السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأنبا مكاريوس يكتب لـ"البوابة نيوز": الزمن

الأنبا مكاريوس أسقف
الأنبا مكاريوس أسقف المنيا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الزمن

«إِذَا أَتَمَّ الإِنْسَانُ، فَحِينَئِذٍ يَبْتَدِئُ، وَإِذَا اسْتَرَاحَ، فَحِينَئِذٍ يَتَحَيَّرُ، مَا الإِنْسَانُ، وَمَا مَنْفَعَتُهُ؟ مَا خَيْرُهُ، وَمَا شَرُّهُ؟، عِدَّةُ أَيَّامِ الإِنْسَانِ عَلَى الأَكْثَرِ مِئَةُ سَنَةٍ كَنُقْطَةِ مَاءٍ مِنَ الْبَحْرِ، وَكَذَرَّةٍ مِنَ الرَّمْلِ، هكَذَا سِنُونَ قَلِيلَةٌ فِي يَوْمِ الأَبَدِيَّةِ، فَلِذلِكَ طَالَتْ عَلَيْهِمْ أَنَّاةُ الرَّبِّ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ رَحْمَتَهُ» (سيراخ 18: 6-9)

 

جلس فوق كومة من الرمال في الصحراء الممتدة حتى تلامست مع القبة الزرقاء، ونظر بعيدًا وقال: ”ما أشبهها بالأبدية“، ودوَّن في نوتته التي يحملها ما يلي: 

تُرى نحن الذين نمرّ بالزمن أم هو الذي يمرّ بنا؟ تُرى متى يُخصعنا هو، ومتى نُخضعه نحن؟ وهل نحن فحم في قاطرته كما تصوّر البعض؟ إننا عندما نمرّ بالزمن فهو الأقوى، وإذا مرّ هو بنا فنحن الأقوى، حيث تتشابه سنوه وقرونه بينما يقف الإنسان شامخًا لا يستطيع أن يطويه، وإذا أخضعنا نحن الزمن فقد استوقفناه وأنجزنا فيه، وإذا أخضعنا هو فقد سلبنا أيامنا حتى العجز دون إرادة حقيقية. 

ومتى شعرنا بالملل فقد توقّف بنا الزمن، وأحيانًا توصف بعض اللحظات بأن الزمن قد توقّف عندها، بينما يُقال في مواقف أخرى إن اللحظة فارقة في التاريخ، وقال أحدهم إن الورقة البيضاء التي بين العهدين في الكتاب المقدس المطبوع هي أهمّ الصفحات لأنها تقسم التاريخ البشري كله إلى قسمين، العهد القديم والعهد الجديد.

إن الإنسان وإن لم يكن أزليًا، إلّا أنه أُعطِي أن يحيا إلى الأبد مع الله، والله فوق الزمن، وألف سنة عند الله كيوم واحد، ويوم واحد كألف سنة «ولكن لا يَخفَ علَيكُمْ هذا الشَّيءُ الواحِدُ أيُّها الأحِبّاءُ: أنَّ يومًا واحِدًا عِندَ الرَّبِّ كألفِ سنَةٍ، وألفَ سنَةٍ كيومٍ واحِدٍ» (بُطرُسَ الثّانيَةُ 3: 8).

وبصدد الحديث عن الزمن؛ نعرف أن الوقت يمرّ سريعًا في المسرّات وثقيلًا في الأزمات، ونعرف أنه يوجد زمانان: زماننا وزمن الله، أو بعبارة أخرى، تقييمنا للوقت يختلف عن تقييم الله، ففي مَثَل قاضي الظلم يقول: «أفَلا يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ، الصّارِخينَ إليهِ نهارًا وليلًا، وهو مُتَمَهِّلٌ علَيهِمْ؟ أقولُ لكُمْ: إنَّهُ يُنصِفُهُمْ سريعًا!» (لوقا 18: 7-8)، ومعنى هذا أن الله قادمٌ في زمن محسوب ومُحدَّد ولكن الانسان قد يتعجّله، مثلما أحسّت العذارى بأن العريس قد أبطأ فناموا، في حين أنه لم يبطئ بل قادم في موعده بدقّة. كما قال: «ها أنا آتي سريعًا...»، ويظنّ الناس أنه ابطأ، ولكنها مسألة ”الحساب المختلف“. 

 

ويستطيع الإنسان أن يتجاوز الزمن على النحو التالي:

كل من تجاوز زمن الخطية، استطاع تحاشيها. ومن تجاوز زمن السلطة وزوالها، تجاوز شهوتها. ومن تجاوز الخصام ومتاعبه، تجاوز الخلاف. ومن تجاوز ساعة الجوع، تجاوز شهوة الطعام. ومن تجاوز هذا الزمن، فقد بدأ الأبدية منذ الآن.

كما يستطيع الإنسان أن يحوّل الزمن الفاني إلى زمن خالد، وذلك من خلال استثماره في الصلاة وأعمال الخير والإنجاز عمومًا. كما يستطيع إنسان أن يحقّق في ساعة واحدة ما لا يحققه آخر في سنوات، إذا كانت إرادته قوية ووعيه بالغ. ونقرأ عن الأطفال الصينيين وغيرهم، مثل ملالا وإيما جورج وغيرهم... وهناك من أسدى الكثير من الخدمات للبشرية أو لبلاده وهو صغير السن، مثل القمص منسى يوحنا، والكثير من السياسيين، وهكذا على مدار التاريخ كانت هناك شخصيات عظيمة لم تعش إلّا قليلًا، في حين أضاع الكثيرون أعمارهم فيما لا ينفع. 

السيرة والمسيرة: يقولون إن السيرة أطول من العمر، أي أن ذِكر الشخص يستمرّ أكثر بكثير من سني عمره «الصِّدِّيقُ يَكُونُ لِذِكْرٍ أَبَدِيٍّ» (مزمور 112: 6)، فالآباء الرسل الذين عاشوا بضع عشرات السنين، ومثلهم الشهداء والقديسون والعظماء، ما يزال ذكرهم لمئات السنين، وهكذا... غير أنه وبينما يخلد البعض من باب القداسة، يخلد آخرون من باب الشر والجريمة.

ومِن الناس مَن سبق عصره، ومَن سابق الزمن، ومِن الأطفال من وُصِف بأنه سابق لسنّه أو أكبر من سنّه، حين يبدو تفكيره أكثر نُضجًا وإنجازه أعظم قدرًا، ومن هنا نفهم تعبير ”يسابق الزمن“ أي أنه يدرك قيمة الوقت والإنجاز؛ ومنهم مَن يوصف بأنه بعيد النظر، حيث يمكن أن يعني ذلك أنه يتجاوز الزمن العادي، ويقولون: ”من حوى التاريخ في صدره .:. أضاف أعمارًا إلى عمره“.

ومن مفارقات الزمن: أن هناك فرقًا بين التأريخ والتاريخ: ”كرونيكال“، والزمن ”كايروس“، فالأول يعني تعاقب الأيام والسنين، وأمّا الثاني فيعني الفرصة المتاحة لنا لاقتناصها، كما يقول الكتاب: «إنَّها الآنَ ساعَةٌ لنَستَيقِظَ مِنَ النَّوْمِ...» (روميَةَ 13: 11)، ومن هنا نفهم معنى الحُكم الصادر ضد الخاطئة بابل: «وَأَعْطَيْتُهَا زَمَانًا لِكَيْ تَتُوبَ عَنْ زِنَاهَا وَلَمْ تَتُبْ» (رؤيا 2: 21)

أخيرًا فإننا نحيا الآن فيما يُسمّى بالزمن الحاضر، مقابل الزمن الآتي. يقول القديس بولس: «لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية 3: 26)، مثلما تكلم عن آلام الزمان الحاضر وأنها لا تُقاس بالمجد العتيد. ونفهم أن الزمن سوف يتوقف أو يفنى في أبدية الله «وَأَقْسَمَ بِالْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا وَالأَرْضَ وَمَا فِيهَا وَالْبَحْرَ وَمَا فِيهِ: أَنْ لاَ يَكُونَ زَمَانٌ بَعْدُ» (رؤيا 6: 10).

زمن!.. لفظة تُقال بشكل ما للتعبير عن الاستغراب أو الاستياء والتعجّب، ويُقصَد بها تغيُّر المفاهيم والأخلاق، ربما ووجهات النظر، أو عند مفاجآت غير متوقعة.

خريف العمر والشيخوخة المبكرة: ويُقال عن البعض إن حياته كانت شتاءً فخريفًا، بمعنى أنها انقضت سريعًا، فترتيب الفصول الشتاء ثم الربيع ثم الصيف وفي النهاية الخريف، وعندما يُقال ”خريف العمر“ فالمقصود هو المرحلة الأخيرة فيه، ويسمّيها البعض ”أرذل العمر“، ويصفون أثر الزمن على الملامح بـ”خط المشيب“؛ وبمناسبة العمر والخريف فإنه عندما تضعف الذاكرة يصف البعض الشخص بأنه ”يخرِّف“ أي أن عقله قد شاخ. 

هذا الوصف لشخص ما يعني أن حياته لم تسر بشكل طبيعي مستمتعًا بمراحل حياته الطبيعية: طفولة، ففتوة، فشباب، فرجولة، فكهولة، فشيخوخة؛ بل شاخ مبكرًا بسبب المرض العضال أو شدة انشغاله أو كثرة تجاربه. ويصف أبونا يعقوب سني حياته المئة والسبعة والأربعين بأنها «قليلة ورديئة» (تكوين 47: 9).

بل وُصِف البعض بأنهم قد أصابتهم الشيخوخة الروحية المبكرة، بين الخدام والإكليروس...

الزمن ماضٍ وحاضر ومستقبل: أخيرًا ونحن نودّع العام، فالماضي لا يمكن استعادته أو تغييره أو إلغاؤه، بل يمكن أن يتحوّل إلى خبرة وعبرة وذكرى. أمّا المستقبل فلا نمتلكه لأنه في علم الله. لكننا نمتلك الحاضر، يمكننا أن نقضيه حسنًا، وأن نحياه كما يجب وكما يليق أن ننجز فيه، فإن جوهر الحياة يكمن في هذه الساعات القليلة، فيقول البعض: ”لا تندم على الأمس، ولا تقلق على الغد، بل اهتم بساعتك لخلاصك“.

لعل أجمل ما يجب أن نشكر الله عليه أننا ما زلنا أحياء...

”مباركٌ الربُّ إلهنا، مباركٌ الربًّ يومُا فيومُا، يهيِّئ طريقنا لأنه إله خلاصنا“ (قطع الساعة الثالثة)