئة الاجتماعية بصفة عامة إلى تلك العملية المستمرة التي تهدف إلى غرس وتكريس أو تعديل وتغيير مجموعة من القيم والاتجاهات والسلوكيات والرموز الاجتماعية أو الاجتماعية ذات الدلالة الاجتماعية لدى المواطن، وهي بذلك عملية مستمرة تلازم الفرد منذ طفولته المبكرة حتى وفاته وتقوم على عمليات التلقين والتعليم لقيم واتجاهات معينة للمواطنين وذلك من خلال اشتراك مجموعة من المؤسسات منها المدرسة والأسرة وجماعة الرفاق وكلها مصادر تعتمد أساسا على الاتصال الشخصي مضافا إليها وسائل الاتصال الجماهيري الأخرى مثل الراديو والتليفزيون، والصحافة، والسينما وغيرها.
التنشئة الاجتماعية بعبارة أخرى عملية يتم بموجبها تلقين الأطفال القيم والمعايير السلوكية المستقرة في ضمير المجتمع بما يضمن بقاءها واستمرارها عبر الزمان، إنها في أوسع معانيها إنما تشير إلى كيفية نقل الثقافة الاجتماعية للمجتمع من جيل إلى جيل، إنها التلقين الرسمي وغير الرسمي، والمخطط وغير المخطط للمعارف والقيم والسلوكيات الاجتماعية وخصائص الشخصية ذات الدلالة الاجتماعية وذلك في كل مرحلة من مراحل الحياة، عن طريق المؤسسات الاجتماعية القائمة داخل المجتمع.
التنشئة الاجتماعية في النهاية عملية تعلم الأفراد للأفكار والاتجاهات والسلوكيات الاجتماعية السائدة في المجتمع والتي تمكنهم من التكيف مع الآخرين. إنها اكتساب الفرد للاتجاهات والقيم الاجتماعية و الاستعدادات السلوكية التي تتفق مع استمرارية قيام الجماعات والنظم الاجتماعية بأداء الوظائف الضرورية للحفاظ على وجودها.
و يعرف البعض التنشئة الاجتماعية بأنها تلك العمليات التي يكتسب بواسطتها الطفل هويته القومية المحددة، ومن خلالها تتكون استجاباته و إدراكاته ووعيه وعاطفته، أي أنها العملية التي يتم من خلالها جذب الأفراد إلى ثقافة الجماعة وتشكيل اتجاهاتهم نحوها، إنها العملية التي يكتسب الأطفال عن طريقها المعرفة من أجل المشاركة في الحياة المتقدمة في مجتمعهم السياسية.
وتقوم عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال من خلال أدواتها المتنوعة بتحقيق عدد من الوظائف في مقدمتها تهيئتهم للمشاركة في تشكيل مستقبل مجتمعاتهم، وتمارس عملية التنشئة الاجتماعية دورها في تشكيل أطفال المجتمع بما يخدم الأهداف المرجوة من خلال تلك المؤسسات الاجتماعية التي يفضل البعض أن يطلق عليها تعبير "أدوات التنشئة الاجتماعية". و تتمثل أهم تلك المؤسسات في: مؤسسة الأسرة، والمؤسسات التعليمية، والمؤسسات الإعلامية، ولعله من المناسب أن نطل إطلالة سريعة علي كل من تلك الأدوات أو المؤسسات باعتبار أنها في النهاية هي التي تتولي إعداد الطفل لمواجهة تحديات مجتمع المعرفة.
1- مؤسسة الأسرة
يندر أن نجد كتابا أو مقالا يتناول عملية التنشئة الاجتماعية دون أن يؤكد أن الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى التي ينشأ فيها الطفل، ومنها يبدأ اتصاله بالعالم المحيط به، و من ثم تعد الأسرة واحدة من الأدوات الرئيسية الأساسية في عملية التنشئة, نظرا لما لها من تأثير يمتد ليترك بصماته علي كل الأدوات الأخرى، مثل جماعات الرفاق، والمدرسة، والسلطة، ووسائل الاتصال وغيرها.
و يستند أصحاب ذلك الفكر في تغليبهم لدور الأسرة علي حقيقة ذات طابع فيزيقي اجتماعي. فالوليد الإنساني، وبحكم تكوينه الفيزيقي، يولد عاجزًا عن كفالة حياته لنفسه. إن وليد الإنسان هو أضعف الصغار على الإطلاق، إنه أضعف من وليد أي كائن آخر، فهو يعتمد على الكبار في بداية حياته اعتمادًا مطلقًا. مستخلصين من تلك الحقيقة أن الأسرة تظل لسنوات عديدة بمثابة المصدر الوحيد الذي يشبع للطفل حاجاته البدنية، والعقلية، والنفسية، والاجتماعية، ومن ثم فإنها أي الأسرة تقوم بتشكيل الطفل وفق ما تراه مناسبًا من اتجاهات وقيم وعادات وتقاليد.