السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العقل الناقد وبناء الشخصية المعاصرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يعد التفكير من الظواهر النمائية التي تتطور عبر مراحل العمر المختلفة كما يُعد من أكثر الموضوعات التي تختلف رؤاها وتتعدد وتتشابك أبعادها، فإن ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات قدرته على التفكير، فخلال رحلته الطويلة والشّاقة من العصور البدائية إلى عصور النهضة والتنوير قد استطاع أن يواجه مشكلات لا حدود لها خصوصا مع تطور المجتمعات وما تشهده من متغيرات سريعة ومتلاحقة، ويمثل التفكير وإعمال الفكر أعقد أشكال السلوك الإنساني، لقد جعل الله تعالى الإنسان خليفته في الأرض، وميزه بالعقل عن بقية مخلوقاته وجعل عقله مدار السعي ومناط التكليف، ولذا حث الشرع الحنيف على تحرير العقل وإطلاق الفكر للتمعن في آفاق الكون الرحيب وتدبر عظمة الله فيما خلق وأبدع، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة آل عمران - الآية 190].
وفي عالمنا المعاصر وما يشهده من ثورة معلوماتية هائلة نتعرّض ويتعرض فيها أبنائنا لرسائل كثيرة تدعونا لقبول أفكار معينة ومؤازرة قضايا محددة، سواء كانت ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فكيف نعرف ماذا نقبل وماذا نرفض؟ كيف نميز الواقع من الخيال والحقيقة من الخديعة؟ كيف يمكننا استخدام عقلنا النقدي في تطوير مهارات التفكير الناقد، والتي تمكننا من وضع كل ما تراه وتسمعه تحت مجهر الفكر الواعي والمنطق السليم، بعيدا عن القوالب الجامدة والأنماط السائدة، إن عدم توفر الوقت لدى الكثيرين وعدم الرغبة لديهم أو ربما لقلة خبرتهم، تعد من أهم الأسباب في الاكتفاء بتلقي الأخبار والأفكار دون تمحيص أو تدقيق وبشكل سريع على طريقة «الوجبات السريعة»، فالبعض يستمتع براحة إبداء الرأي دون أن يخوض مشقة التفكير، مما يدعو للغرابة ويُنذر بالخطورة على حد سواء، ويُظهر أننا نعيش في عصر التمييع العقلي والفكري بل والثقافي أيضا.
يعرف الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (1788 - 1860م) الفكر الناقد بأنه مجموعة من المهارات والتي تمكن الشخص من استخدام أسس المنطق السليم في الحكم على الأشياء التي تحدث حوله وتنعكس على كل قراراته واختياراته، ولذا يُعتبر التفكير الناقد فن البحث عن الحقيقة وإدراكها من خلال استخدام الشخص لإمكاناته العقلية وتوظيفها لحل أي من المشكلات التي تواجهه أيا كان زمانها أو مكانها أو تحت أي ظرف من الظروف المحيطة به، وقد أطلق عليه إجمالا "فن أن تكون دوماً على حق".
ويعتبر التفكير الناقد من الوسائل المفيدة في حل المشكلات، واتخاذ القرارات في مختلفِ المجالات سواءً المرتبطة بالتعليم أو العمل، لذلك فإن للتفكير الناقد أهمية كبيرة في تطبيق التعامل المباشر مع المشكلات، من خلال مجموعة المهارات التي يرتكز عليها والتي تسهم في تحسين قدرات الأفراد واتخاذ القرارات السليمة، وتتلخص مهارات التفكير الناقد فيما يلي:
مهارة الاستنتاج:
مهارة القدرة على تحليل كافة المعلومات، ودراستها بطريقة جيدة والوصول إلى نتائج مقترحة، من الممكن الاختيار بينها باعتبارها مجموعةً من البدائل التي تساعد على حل المشكلة. 
مهارة التفسير: 
مهارة صياغة طبيعة المشكلة والعوامل التي أدت إلى حدوثها، وتحليل عناصرها بطريقة مبسطة حتى يسهل فهمها سواء من قبل الشخص المرتبط بها مباشرةً، أو الأشخاص الآخرين الذين يساهمون في حلها. 
مهارة الاستدلال: 
مهارة البحث عن كافة الدلائل التي تساعد على ربط مكونات المشكلة مع بعضها البعض والاستعانة بكافة الآراء والخبرات المرتبطة بطبيعةِ المشكلة. 
مهارة التقييم والمتابعة: 
مهارة التأكّد من مدى نجاح التفكير الناقد في الوصول إلى الحل النهائي، والقابلية للتعديل في حال حدوث الأخطاء أثناء التفكير بحل المشكلة واختيار أفضل البدائل لحل المشكلة، ومتابعة تطبيقه للحصول على النتائج المرجوة.
ولبيان أثر التفكير الناقد على العملية التعليمية لخلق جيل قادر على مواكبة التنافسية العالمية، نعود إلى عام 1997 وهو العام الذي عُقد فيه المؤتمر الدولي السابع للتفكير في سنغافورة وحضره 2400 ممثل لحوالي 42 دولة من مختلف بقاع العالم، وفيه طرح رئيس الوزراء السنغافوري آنذاك (جوه شوك تونغ) مبادرته لتطوير التعليم في بلاده تحت شعار "مدرسة تفكر ووطن يتعلم" وطالب المسؤولين عن التربية أن يعيدوا النظر في دور المؤسسات التربوية والمعلمين إزاء الطلبة المتعلمين، وأن ينتقلوا بمفهوم التربية من التلقين إلى تنمية مهارات التفكير الناقد والاتجاه نحو التعليم على التفكير والتعلم الذاتي، مبيناً أن تقدم الوطن إنما هو مرهون بتقدم المواطن
لقد أولت سنغافورة اهتماما كبيرا لتطبيق مفهوم التفكير الناقد وتنمية مهاراته في مدارسها ضمن جهودها لتحسين عمليات التعليم والتعلم، وذلك بهدف إعداد مواطنيها للتعايش مع روح العصر واستيعاب متغيراته، وتبعا لذلك التوجه فقد تم صياغة الأهداف وصممت الخطط وذلت الجهود لضمان نجاح التجربة وتحقيق أهدافها، وقد استندت تجربة سنغافورة في تعليم مهارات التفكير الناقد إلى مقومات عديدة منها
الدعم السياسي والحكومي لهذا النوع من التعليم
القناعة التامة لدى المسؤولين عن التعليم بأهمية التفكير الناقد ودوره في بناء المواطن المتوافق مع متطلبات العصر ومتغيراته
سعى المسئولون للاستفادة من خبرات الدول المتقدمة في هذا المجال مع محاولة تطويع هذه الخبرات لتوائم الواقع والثقافة المحلية السائدة.
إعداد المعلم القادر على تعليم مهارات التفكير الناقد مع رعايته ماديا واجتماعيا باعتباره حجر الزاوية لنجاح ذلك النظام وتلك التجربة 
ولا شك أن المتتبع لتلك التجربة يدرك تماما أنها لم تنبع من فراغ، وإنما من اعتقاد راسخ بأن التعليم الجيد يمكن أن يؤدى دورا إيجابيا وفاعلا في التنمية وتطوير المواطن متى أُحسن إعداد أهدافه ورسم خططه وتم توفير مقومات وإمكانات التنفيذ، لقد أيقنت سنغافورة منذ ذلك التوجه أن التربية بمعناها التقليدي والقائم على ثقافة التلقين والحفظ والتذكر، لم تعد قادرة على مواجهة المتطلبات المتجددة والمتزايدة لمجتمع اليوم ذي التغيرات السريعة والمتلاحقة.
وقد قدم المؤلفان الأمريكيان ليندا إيلدر وريتشارد بول في كتابهما (تنمية الفكر الناقد - ترجمة دار جرير عام 2013) ويستعرض الكتاب منهج متكامل لتنمية التفكير الناقد خلال ثلاثين يوما من خلال تطبيق خطة لتحسين طريقة التفكير لتحسين جميع جوانب الحياة، وتساعد خطوات الخطة المقترحة بالكتاب في تحسين توصيل أفكارك للآخرين، كما تساعدك في تحقيق اهدافك والتحكم في انفعالاتك وتصحيح معتقداتك غير الصحيحة، حيث يقرر الكاتبان بأن جودة حياة الأشخاص تتحدد من خلال جودة تفكيرهم، ونقد بعضا من معالم تلك الخطة 
الإقرار بأنك تجهل كثير من الأمور لهذا يجب أن تسمع أكثر مما تتكلم وتتعلم أكثر مما تجادل.
تفحص مقاصدك وأهدافك وهل هناك تعارض بين أهدافك المعلنة وغير المعلنة؟
تعلم كيف تحول اتجاهاتك وتصرفاتك حسب ما استجد من متغيرات.. 
حدد بعناية الأفكار التي تستقيها وتحقق من جودة مصادرها حتى لا تكون فريسة للنوافذ الإعلامية المضللة والأخبار الكاذبة. 
شاهد مراحل تطورك وإلى أي نقطة تريد أن تصل.
تخلص من التوتر وتمهل في ردود أفعالك فيما يعرض عليك، فإن التوتر يعوق التفكير ويقتل الإبداع الناقد والتسرع قد يورث الندم وتر.
التفكير والتعلم وسائل لجعل حياتك أفضل مما كانت عليه وليس غاية في حد ذاتها.
لا تنشغل بأهداف الآخرين ولا تكن سيفا لمعارك غيرك.
قم دائما بتحليل المتغيرات المحيطة من مواطن القوة والضعف لتعظيم الفرص وتقليل التهديدات مع محاكاة المواقف الصعبة وكيفية التصرف فيها.
ضع نقطة بداية لتنفيذ استراتيجياتك وتحقيق أهدافك مهما كان الطريق طويلا فإنك بإذن الله لا محالة واصلا، المهم أن توازن بين طموحاتك وامكاناتك حتى لا تصاب بخيبات الأمل.
إن التفكير الناقد لا يأتي طبيعيا أو عفويا، وإنما يحتاج إلى التدريب المبكر حول قراءة ما هو خارج المحيط، وهو الأساس الذي تنطلق منه القواعد الراسخة للبناء الفكري، والذي يسهم في فهم وتقييم الواقع ورؤية ما فيه من اعوجاج سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع ليس بغرض الانتقاد وإظهار المساوئ وفقط وإنما من باب التقويم الذاتي والفهم الواعي وتقديم الفكر الصحيح والرؤى المستنيرة.
إننا وإن كنا قد خطونا في الماضي القريب نحو تطوير منظومتنا التعليمية وتحديث أهدافها ومضمونها بما يواكب متغيرات واقعنا المعاصر، فحريّ بنا أن نستفيد من خبرات وتجارب الآخرين في هذا المجال، وأن نعمل بقدر الإمكان على تكييف هذه الخبرات والتجارب وفقا لمقتضيات واقعنا وثقافتنا ومعتقداتنا وفى إطار ما يلبي احتياجاتنا ويحقق أهدافنا الطموحة نحو مواطن مفكر ووطن متطور.