السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مصطفى بيومي.. حجر كريم متعدد الألوان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عدت من موسكو ١٩٨٧ إلى مدينتى المنيا، كانت المنيا بالفعل «إمارة الإرهاب» بحثت عن مكان قد أجد فيه مستنيرين يقاومون الإرهاب بالأدب والشعر والفن، كان قصر ثقافة المنيا لا زال فى ميدان عبدالمنعم الشرقى بقصر لأحد باكوات مصر الملكية حسن بك سلطان، فى احدى القاعات كان الشعراء يلقون قصائدهم، لفت نظرى شاعر شاب يلقى قصيدة ذات طابع ثورى، بعد اللقاء تعرفت عليه عبد الرحيم على، كان هذا الشاعر الشاب مفتاح اللقاء مع مجموعة متفردة من استخدام الثقافة فى مقاومة الإرهاب، واصطحبنى الى الطابق الثانى من منزل فى شارع مصطفى فهمى وبجوار المطافئ، حيث كان يقيم فى ذلك الوقت (عرفت فيما بعد أن منزله ومنزل عائلته فى شارع ابن خصيب). 

بالمنيا، انفتح الباب، شاب فى ثلاثينيات العمر يحمل رأس فرعونية وعينين مضيئتين كعيون شخوص الفيوم، رحب بنا وكان صاحب المنزل مصطفى بيومى وعرفنى على باحث فى الأدب عادل الضوى، لم أكن أدرى ان هذه الشقة هى منبع نهر المقاومة الثقافية ومحراب تلاقى المثقفين الذين يحلمون بالمعرفة وتلمس الطريق للكتابة الأكاديمية إلا أن اختيارات مصطفى لهم كانت تجذبهم للبحث عن التغيير من خلال الادب واختيار الدراسات الأكاديمية كطريق للاستنارة.

 حتى الآن كلما مررت على هذا المكان اتذكر قول الشاعر إبراهيم ناجى: "هذه الكعبة التى كنا طائفيها والمصلين صباحا ومساء.. كم سجدنا وعشقنا الحسن فيها كيف بالله رجعنا غرباء "، مصطفى بيومى ابن لأب شاعر من البهنسا، قرية بالمنيا.. تعد قبلة العاشقين من مختلف الدول لأنها دفن بها ٥ آلاف صحابى غربا بجوار مسجد«على الجمام» حيث تقع جبانة المسلمين التى يوجد فيها وحولها عدد كبير من القباب والأضرحة التى تنسب للصحابة والتابعين والعلماء الذين زاروا البهنسا.

 ولا يبعد منزل مصطفى بيومى كثيرا عن مسجد سيدنا الفولى وكنيسة مار جرجس فتجمعت فيه كل معانى مصر وأبعادها وفاضت تلك الأبعاد فى أدبه وكتاباته. ‎

أتذكر لقائى مع الكاتب والشاعر العم بيومى ١٩٨٨ وأجريت معه حوارا لمجلة "أدب ونقد" وكيف كتب نشيد المنيا وبه: "ومن البهنسا موطن الشهداء.."، من ذلك الرحم الذى يضم مصر الفرعونية والقبطية والإسلامية تشكل وعى مصطفى مثل الحجر الكريم كلما سقط على شعاع ضوء يعكس لونًا مختلفًا فهو كاتب وناقد وروائى وشاعر وفنان ومفكر، ورغم أن من الملاحظ أن مصطفى يحب الأدب الروسى خاصة تشيكوف فى جزالة لغته ومخزون الحزن، إلا أنه فى رقة أسلوبه العاطفى اقرب إلى الروائى الروسى إيڤان سيرجييفيتش تورجينيف. 

كان إيفان تورجينيف مشهورا عالميا بكتابة الرواية والمسرحيات والقصص القصيرة والشعر، ومن أعظم أعماله القصصية هى مجموعة قصص قصيرة بعنوان مذكرات صياد وهى تمثل ركن الرواية الروسية الواقعية، وكما تعد رواية الآباء والبنون من أعظم روايات القرن التاسع عشر، نجد ذلك التشابه بين مصطفى وتورجينيف فى التفاصيل المكانية وربطها بالطبيعة والواقع. 

كما أن مصطفى بيومى كناقد موسوعى كنت أرى فيه الناقد الروسى الموسوعى بلينسكى، فى نظريته الأدبية "الأحلام الأدبية" حيث كان مصطفى مثل بلينسكى يفتش فى أعماق النص وتبحر فى أعماق روايات نجيب محفوظ وغيره مما كتب عنهم ويتطابق مع بلينسكى فى نقدة فيما يتطلب من الرواية أو الدراما أن تعكس عادات الجمهور العامة ومفاهيمه ومشاعره. 

أما إذا اقتصرت على تصوير مجتمع الطبقة العليا فإنها تظل وحيدة الجانب وقد ظهرت الروح الشعبية: وبداية الاتجاه الشعبى فى الأدب عند مصطفى فى شعره كما تم مع بلينسكى، وكما حلل بلينسكى الأدب الروسى فى القرن الثامن عشر حتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر انطلاقا من مبدأ الشعبية، حلل مصطفى بيومى الرواية المصرية والعربية حتى نهاية القرن العشرين واستند فى ذلك على فكرة ظهور الأصالة الأدبية المنبثقة من أساس شعبي، فأدى به طرح السؤال من هذه الزاوية إلى نفى وجود أدب قومى أصيل. أحدثت "الأحلام الأدبية دويا كبيرا فى الأوساط الثقافية باعتبارها حدثا جديدا فى النقد الأدبي. 

كما لقيت الإعجاب والإكبار عند طائفة من القراء والنقاد فإنها قوبلت بالصدود والهجوم لدى نفر آخر ولكنها فى كلتا الحالتين عززت مكانة بيلينسكى الأدبية وأصبح يحتل منزلة منفردة فى الحياة الأدبية. 

ما ميّز بيلينسكى أنه كان فى تطور وتغير مستمرين فى مسيرته النقدية، فمفاهيمه لا تتسم بالثبات والجمود بل مرت بحقب شهدت تغيّرات ملحوظة فى دراسته للأدب وتحليله له. 

وينطبق عليه قول جورج واتسون فى هذا الشأن "إن استراتيجية الناقد فى ميدانه كاستراتيجية أى قائد محنك، هى التغيير والتبديل وفق حاجة اللحظة".

 وهكذا جمع مصطفى بين الأسلوب الوجدانى لتورجينف وعبقرية النظرية فى النقد الادبى الموسوعى لبلينسكى. 

نعود إلى المنيا والسيرة البيومية، كان مصطفى بيومى هو رأس مثلث المقاومة المكون من أضلاعه عبدالرحيم على وعادل الضوى، مئات الباحثين وطلاب الادب كان يحجون إلى ذلك المنتدى ما بين البيت ومكتبة "شعاع" التى اسسها مصطفى إضافة إلى أول دار نشر بالمنيا فى زمن الإرهاب تحت اسم "بداية" التى أفلست بعد طبع كراسات بداية والتى كان منها أول ديوان شعر للشاعر الشاب عبد الرحيم على، ولم تكن هذه الآليات سوى واجهة لنشاط سياسى يقوم على تغيير الوعى والاستنارة لمواجهة الإرهاب. منذ ١٩٨٨، انضوى مثلث مصطفى وعبدالرحيم وعادل إلى حزب التجمع.

كان مقر التجمع مجاورًا لمسجد الرحمن مقر الجماعة الاسلامية، وكان مركز الجزويت الثقافى الذى كان يشغل مصطفى مستشاره الثقافى فى مواجهة مسجد الرحمن أيضًا. جذب مصطفى اغلب مثقفين وفنانين مصر مثل اسامة أنور عكاشة وآخرين فى ندوات جمعت المئات من الشباب وساعدت فى تكوين الوعى لهم، هكذا كان مصطفى بيومى "مثقف عضوى" على غرار ما كتب المفكر الايطالى "جرامشى". 

ولم تخل دراساته الاكاديمية من علاقة الادب بالتغيير، وحصل على ماجستير الصحافة عن رسالة "الكتابات الصحفية ليحيى حقى وقضايا التغير الاجتماعى فى مصر". فخور بمعرفة مصطفى بيومى وأشكره على قدر ما تعلمت منه.