الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

إبراهيم ناجي: اليسوعيين والضمير الخفي في تربية الضمير الإنساني المصري

ارشيف
ارشيف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أظهرت جنازة الأب وليم سيدهم اليسوعي عصر يوم السبت ١٣ مايو ٢٠٢٣ وما أعقبها من قراءات مختلفة منشورة عبر وسائط التواصل الاجتماعي وعبر مختلف الصحف الرقمية والمنشورة، الوجه الخفي للآباء اليسوعيين في مصر، وبشكل استثنائي دورهم في تربية الضمير الإنساني المصري في الفترة ما بين  1879 يوم وطأت أقدام أول يسوعي الأراضي المصرية وحتى اليوم على الرغم من انتشار ظاهرة المؤسسات التعليمية الخاصة والدولية مع بدايات القرن الحادي والعشرين.

يوم جنازة الأب وليم سيدهم ظهر العمل الخفي الذي كان يقوم به هذا الإنسان تجاه الكثير والكثير من الغير معروفين والذين اجتمعوا لوداعه والكثير منهم لا يعرف بعضهم البعض، ولكن ما لم شملهم جميعاً هو معرفتهم بالأب وليم وتأثير الأب وليم عليهم. 

لم يكن أبونا وليم راهباً عادياً، كما ان الرهبانية اليسوعية الغير تقليدية في جسد الكنيسة الكاثوليكية العالمية. يكمن السر خلف الدور الاستثنائي لليسوعيين في مصر على الرغم من ندرة عددهم وندرة مؤسساتهم التربوية والثقافية والاجتماعية بالقاهرة والاسكندرية والمنيا وحتى سنوات قليلة بالأقصر، هو نذر العمل الخفي اليومي الذي يقومون به لخدمة الجميع دون انحياز أو تمييز او تعلق بشيء. هكذا كانت الروحانية التأسيسية "المبدأ والأساس" للقديس اغناطيوس دي لويولا مؤسس الجماعة الرهبانية اليسوعية منذ حوالي ٥٠٠ عام. ومن ثم فارسالية اليسوعيين حيثما وجدوا تتخطى حدود المألوف والتقليد الرهباني المتعارف عليه، مع عدم الإخلال بنذور الرهبنة الأساسية الثلاثة الفقر والطاعة والعفة.

يكمن سر اليسوعيين الخفي في تربية الضمير الإنساني بشكل عام وفي مصر بشكل خاص في امرين، الاول هو مباديء الروحانية الأغناطية للقديس اغناطيوس دي لويولا مؤسس الرهبانية اليسوعية حيث النزعة الانسانية في التربية، بالإضافة إلى النموذج الفريد والاستثنائي في الخدمة والرسالة وهو ما يجذب الناس دوماً بغض النظر عن اطيافهم وطبقاتهم ودياناتهم وطوائفهم لمحبة اليسوعيين والإعجاب بهم، لعل هذا يوضح سر التوليفة الاستثنائية التي احتفلت بالاب المحبوب وليم سيدهم يوم وداعه بكنيسة مدرسة العائلة المقدسة بالفجالة.

الأمر الأول المؤثر في تربية الضمير لدى الآباء اليسوعيين مُستلهم من افتتاحية الرياضات الروحية الأغناطية للقديس إغناطيوس دي لويولا والتي يوضح فيها القديس اغناطيوس نظرته الشاملة للانسان في علاقته بالله وبالآخرين وبالعالم والمجتمع وبالأحداث والظروف وبذاته، كتب اغناطيوس: "خُلق الانسان ليسبح الله ويكرمه ويخدمه .... حتى اننا من جهتنا لا نفضل الصحة على المرض، ولا الغنى على الفقر، ولا الكرامة عى الهوان، ولا طول الحياة على قصرها...بل نطلب ونختار ما يزيدنا الى الغاية التي لأجلها خُلقنا".

في كتابة الموسوعي عن "اليسوعيين في مصر" الصادر في العام 2020، يؤكد الفيلسوف المصري اليسوعي الأب وليم سيدهم على ان اليسوعيين. 
طوال تاريخهم التربوي الحافل يستهدفون الانسان ككل بغض النظر عن بيئته او وضعه او فلسفته او معتقده او جنسه او لونه، فالانسان هو مدار اهتمامهم بحسب الاب سيدهم، وليس الانسان بديانته او طائفته او ايدولوجيته.  من هنا يمكننا ان نفهم كيف استقطب مشروع الاب وليم سيدهم اليسوعي جمعية النهضة العلمية والثقافية "جزويت القاهرة" وبدون تمييز شباباً وفنانين وطامحين وربما مشردين ومن لاهوية لهم  ليستكشفوا بضمائرهم الطريق نحو حرية الاختيارات والافعال والإبداع والتعبير.

في كتيبه القيم للغاية "مفهوم التربية عند اليسوعيين" والذي نقله للعربية الاب صبحي حموي اليسوعي، يقدم الاب جان دالمه اليسوعي ابعاد النهج التربوي اليسوعي بأعتباره نهج تكوين شامل يستهدف ثلاثة ابعاد؛ البعد الاول وهو البعد الشخصي المتمثل في جسد الانسان وعقله ووجدانه وارادته ومخيلته وحسه الذوقي الفني وبالتالي حريته حتى يتمكن من ان يصير فاعلاً ومسؤلاً ومشاركاً في تنشئة ذاته وليس كمفعولا به يتلقى المعلومات العلمية والتعليمات التربوية بلا مبالاة. هذا ما دفع الانسان للمزيد نحو مجد الله الاعظم الذي هو شعار الروحانية الاغناطية واليسوعيين حيث السعي المستمر وراء التجديد المتعمق.

البعد الثاني وهو البعد الاجتماعي حيث ان التربية اليسوعية تركز على محبة الاخرين وخدمتهم دون الارتكان للانعزالية، وهو ما اكد عليه الاب بدرو اروبه الرئيس العام السابق للرهبانية اليسوعية في سيتينيات وسبعينات القرن العشرين عندما تحدث عن "تكوين اشخاص من اجل الاخرين." وعليه فالتربية اليسوعية لا تستهدف تكوين عدد كثير من الاشخاص السلبين المتلقين، ولا تكتفي بتكوين مواطنين صالحين او موظفين اوفياء او اكفاء فقط، بل تستهدف بناء مجتمع انساني وبشري اكثر عدالة واحترامة لكرامة وحرية وضمائر اعضائه، حيث السعي لخدمة الفقراء والمهمشين والمنبوذين والمرفوضين والذين لا صوت لهم.

البعد الثالث وهو البعد الروحي والذي يستهدف تكوين اشخاص يؤمنون بالله على الرغم من اختلاف اديانهم وطوائفهم، حيث ايمانهم الذي توارثوه من ابائهم واجدادهم يلهم حياتهم كلما تعمقت شخصياتهم فيه ليصير واقعاً ايمانياً شخصياً يقبل وينفتح على ايمان الاخرين. ومن ثم يتحقق شعار اليسوعيين "لمجد الله الاعظم" الذي يعبرون عنه دوماً في كل انشطتهم التربوية والروحية والاجتماعية والثقافية والانسانية والتنموية بتمجيد الله واكرامه في كل شيء، حيث الله في كل شيء وكل شيء في الله.

الامر الثاني في سر تربية اليسوعيين هو النموذج الفريد الجذاب الاسثنائي احياناً والخفي احياناً اخرى الذي يعمل من خلاله هؤلاء الرجال اتباع اغناطيوس دي لويولا لاجل خدمة الله الاعظم بالطريقة التي تجعل منهم محبوبون في حياتهم كما في مماتهم. بلغ عدد اليسوعين حول العالم يوم وفاة القديس إغناطيوس دي لويولا في العام 1556 قرابة الألف يسوعي؛ موزعين على اثنى عشر أقليمًّا. وبلغ عددهم في العام 1615 قرابة 13112 يسوعيًّا في اثنين وثلاثين إقليماً، وتضاعف هذا العدد في منتصف القرن الثامن عشر. أصبح عدد اليسوعيين في العالم ستة وثلاثين ألف يسوعي بحلول العام 1965. واليوم تشكل الرهبانية اليسوعية أكبر تجمع رهباني فاعل للرجال في جسد الكنيسة الكاثوليكية؛ منتشرًا في مئة واثني عشر دولة في قارات العالم الستة.

في مصر ربما لم يتجاوزعدد اليسوعيين يوماً الخميسن راهباً واباً ومعلماً ومرشداً تربوياً ومرافقاً روحياً، ولكن تأثيرهم وحضورهم وارساليتهم وجذابية روحانيتهم التي يعكسونها في بساطة افعالهم وقوة افكارهم هو الذي لا يزال يضفي على هذه الحركة الرهبانية الكثير والكثير من المزيد الانساني ويدفع من يعرفهم الى الرغبة في التعرف عليهم اكثر واكثر فقط اذا ما سمع عنهم او تحدث الى احدهم. ليس غريباً ان المتميزين والمبدعين والمجتهدين في مختلف مجالات العمل العام في مصر على مدار النصف الثاني من القرن العشرين وربما بدايات القرن الحادي والعشرين كانوا قد تتلمذوا او تدربوا او اختبروا علاقة مباشرة في احد مدارس الاباء اليسوعيين او جمعياتهم التنموية او مؤسساتهم الثقافية او ارسالياتهم الانسانية، حيث ترك اليسوعيين في ضمائر هؤلاء جميعاً بصمة انسانية وتربوية تظل تنادي اصحابها دوماً عند اختباراختيار مختلف القرارات الانسانية والمهنية والاخلاقية في حياتهم كما في عملهم.

يوضح تأثير النموذج الشخصي اليسوعي هذا احد اشهر اليسوعين اليوم، البابا فرنسيس، اول يسوعي يتم انتخابه لقيادة الكنيسة، وبالاحرى لخدمتها، والذي بسببه ضج اليسوعيين انفسهم ممن لا يعرفون الرجل يوم انتخابه، حيث لم يكن يتصور اليسوعيين وربما المؤسس القديس اغناطيوس دي لويولا ذاته ان يصبح احداً من تلامذته حبراً اعظم في يوماً من الايام.

في كتابه "لماذا يقود البابا فرنسيس الكنيسة بالطريقة التي يقودها بها؟" يطرح كريس لاوني ما كان يقوم به الأب خورخيه ماريو بيرجوليو اليسوعي –البابا فرنسيس- وما كان يقدمه من نموذج في الإدارة والعمل مع الناس وتكوين القادة وقتما كان عميداً للجامعة اليسوعية بحي سان ميغيل ببيونس ايريس عاصمة الارجنتين في بداية الثمانينيات من القرن العشرين. يكتب لأوني قائلًا: "تلك الأقدام المُتَّسِخة- التي لبيرجوليو في حظيرة الخنازير وفي مزرعة الجامعة- شكلت أمرًا حيويًّا وخطيرًا في طريقة قيادته؛ وهو قدرته على البقاء متصلًا مع الأخرين، التعامل مع الواقع، قبول المسألة عن الأفعال والقرارات، وإدراك أننا كبشر جميعنا مُتصلون معًا اتصالًا وثيقًا؛ سواء على مستوى المجتمع المحلى أو العالمي. العديد مِنّا - في مواقع قيادية - من السهل أمامهم "ألا يصيروا بين الآخرين" - ينقطعون وينفرون وينعزلون- عن الواقع الموجود على الأرض. ربما نقوم بإدراة العشرات من الناس ولكن نعرف القليل عن حياتهم الخاصة ومعاناتهم." يستطرد لاوني مقتبسًا رثاء جيف سونى فيلد الاستاذ بجامعة يال لإدارة الأعمال عن حال المدراء اليوم قائلًا: "المدراء التنفيذيون اليوم منعزلون ومدللون ومترفعون عما قبل". 
في حين كان خورخيه بيرجوليو عميدًا للجامعة اليسوعية وكان أيضًا ‘هو المسئول عن المغسلة ببيت الجماعة اليسوعية.‘ يتذكر احد اليسوعيين حينها ما كان يقوم به الاب بيرجوليو عند الخامسة والنصف صباحًا، حيث كان يقوم بأدخال الملابس في الغسالتين الكبيرتين  بمقر اقامة الدارسين بالجامعة، كان هناك الكثير من الملابس، تقريبًا هناك أكثر من مئة شخص.

يضيف كريس لاوني :"إن الرجل - الذي أصبح البابا، الآن كان يقوم بإطعام الخنازير ويغسل الملابس وقتما كان يدير الجامعة." ومن ثم وبحسب لاوني، جعل بيرجوليو الدارسين اليسوعيين حينها يسألون ضمائرهم عن سبب وغاية التحاقهم بالجماعة الرهبانية اليسوعية قائلين: "لأجل ماذا؟ لأجل أن تصبح قدماى متسختين. بالسير في الشوارع، ومقابلة الناس حيث يعيشون. هكذا أوضحها جوفين:"الشعارات التي أتذكرها كانت مثل تلك ‘كن في محل جارك وسر بقدميه‘، لا أن "تُمشط القطيع" تقابل معهم جميعًا، ‘قُم بزيارة الفقراء وأهتم باحتياجاتهم،" أحضِر الأطفال لدروس التربية الدينية.‘" بطريقة أخرى "لن تجد الإجابة على أسئلتك وأنت جالس على مكتبك". تحدث بيرجوليو عن كل ذلك بينما كان عميدًا للجامعة مع الدارسين اليسوعيين: "إنه لا يمكننا الجلوس مكتوفي الأيدى؛ بينما الناس جوعى  ونحن هنا بالجامعة لا نخسر شيئا".

وهنا في مصر حيث يسوعيين لا يعلم عنهم احدا يقومون يومياً في الخفاء كما كان يقوم البابا فرنسيس سابقاً، وربما اعظم، تاركين في ذاكرة وقلوب وضمائر جميع من عرفهم آثاراً انسانية بسببها سيظل ضمير الكثير والكثير من المصريين حراً مستنيراً الى زمان طويل.