الأربعاء 01 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

سياسة

نجوم التنوير.. محمد عبده إمام التنوير وشيخ المجددين

محمد عبده
محمد عبده
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

محمد عبده مفكر وعالم دين وفقيه وقاضٍ وكاتب ومجدد إسلامي، يعد أهم دعاة النهضة والإصلاح في العالم العربي والإسلامي ورمزًا للتجديد في الفقه الإسلامي، ساهم بعد التقائه بأستاذه جمال الدين الأفغاني في إنشاء حركة فكرية تجديدية إسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تهدف إلى القضاء على الجمود الفكري والحضاري وإعادة إحياء الأمة الإسلامية لتواكب متطلبات العصر.
ولد محمد بن عبده بن حسن خير الله سنة ١٨٤٩م في قرية محلة نصر بمركز شبراخيت في محافظة البحيرة لأبٍ كان جَدّهُ من التركمان، وأم مصرية تنتمي إلي قبيلة بني عدي العربية. درس في طنطا إلى أن أتم الثالثة عشرة حيث التحق بالجامع الأحمدي
أرسله أبوه- كسائر أبناء قريته- إلى الكُتّاب، حيث تلقى دروسه الأولى على يد شيخ القرية، وعندما شبَّ الابن أرسله أبوه إلى “الجامع الأحمدي”- جامع السيد البدوي- بطنطا، لقربه من بلدته؛ ليجوّد القرآن بعد أن حفظه، ويدرس شيئًا من علوم الفقه واللغة العربية. وكان محمد عبده في نحو الخامسة عشرة من عمره، وقد استمر يتردد على “الجامع الأحمدي” قريبًا من العام ونصف العام، إلا أنه لم يستطع أن يتجاوب مع المقررات الدراسية أو نظم الدراسة العقيمة التي كانت تعتمد على المتون والشروح التي تخلو من التقنين البسيط للعلوم، وتفتقد الوضوح في العرض، فقرر أن يترك الدراسة ويتجه إلى الزراعة.. ولكن أباه أصر على تعليمه، فلما وجد من أبيه العزم على ما أراد وعدم التحول عما رسمه له، هرب إلى بلدة قريبة فيها بعض أخوال أبيه.
وهناك التقى بالشيخ الصوفي “درويش خضر”- خال أبيه- الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى حياته. وكان الشيخ درويش متأثرًا بتعاليم السنوسية التي تتفق مع الوهابية في الدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام الخالص في بساطته الأولى، وتنقيته مما شابه من بدع وخرافات. واستطاع الشيخ “درويش” أن يعيد الثقة إلى محمد عبده، بعد أن شرح له بأسلوب لطيف ما استعصى عليه من تلك المتون المغلقة، فأزال طلاسم وتعقيدات تلك المتون القديمة، وقرّبها إلى عقله بسهولة ويسر. وعاد محمد عبده إلى الجامع الأحمدي، وقد أصبح أكثر ثقة بنفسه، وأكثر فهمًا للدروس التي يتلقاها هناك، بل لقد صار “محمد عبده” شيخًا ومعلمًا لزملائه يشرح لهم ما غمض عليهم قبل موعد شرح الأستاذ. وهكذا تهيأ له أن يسير بخطى ثابتة على طريق العلم والمعرفة بعد أن عادت إليه ثقته بنفسه.
في سنة ١٨٦٦م التحق بالجامع الأزهر، واستمر يدرس في “الأزهر” اثني عشر عامًا، حتى نال شهادة العالمية سنة ١٨٧٧م.
تأثر الشيخ “محمد عبده” بعدد من الرجال الذين أثروا حياته وأثّروا فيها، فتعرّف على جمال الدين الأفغاني سنة ١٨٧١ وتتلمذ على يديه، ولازم حلقات درسه فتوطّدت الصلة بينهما وأصبحا صديقين. وعُيّن مدرّسا للتاريخ في مدرسة دار العلوم العليا، ودرّس أيضا في مدرسة الألسن. اتصل “محمد عبده” بالرجل الثاني الذي كان له أثر كبير في توجيهه إلى العلوم العصرية، وهو الشيخ “حسن الطويل” الذي كانت له معرفة بالرياضيات والفلسفة، وكان له اتصال بالسياسة، واتصل بعدد من الجرائد، فكان يكتب في “الأهرام” مقالات في الإصلاح الخلقي والاجتماعي، فكتب مقالا في “الكتابة والقلم”، وآخر في “المدبر الإنساني والمدبر العقلي والروحاني”، وثالثا في “العلوم العقلية والدعوة إلى العلوم العصرية”.
وحينما تولّى الخديوي توفيق العرش، تقلد “رياض باشا” رئاسة النظار، فاتجه إلى إصلاح “الوقائع المصرية”، واختار الشيخ محمد عبده ليقوم بهذه المهمة، فضم “محمد عبده” إليه “سعد زغلول”، و”إبراهيم الهلباوي”، والشيخ “محمد خليل”، وغيرهم، وأنشأ في الوقائع قسمًا غير رسمي إلى جانب الأخبار الرسمية، فكانت تحرر فيه مقالات إصلاحية أدبية واجتماعية، وكان الشيخ “محمد عبده” هو محررها الأول. وظل الشيخ “محمد عبده” في هذا العمل نحو سنة ونصف السنة، استطاع خلالها أن يجعل “الوقائع” منبرًا للدعوة إلى الإصلاح.
اشترك في ثورة أحمد عرابي ضد الإنجليز رغم أنه وقف منها موقف المتشكك في البداية لأنه كان صاحب توجه إصلاحى يرفض التصادم إلا أنه شارك فيها في نهاية الأمر، وبعد فشل الثورة حكم عليه بالسجن ثم بالنفي إلى بيروت لمدة ثلاث سنوات، وسافر بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٤م، وأسس صحيفة العروة الوثقى، وفي سنة ١٨٨٥م غادر باريس إلى بيروت، وفي ذات العام أسس جمعية سرية بذات الاسم، العروة الوثقى.
وفي سنة ١٨٨٦م اشتغل بالتدريس في المدرسة السلطانية وفي بيروت تزوج من زوجته الثانية بعد وفاة زوجته الأولى. وفي سنة ١٨٨٩م، عاد محمد عبده إلى مصر بعفو من الخديوي توفيق، ووساطة تلميذه سعد زغلول وإلحاح نازلي فاضل على اللورد كرومر كي يعفو عنه ويأمر الخديوي توفيق أن يصدر العفو وقد كان، وقد اشترط عليه كرومر ألا يعمل بالسياسة فقبل.
وفي سنة ١٨٨٩م عين قاضيًا بمحكمة بنها، ثم انتقل إلى محكمة الزقازيق ثم محكمة عابدين ثم ارتقى إلى منصب مستشار في محكمة الاستئناف عام ١٨٩١م.
في ٢٥ يونيو ١٨٩٠م عين عضوًا في مجلس شورى القوانين. وفي سنة ١٩٠٠م أسس جمعية إحياء العلوم العربية لنشر المخطوطات، وزار العديد من الدول الأوروبية والعربية.
في ٣ يونيو عام ١٨٩٩م عين في منصب المفتي، وتبعًا لذلك أصبح عضوًا في مجلس الأوقاف الأعلى. وصدر مرسوم خديوي وقعه الخديوي عباس حلمي الثاني بتعيين الشيخ محمد عبده مفتيًا للديار المصرية. 
كان منصب الإفتاء يضاف لمن يشغل وظيفة مشيخة الجامع الأزهر في السابق وبهذا المرسوم استقل منصب الإفتاء عن منصب مشيخة الجامع الأزهر، وصار الشيخ محمد عبده أول مفتي مستقل لمصر معين من قبل الخديوي عباس حلمي وعدد فتاوى الشيخ محمد عبده بلغ ٩٤٤ فتوى استغرقت المجلد الثاني من سجلات مضبطة دار الإفتاء بأكمله وصفحاته ١٩٨، كما استغرقت ١٥٩ صفحة من صفحات المجلد الثالث.
كان الخديوي عباس متحمسًا على مناهضة الاحتلال، وسعى الشيخ “محمد عبده” إلى توثيق صلته به، واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التي تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ “حسونة النواوي”، وكان الشيخ محمد عبده عضوا فيه، وهكذا أتيحت الفرصة للشيخ محمد عبده لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر، وهو الحلم الذي تمناه منذ أن وطئت قدماه ساحته لأول مرة، لكن علاقته بالخديوي عباس كان يشوبها شيء من الفتور، الذي ظل يزداد على مر الأيام، خاصة بعدما اعترض على ما أراده الخديوي من استبدال أرض من الأوقاف بأخرى له إلا إذا دفع الخديوي للوقف عشرين ألف فرقًا بين الصفقتين. وتحول الموقف إلى عداء سافر من الخديوي، فبدأت المؤامرات والدسائس تُحاك ضد الإمام، وبدأت الصحف تشن هجومًا قاسيًا عليه لتحقيره والنيل منه، ولجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة؛ حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر في سنة ١٩٠٥م، وإثر ذلك أحس الشيخ بالمرض، واشتدت عليه وطأة المرض، الذي تبيّن أنه السرطان، وما لبث أن تُوفي بالإسكندرية عن عمر بلغ ستة وخمسين عامًا.
تحرير المرأة:
ومن الأمور المحورية المهمة، هو دوره وفكره الحداثي حول تحرير " المرأة " في تلك الحقبة منها:
أنه بين كيف كانت المرأة انسانة مهملة مجتمعيا، ناقصة الحقوق بلا أي شخصية، فكانت المرأة في ذلك العصر ممنوعة من التعليم، والخروج للعمل، والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والأدلاء بالرأي، والجهر بالقول، والصدع بالحق، وكانت واقعة تحت عادات قديمة ما أنزل الله بها من سلطان، ويُنظر إليها علي أنها متاع فقط، وبما أن المرأة هي نصف المجتمع، وهذا الذي أكد عليه الشيخ محمد عبده لمحاولة الإصلاح، فلفت الانتباه إلى أن نصف المجتمع هذا في حالة ممات تام، ودعا إلي إيقاظ هذا النصف من سباته..  وحول الحجاب يبين الشيخ محمد عبده: لو أن في الشريعة الإسلامية نصوصا تقضي بالحجاب، على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين / الحجاب هنا هو المكوث في البيت وعدم الخروج وإذا تم الخروج للضرورات الكادحة فبالبرقع ليس غير، لوجب عليّ اجتناب البحث فيه، ولما كتبت حرفا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهر الأمر، لأن الأوامر الإلهية يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة، لكننا لم نجد نصا في الشريعة ما يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت من الناس باسم الدين والدين منها براء.
قالت الدكتورة رجاء أحمد على، أستاذة الفلسفة الإسلامية، خلال ندوة عقدت بمعرض القاهرة الدولى للكتاب ٢٠١٥، تحت عنوان "المرأة فى فكر محمد عبده": "إن الإمام محمد عبده صارع التقاليد وصارع الثقافة، والتعليم والجمود فى الأزهر، ووقف بشجاعة العالم المسلم مدافعًا عن دين الإسلام، وتعاليمه السمحة.
وأضافت الدكتورة رجاء أحمد، أن النهضة كما دعا إليها محمد عبده، لا تقوم إلا بالإصلاح، والإصلاح لا يقوم إلا بالأسرة، والعمود الفقرى للأسرة هى المرأة، وهو يرى أن حق المرأة فى التعليم، حق أصيل، ويساوى بينها وبين الرجل، ويؤكد على أن الفهم الخاطىء للدين هو ما أوقعنا فى عدد من المشكلات المجتمعية.
وأوضحت الدكتور رجاء أحمد على، أن الإمام محمد عبده تعرض لموضوع تعدد الزواجات، وقال إنه إذا كان القرآن نص على التعدد، إلا أن ذلك لا يكون بشكل فوضوى، بل أن يكون محددًا، وفى حالات معينة، وللضرورات، إذا كانت الزوجة عاقرًا، أما إذا تزوج بشكل فوضوى، فهو يتزوج لإشباع رغبة بهيمية، ولا يكون استبدال زوجة بزوجة، وقد قال الله تعالى: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً»، وفى آية أخرى: « وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ»، كما يؤكد أن هناك العديد من الرجال أكثر نقصانًا فى العقل والدين من المرأة.
وقالت الدكتورة آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية بفرع جامعة الأزهر، فى الندوة نفسها، إن البعض يفهم الدين فى سياق غير سياقه، منه مثلا الحديث "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، لأن ذلك له قصة تعود إلى كِسرى ملك فارس، أى أنها مرتبطة بحدث ما، وعلينا تفسيرها فى سياقها الصحيح، والمقصود بها، لا تفسيرها فى العموم، لأن النصوص دائمًا، يكون حولها شىء من الهوامش تدفع لقول هذا النص، موضحة أن هناك أفكارًا وفتاوى كثيرة، وفدت إلينا من الجاهلية القديمة، ومن الأفكار المتطرفة، منها أنها يحرُم على المرأة تولى الإمامة، أو المناصب.
وأضافت الدكتورة آمنة نصير، أن كل البشرية لها ميراث، فيه الغث، وفيه السليم وفيه الاجتهادات البشرية التى تصيب وتخطئ، حتى إن الإمام الشافى، والإمام مالك، وأبو حنيفة، لم يدعِ أحدهم أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، مشيرة إلى أن الإمام أبو حنيفة يعد فخرًا للتراث الإسلامى، فهو كان يقول فى اجتهاداته "هذا رأى ما قُدرت عليه".
ملامح التجديد في فتاوى الامام:
في مذكراته يكتب أحمد أمين عن واقعة طريفة ودالة، يذكر فيها أنه مما كان يُؤخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أنه أبطل “ميضأة” الأزهر واستبدلها بالحنفيات، وأن “إلف الناس للقديم جعلهم يحزنون لفراق الميضأة”. ومن هذه الحكاية يمكن أن نعرف كيف كان يفكر محمد عبده، وكيف كان يفكر كثير من هؤلاء المشايخ في أشد أوقات إظلام وتراجع الأزهر. هذا الانفتاح من الشيخ محمد عبده وإدراك الواقع واختلاف الزمان، وتقديم مصالح الناس وحفظ حياتهم وصحتهم ومعاشهم بما يتفق مع المقاصد الكلية وشروط الاجتهاد. والإيمان الراسخ بأن بقاء الدين هو قرين بفهم واستيعاب التطور والتجدد في الحياة والتفاعل معها وبالموازنة بين الواقع وبين مقاصد الشريعة. تلك هي أبرز الملامح العامة لمنهج الشيخ محمد عبده بشخصيته الناضجة وثقافته الواسعة واعتداده بالعقل، سواء في الفتوى أو في غيرها.  وقد اشتهر المفتي محمد عبده بروعة وسماحة فتاويه، حتى أن الناس كانوا يسألونه في أمور الحياة كما كانوا يسألونه في أمور الدين. بل كانت تأتيه استفتاءات من المسيحيين واليهود، فقد “سئل في امرأة مسيحية تملك عقارات"، وأفتى بأن للأم المسيحية حضانة أولادها من زوجها الذي اعتنق الإسلام".
كانت أول فتوى أصدرها الإمام محمد عبده في ١١ يونيو سنة ١٨٩٩، أي بعد توليه المنصب بأسبوع، وفيها يجيب محكمة الاستئناف الأهلية بمصر التي أحالت إليه أوراق متهم بالقتل لأخذ الرأي الشرعي فيه، فأجاب الإمام محمد عبده بما كان ملخصه في هذه القضية بأن “كثرة القرائن لا تكفي بالحكم بالإعدام، لأن اليقين لا يبلغ بها إلى الحد الذي يسوغ الحكم بعقوبة لا يمكن تدارك الخطأ فيها لو ظهر بعد ذلك". وبهذا وضع الإمام تقليدا جديدا وغير مسبوق لعمل المفتي والقيام بمسئوليته في بحث القضايا التى تحال إليه من كافة أوجهها وتقديم الرأي فيها، وكان شيخ الأزهر والمفتي السابق، الشيخ حسونة النواوي، يكتب في مثل هذه القضايا دون بحث عبارات ثابتة لا تخرج عن: "متى ثبت القتل عمدًا، فلولي الجناية القصاص شرعا”.
ولأن الاجتهاد وهو بذل للتوسع في البحث عن الحكم الشرعي مع ما يُعرض على المجتهد من واقع الناس ومعاشهم أو مع ما يستجد من الأحداث والنوازل، والذي يجب أن يراعي دائما فيما يقول تغيرات: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وبما يراعي التيسير على الناس، وهذا مما نجده في إحدى فتاوى الإمام محمد عبده الذي أجاب عن سؤال ورد إليه في موضوع بخصوص “زواج المسلم بمسيحية”، عن شخص يريد شهادة من المفتي “مؤداها أن زواجه القانوني بألمانيا يعتبر مقبولا في مصر”، يجيب عليه الشيخ بأنه “يجوز.. ويعتبر زواجا مقبولا بمصر متى كان العقد بحضرة شاهدين ولو ذميين”. وفي قضية زواج المسلم من الكتابية (مسيحية أو موسوية) فإن الفقهاء المسلمين قد اختلفوا في ضرورة إسلام الشهود من عدمه، والغالب منهم يرى بعدم صحته وحجتهم أن الشهادة هي على العقد، وهو يتعلق بطرفيه معا وهذا لا يجوز لأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم. لكن الشيخ محمد عبده في هذه المسألة يخالف هذا الرأي، وأخذ بعدم اشتراط إسلام الشاهدين، فقال “ولو ذميين”، وأخذ برأي أبى حنيفة وأبى يوسف وهما لا يشترطان إسلام الشهود بل يصح الزواج عندهما إذا كانت الزوجة غير مسلمة بحضور وشهادة غير المسلمين والمحاكم في مصر تأخذ بهذا الرأي.
مما ذكره رشيد رضا في تفسير “المنار” نقلًا عن الإمام محمد عبده في خصوص رؤيته للقصص القرآني قوله: بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين، وإنه ليحكى من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية. وكان تجديده في تفسير القرآن أنه حاول أن يقف على المعاني العامة دون الوقوف أمام الألفاظ في ذاتها وإعطاءها أكثر مما تستحق من النظر. وكان ينزع نزعة عقلانية واضحة في محاولته للتفسير والتأويل للقرآن، ويرفض الكثير من الحكايات والقصص التي كان يتخليها المفسرون قديما. وكثيرة هي الخرافات التي تحتويها كتب التفسير القديمة والتي تأتي غالبا من روايات ضعيفة أو ظنية، أو من آراء صدرت من باب الهوى والتعصب للرأي. وفي آخر فتوى وردت بالجزء الأول من كتاب “فتاوى الإمام محمد عبده”، ونختم بها هذه العجالة، وهي ردا منه على سؤال ورد إليه بخصوص قصة طوفان نوح، يقول “بأن الطوفان لم يكن عامًا لأنحاء الأرض بل هو خاص بالأرض التي كان بها قوم نوح”. وقد أجاب الإمام محمد عبده “أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع علي عموم الطوفان ولا على عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث علي فرض صحة سنده فهو أحاد ولا يوجب اليقين، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين، أما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، ولا تتخذ دليلا قطعيا علي معتقد ديني، أما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض… أما أهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية فعلي أن الطوفان كان عامًا لكل الأرض… ويزعم أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامًا… غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامًا”. وهذا المنهج في التفسير والذي ينحو منحى عقلانيا، يمكن أن نقول أنه كان الأساس الأول لعدد من المحاولات التي جاءت بعده، ومنها محاولة طه حسين لتقديم قراءة للقصص القرآني على أساس منهج تاريخي في كتابه الشهير “في الشعر الجاهلي” سنة ١٩٢٦م، وكذا محاولة محمد أحمد خلف الله لتقديم قراءة للقصص القرآني على أساس منهج فني وأدبي في رسالته للدكتوراة “الفن القصصي في القرآن” سنة ١٩٤٧ م، وكلاهما خاض وواجه –كما خاض وواجه محمد عبده من قبل- معارك فكرية قوية بالرفض، ووصلت إلى التكفير لهم من قبل أصحاب الأفكار المحافظة والمتشددة والظلامية. ورغم كل ذلك لا تزال أفكار محمد عبده النيرة في التجديد والإصلاح، وأفكار تلاميذه من بعده، ملهمة لحياتنا  الفكرية إلى اليوم.
ساهم فى إنشاء حركة فكرية تجديدية إسلامية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تهدف إلى القضاء على الجمود الفكري والحضارى وإعادة إحياء الأمة الإسلامية لتواكب متطلبات العصر.