الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

د. عبد المنعم سعيد يكتب: التنوع والإخوان.. نشوء الدولة الوطنية يحدث من تكون "هوية" مشتركة من خلال مصالح متماثلة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الغالبية من دول العالم متعددة الهويات والأعراق والأديان والجهوات التى تختلف وتلتقى فى أمور كثيرة. نشوء الدولة الوطنية يحدث عندما تتكون "هوية" مشتركة تغلب كل أمر آخر من خلال مصالح متماثلة تشكل ما يصبح معروفًا باسم الدولة الإقليمية أو Nation State. العالم العربى ليس استثناءً من هذه الحقيقة، ولكن لأسباب سوف ينالها الاهتمام فيما بعد، واجهت إنكارًا واستنكارًا كبيرًا وادعاء بأن مثل ذلك ليس متواجدًا حيث ينصهر الجميع فى بوتقة واحدة. وشهد العام ١٩٩٤ حدثًا هامًا وهو صدور كتاب "الملل والنحل والأعراق" ومعه حدثت الدعوة إلى عقد مؤتمر "حقوق الأقليات فى الوطن العربى" خلال الفترة من ١٢ إلى ١٤ مايو ١٩٩٤ فى القاهرة. لم يقدر للمؤتمر الانعقاد فى القاهرة وإنما كان على الداعين له الذهاب إلى دولة أخرى – قبرص - لعقد المؤتمر. كانت العاصفة قد قامت، وانقلبت الدنيا رأسًا على عقب، فاستنكرت طوائف أن توصف بالأقلية، وصدرت بيانات وزارات خارجية تشكو من مؤامرات أجنبية. والسبب أن "زرقاء اليمامة" كانت قد وضعت أصابعها على واحدة من أخطر القضايا العربية المنذرة بالكوارث فى قادم الأيام؛ ورغم استخدامها لتعبير "الوطن العربي" الأثير لدى القوميين العرب، فإن "الزرقاء" كانت شديدة البصر والبصيرة، ترى ما لا يراه آخرون، وتسمع ما لا يسمعونه؛ وشهدت اليمامة إنكارًا شديدًا مضافًا إلى الاستهجان المدوى. الدكتور سعد الدين إبراهيم عالم الاجتماع الكبير كان زرقاء اليمامة التى كانت ممن تعرضوا لمسألة الأقليات فى الوطن العربى العرقية أو الدينية، مؤكدًا أنها سمة أساسية من سمات الوطن العربي. وقدر أن ١٥% من سكان المنطقة العربية هم من الأقليات. وأن كل ما شهده العالم العربى من حروب وفتن داخلية ومن إراقة دماء والحروب الأهلية كان سببه تجاهل حقوق الأقليات وقمعهم بما وصل إلى استخدام الأسلحة الكيماوية وجنازير الدبابات.

وفى العالم العربى كانت المدرسة القومية فى الفكر السياسى تقوم على أن الصلات التى ترتبها العلاقة مع الوطن ينبغى لها أن تتفوق على كل الأبعاد الإنسانية الأخرى بحيث تخلق رابطة بين "المواطنين" تتعدى الروابط الدينية والعرقية. ولما كان ذلك صعبًا، فقد عمدت المدرسة القومية إلى دعم الروابط "القومية" ومنها كان الاهتمام باللغة والثقافة والتاريخ "المشترك" والمصالح المشتركة. وفى هذه المدرسة، فإن التأكيد على "الخطر" المشترك يصير ممارسة يومية، ويصبح فى مقدمة هذه الأخطار السعى من قبل أنواع كثيرة من "الأعداء" تفتيت الأمة. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن الفكر "القومى" إما أنه أنكر تمامًا فكرة التمايزات العرقية والمذهبية، أو أنه اعترف بها ولكنه خلق آليات التنشئة السياسية من تعليم وإعلام، وأدوات حزبية للقولبة السياسية تقوم بتخريج القوميين المتحمسين من كافة الأطياف. المدهش أنه نتيجة الفكر القومى كانت خلق حالات مضادة من الأفكار القومية لدى الأقليات، التى تجد نفسها لا تعبر عن ثقافتها وتقاليدها إلا فى إطار دولة قومية لها هى الأخرى. وفى العالم العربى كان ذلك هو ما فعلته المدرسة القومية، ولسنوات طويلة كانت الاجابة عن سؤال حالة الأقليات فى كل دولة عربية واحدة وهى أن كل الأحوال على ما يرام، بل إن المجيب سوف يرفض توصيف جماعة دينية أو عرقية أو لغوية على أنها "أقلية"، فالجميع مواطنون متساوون، والجميع منصهرون فى "سبيكة" واحدة لا تقبل لا الكسر ولا التفكيك.
 

المدرسة الاشتراكية العربية لم تختلف كثيرًا عندما اعتبرت القضية إما أنها مفتعلة تستخدمها الطبقات المستغلة من أجل الحفاظ على سيطرتها واستغلالها للطبقات العاملة والكادحة والفقيرة؛ أو أنها قضية حقيقية ولكنها لا ينبغى لها أن تجب الروابط الاقتصادية والاجتماعية التى تربط الكادحين ببعضهم والتى تفوق الروابط الاجتماعية الأخرى. وببساطة فإن الفكر الاشتراكى اعتبر الرابطة الطبقية أقوى من كل الروابط؛ وفى العموم نظر الاشتراكيون بتشكك بالغ لكل أشكال التنوع والاختلاف داخل الدولة. وكان ما جرى فى العالم العربى خلال الستينيات فى عدد من الدول العربية يربط ما بين "الاشتراكية" و"القومية"، وأصبح تحقيق "العدالة" و"الوحدة" الطريق لصهر التنويعات المختلفة فى دولة واحدة. وفى الحقيقة، وبعيدًا عن الأفكار القومية والاشتراكية، فقد كانت الدولة العربية البيروقراطية المتولدة عنهما هى التى خلقت آليات للعنف والخوف قادرة على كبت التطلعات والتقاليد المختلفة. ولذلك فإنه حتى مع تراجع الفكر القومي، وانهيار الفكر الاشتراكى خاصة بعد زوال الاتحاد السوفيتى فإن عملية القهر استمرت حتى مع الدول التى لم تعتبر الاشتراكية والقومية من المذاهب الفكرية المعبرة عنها.

الإخوان المسلمون أنكروا واستنكروا التنوع والاختلاف. فالحقيقة هى أن هناك عشرات الأسباب التى تقف وراء وهن الحرية فى بلد من البلدان، وهذه الأسباب المتعلقة بالحكام والطغاة والمؤسسات والأنظمة الاقتصادية والاجتماعية يجرى ذكرها على كل لسان. ولكنْ هناك سبب لا يذكر كثيرًا وهو أن من يريدون الحرية يصمتون عندما يتعلق الأمر بحرية الآخرين سواء كانت هذه الحرية متعلقة بالحقوق السياسية أو الاجتماعية، ولكن قبل ذلك وبعده حرية الاعتقاد، وحرية التنوع والاختيار، كما أنهم لا يضعون النظام السياسى والاجتماعى والاقتصادى الذى يكفل هذه الحريات. فالحقيقة الثابتة طوال التاريخ الإنسانى هى أن الاعتقاد فى دين أو مذهب أو طريقة سياسية ـ أى أيدلوجية ـ هو مسألة ذاتية تمامًا تخص الإنسان وتاريخه وما يحقق له السلام الداخلى. وليس معروفًا أبدًا لماذا أصبح المسلمون مسلمين، والبوذيون بوذيين، ولماذا انقسم المسلمون إلى شيعة وسنة وانقسم المسيحيون الى بروتستانت وكاثوليك وأرثوذوكس وفرق ومذاهب تحاربت لمئات الأعوام. وربما كان التفسير الوحيد هو ما جاء فى جميع الأديان والمذاهب أن الله جعل البشر شعوبًا وقبائل متنوعة ومتعددة حتى تتعارف وتتبادل الأفكار، وإلا لكانت الإنسانية طبعة واحدة ولا يوجد غيرها من الملائكة أو الشياطين.

الإخوان فى الواقع اتبعوا منهجًا آخر يقوم على عما إذا كان المسلمون يشكلون الأغلبية وفى هذه الحالة يكون سيادة الفكر "الإسلامي" هو "الشريعة" و"التشريع" حيث يكون أصحاب الديانات السماوية "أهل ذمة" يجوز تمييزهم فى الحقوق والواجبات أما غيرهم فيجرى اعتبارهم فى ضلال مبين.  أما إذا كان المسلمون أقلية فإنهم فى هذه الحالة يصير من حقهم الانفصال؛ وفى هذه الحالة يصير تعريف الإسلام والمسلمون أكثر ضيقًا حيث يتطابق الدين مع تنظيم الإخوان فيكون التمييز ضد الشيعة، ويصير البحث عن دولة للخلافة تجمع السُنة هى المقصد والمآل. المثال النقى على هذا التطبيق يظهر من السلوكيات التى اتبعها تنظيم حماس الإخوانى الفلسطينى حينما قام بفصل غزة عن الضفة الغربية ومن ثم جعل قيام الدولة الفلسطينية قريبًا من الاستحالة. وفى الحروب الأهلية التى جرت فى العراق وسوريا واليمن لعب الإخوان المسلمون أدوارًا تدميرية لإقصاء الدولة الوطنية ومنعها من التكامل والاندماج وتكوين الهوية والمصالح المشتركة. وأثناء فترات التفكك التى برع فيها الإخوان فإنهم لم يتوانوا عن التحالف مع جماعات إرهابية خرجت فى أغلب الأحوال عن عباءتهم عندما كانوا الحاضنة الأولى لهذه المنظمات أثناء تكوينها الأول، والمعلم المدرب لها بعد أن تشب عن الطوق، والحامى والممول لها بعد أن تصل إلى النضوج. والحقيقة أن الإخوان لم يفيقوا أبدًا عندما ينقلب السحر إلى الساحر وتتجه هذه الجماعات للهجوم على الإخوان أنفسهم بعد أن هاجموا مواطنيهم والأقليات فى المقدمة؛ وعندما يُقتَلون فى المواجهة فإن الإخوان لا يجدون غضاضة فى وصفهم بالشهداء.