السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الكنائس المصرية تحتفل بالغطاس.. المسيحيون في فلسطين يغطسون في نهر الأردن.. وفي مصر يغطسون في نهر النيل

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تحتفل الكنائس المصرية بمختلف طوائفها بذكرى معمودية السيد المسيح «الغطاس» أو الظهور الإلهي، وتعد المعمودية المسيحية أحد أسرار الكنيسة، والبعض الآخر يعتبرها إحدى فريضتين وضعهما المسيح للكنيسة. ولكن كل الطوائف المسيحية تتفق على ما جاء بشأن هذا الأمر حسب تعاليم الكتاب المقدس، وبخاصة ما ذكر فى العهد الجديد، وحسب ما قاله السيد المسيح لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء مباشرة: «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». (متى 28: 19-20). إن هذه التعليمات تحدد مسئولية الكنيسة فى تعليم وصايا المسيح، والتلمذة، وتعميد هؤلاء التلاميذ. ويتم تطبيق ذلك فى كل مكان («جميع الأمم») إلى «انقضاء الدهر». لهذا، فإن المعمودية مهمة لأنها وصية المسيح، إن لم يكن لأى سبب آخر.

كانت المعمودية تمارس قبل تأسيس الكنيسة. كان اليهود يعمدون المهتدين حديثًا كعلامة على طبيعة المتجدد «المتطهرة». كان يوحنا المعمدان يعمد الناس لكى يعد طريق الرب، طالبًا أن يعتمد الجميع وليس فقط الأمم، لأن الجميع بحاجة إلى التوبة. 
ولكن معمودية يوحنا التى ترمز إلى التوبة ليست هى المعمودية المسيحية، كما نراها فى أعمال الرسل 18: 24-26، وأيضًا فى 19: 1-7. إن المعمودية المسيحية لها أهمية أكثر عمقًا.
تتم المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس، وهذا ما يجعلها معمودية «مسيحية». فمن خلال ممارسة هذا السر يدخل الإنسان إلى شركة الكنيسة. عندما نخلص فإننا «نعتمد» بالروح القدس إلى جسد المسيح الذى هو الكنيسة. 
تقول رسالة كورنثوس الأولى 12: 13 «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا». إن معمودية الماء هى «إعادة تجسيد» معمودية الروح، المعمودية المسيحية هى الوسيلة التى يعلن بها الشخص عن إيمانه وتلمذته علانية. ففى ماء المعمودية يقول الشخص، دون كلمات، «أنا أعترف بإيمانى بالمسيح؛ لقد طهَّر المسيح نفسى من الخطية، والآن لى حياة جديدة مقدسة».
وتمثل المعمودية المسيحية، هى موت ودفن وقيامة المسيح. كما أنها فى نفس الوقت تمثل موتنا عن الخطية وحياتنا الجديدة فى المسيح. إذ يعترف الخاطئ بالرب يسوع المسيح فإنه يموت عن الخطية (رومية 6: 11) ويقوم إلى حياة جديدة تمامًا (كولوسى 2: 12). إن التغطيس فى الماء يرمز إلى الموت عن الخطية، والخروج من الماء يرمز إلى الحياة المتطهرة المقدسة التى تتبع الخلاص. تعبر رسالة رومية 6: 4 عن هذا بالقول: «دُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هَكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِى جِدَّةِ الْحَيَاةِ». 


الفولكلور القبطى 
قال القس بولس حليم، المتحدث الرسمى باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إن عيد الغطاس هو ذكرى معمودية السيد المسيح على يد يوحنا المعمدان فى نهر الأردن، وبنزول السيد المسيح نهر الأردن قدس المياه وأسس سر المعمودية. وذكرت بعض المصادر الكنسية أن الساعة العاشرة ليلا هى الساعة التى كانت تفتح فيها السماء وينزل منها الروح القدس ليطهر المياه من الأرواح النجسة، وأن السيد المسيح تعمد فى الساعة العاشرة ليلا وقدس مياه الأردن. 
وأضاف يعود الاحتفال بعيد الغطاس إلى عصر مار مرقس نفسه، فقد كان المسيحيون فى فلسطين يغطسون فى نهر الأردن والمسيحيون فى مصر يغطسون فى نهر النيل، وكان الاحتفال فى مصر يستمر طوال الليل إلى جوار نهر النيل، ويحضره الأب البطريرك والإكليروس، يشاركهم الوالى وكبار رجال الدولة، وكان الاحتفال ضخما يشترك فيه المصريون جميعا وتوزع فيه الهدايا، وكانوا يتجهون قرب الصباح يختتمون الاحتفال بالأفخارستيا فى الكنيسة، فلما تغيرت الظروف انحسرت الاحتفالات منذ أيام الحاكم بأمر الله، فاختزلت الكنيسة الاحتفال الكبير إلى جوار النهر، باللقان يعقبه رفع بخور باكر ثم القداس. وكانت الناس تمسك شموعا فيسمى «عيد الأنوار» لأن المعمودية فى الفكر المسيحى هى الاستنارة.
وأشار القس بولس حليم إلى الفولكلور القبطي، فقال كان المعمد يلبس ثيابا بيضاء بعد المعمودية، إشارة للحياة الجديدة البيضاء النقية التى نالها بالمعمودية، وأيضا يشرب اللبن إشارة للولادة الجديدة التى حصل عليها، فهو بالمعمودية صار له الميلاد الثانى من الماء والروح «الميلاد الأول هو الميلاد الجسدي». 
أيضا يأكل المسيحيون فى هذا العيد القلقاس والقصب، لارتباط تلك النباتات بمعانى روحية لأحداث عيد الغطاس... القلقاس يحتوى على مادة سامة ومضرة للحنجرة، وتسمى بالمادة الهلامية، وعند وضع القلقاس فى الماء تتحول هذه المادة إلى مادة نافعة للجسم، ونحن من خلال «ماء المعمودية» نتطهر من سموم الخطية، كما يتطهر «القلقاس» من مادته السامة بواسطة ماء الطهى، كما أن القلقاس يدفن فى الأرض، ثم يصعد ليصير طعامًا، والمعمودية هى دفن أو موت وقيامة مع المسيح، ولهذا يقول معلمنا بولس الرسول «مدفونين معه فى المعمودية التى فيها أقمتم أيضًا معه» (كو 2: 12) (رو 6: 4)، أما «نبات القصب» غزير المياه رمز لمياه المعمودية، وقلبه أبيض رمز الحياة الجديدة، وحلو الطعم رمز لبركة المعمودية.


معانى عيد الغطاس
فيما قال الأب رفيق جريش، المتحدث السابق باسم الكنيسة الكاثوليكية ورئيس لجنة الإعلام بمجلس كنائس مصر، يحتفل المسيحيون فى أول شهر من كل عام فى بداية السنة الجديدة بعيد الغطاس سواء 6 يناير و19 يناير حسب التقويم، وهو الاسم الشعبى المتداول بين المؤمنين لذكرى اعتماد السيد المسيح فى نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان، وأضاف فى كل سنة يتوجه المسيحيون من كافة الكنائس ويقيمون الصلوات. تركز الكنيسة على هذا الحدث التاريخى الذى يعتبر من أقدم الأعياد المسيحية، ويوازى عيد الميلاد المجيد من الناحية اللاهوتية والروحية كما يذكر فى التقليد الكنسى القديم، فيقول لنا القديس أيرونيموس: «إن المسيح أتى إلى العالم متخفيًا أما فى المعمودية فقد ظهر للعالم علنًا».
وأشار إلى أن من الأسماء التى تطلق على هذا الحدث التاريخي، «عيد الظهور الإلهى» لأن الثالوث ظهر فيه الله الأب قائلًا: «هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت»، و«عيد الغطاس» لأن عملية التعميد تتم من خلال تغطيس الطفل بالماء، و«عيد النور» لأن السيد المسيح هو نور العالم و«عيد الدنح» كما يسميه الكلدان فى العراق.
وأضاف الأب جريش أن عماد السيد المسيح على يد النبى يوحنا المعمدان نجدها فى الإنجيل المقدس، فيوحنا المعمدان كان يمهد الطريق للسيد المسيح ويدعو الناس إلى التوبة واقتراب ملكوت الله، كما وأنه دعا تلاميذه إلى اتباع يسوع المسيح حمل الله الحامل خطايا العالم. تصف لنا الرواية الكتابية أن أقدام السيد المسيح وطئت نهر الأردن وقدست مياهه، وانفتحت السماء ونزل الروح القدس، وأتى صوت من السماء يقول: هذا هو ابنى الحبيب الذى عنه رضيت. ومن هذه الحادثة يعتقد المسيحيون أن السماء فى ليلة عيد الغطاس تكون مفتوحة، والله يستجيب الطلبات والدعوات فى هذه الليلة المباركة.
وقال من العادات الجميلة التى ترافق ليلة العيد عمل حلويات خاصة به تسمى «الزلابية»، وفى القديم فى لبنان حيث كان المسيحيون يعدون الخبز فى بيوتهم تقوم السيدات بتجديد وتغير الخميرة رمز للبركة والنعمة التى تحل على الطعام والبيت والسنة الجديدة. 
أما فى مصر يأكلون نبات القصب الذى يرمز إلى ضرورة التحلى بالاستقامة فى الحياة الروحية، والقلقاس الذى ينبت وقت عيد الغطاس، ويرمز إلى انتصار الحياة على الموت. وكما جرت العادة كان المؤمنون يذهبون إلى نهر الأردن ويغتسلون هناك رمز للتطهر من الخطايا والنقاء والصفاء.
وقصة العماد يعبر عنها بالرسم فى الأيقونات، والتى نجد فيها نهر الأردن بين الصخور كالأفعى حيث ترمز التموجات إلى كلمة أردن، أى شديد الانحدار، ويقف السيد المسيح فى وسط مياه النهر، ونلاحظ أنه يبارك بيمينه المياه، مما يرمز إلى مباركة عناصر الطبيعة الأربعة: الماء والهواء والأرض والنار، ومن هنا جرت العادة أن يقوم الكاهن بزيارة بيوت المؤمنين ورشها بالماء المقدس الذى تتم الصلاة عليه خلال الاحتفال بالعيد، وأن الله يبارك كل شيء فى حياتنا.
وقال الأب جريش فى القديم، كان الماء يرمز إلى أن عناصر الشر وقوى الظلام التى تسكن فى أعماق البحار وفى الصلوات الطقسية نرتل فى ليلة عيد الغطاس الترنيمة الشعبية التى يرددها جميع المؤمنون «أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم هللويا».
وأضاف من الناحية اللاهوتية، يذكر عيد الغطاس المؤمنين بيوم عمادهم الذى هو مدخل للديانة المسيحية، وبه يلتزم باتباع التعاليم الإنجيلية وإنكار الشيطان وكل أعماله وجميع أباطيله وأتباع المسيح. وكل المسيحيون يعتقدون إيمانا واحدا وإنجيلا واحدا ومعمودية واحدة، وإلها واحدا أب لجميع الخلق.


ومن ناحية تاريخية وجغرافية نلاحظ عددا كبيرا من الدلائل تشير إلى وجود موقع المغطس مكان عماد السيد المسيح الذى يبعد عن عمان 45 كيلو مترًا إلى الغرب من العاصمة عمان، وإلى الشمال من البحر الميت، وقد ذكره يوحنا الرسول فى الإنجيل المقدس عندما قال: «هذا كان فى بيت عنيا حيث كان يوحنا يعمد» (يو 1: 28)، مما يثبت أن يوحنا المعمدان عمد السيد المسيح فى بيت عنيا.
وفى اللوحة الفسيفسائية التاريخية التى تعتبر أقدم خريطة دينية فى العالم الموجودة فى كنيسة القديس جورجيوس للروم الأرثوذكس فى مادبا، والتى يعود تاريخها إلى القرن السادس، نجد أن موقع بيت عنيا الذى ذكره القديس يوحنا موجود فى الضفة الشرقية من النهر على الخريطة التى لا تزال شاهدة إلى يومنا هذا. وقد أكد المؤرخون من خلال مذكراتهم الذين كتبوها، ونذكر منهم على سبيل المثل لا الحصر، ثيوديسيوس وأنطونيوس والقديسة هيلانة الذين أكدوا أن طريق الحج والصلاة كان من القدس إلى بيت عنيا ومن ثم إلى مادبا.
وما دفع الكنيسة والحكومة ممثلة فى وزارة السياحة والآثار الأردنية إلى الاهتمام بهذا الموقع هو الاكتشافات الأثرية التى تم الكشف عنها منذ 1996. وهذه الجوهرة الثمينة هى عبارة قرية دينية متكاملة تشمل تسع كنائس وبرك للعماد وكهوف للرهبان وتل مارالياس وأرضيات فسيفسائية جميلة ونقوش وكتابات، وقد حافظت اللجنة المشرفة على الموقع على طابعه الأثرى والذى يعود تاريخه إلى حقبتين مهمتين، الأولى هى العصر الرومانى من القرن الأول إلى الرابع وهى الفترة التى عاش فيها السيد المسيح والقديس يوحنا المعمدان، والثانية هى العصر البيزنطى من القرن الرابع إلى القرن السابع الميلادى؛ حيث بلغ الموقع عصره الذهبى عندما اعتمدته هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين.
ونلاحظ أن أهمية مكان عماد السيد المسيح الروحية والدينية والتاريخية والوطنية والسياحية واللاهوتية تزداد يومًا بعد يوم؛ لأنه يعتبر مركز انطلاق المسيحية للعالم. إن السيد المسيح ولد فى بيت لحم بشكل مخفى، وعاش حيلة صامتة متواضعة، ولم يكشف عن نفسه ورسالته لأن ساعتها ووقتها لم يأت بعد، ومن بيت عنيا أشرقت شمس المسيحية للعالم، وبدأ السيد المسيح رسالته بشكل علنى ومباشر لكل العالم، وأرسل تلاميذه ليعلموا ويبشروا ويعمدوا كل العالم.

مَعْموديَّة المسيح ومَعْموديَّتنا فى المسيح

أما القس سهيل سعود فقال اللاهوتى الإنجيلى المُعاصر «كارل بارت»، قال إنَّ سِرَّ المعمودية تأسَّس فى الكنيسة لأنَّ يسوع المسيح نفسه قَد اعتمد فى نَهْر الأردن. فالمسيح اعتمَد، وأوصى تلاميذه بالمعمودية قائلًا: «دُفِع إليَّ كل سلطان فى السماء وعلى الأرض، فاذْهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أنْ يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كلّ الأيام إلى انْقضاء الدهر» (متى 28: 18). وهكذا إطاعةً لأمر المسيح الذى اعتمد، نحن نعتمد.
وأضاف هناك علاقة وثيقة بَيْن معمودية المسيح ومعموديتنا فى المسيح. وحتى نفهم هذه العلاقة لا بُدَّ أنْ نُفكّر أولًا فى بعض معانى معمودية المسيح، لنرى ما تحمله من معانٍ لمعموديتنا. فإذا تأمَّلنا فى السِّياق الذى تكلَّم فيه إنجيل لوقا لتوضيح سبب معمودية يوحنا المعمدان للمسيح، نرى أنَّه كان يعمِّد الناس بمعمودية التَّوبة لمَغفرة الخطايا، وهو يقول لهم: «توبوا، لأنَّه قد اقترب ملكوت الله... أنا أعمِّدكم بماء، ولكن يأتى مَن هو أقوى منِّي، الذى لسْتُ أهلًا أنْ أحلَّ سيور حذائه، هو سيعمِّدكم بالروح القدس ونار» (لوقا 3: 16). ويُخبرنا البشير متَّى أنَّ كرازة يوحنا المعمدان ومعموديته لاقَت إقْبالًا كبيرًا مِن الناس، إذْ يقول: «حينئذ خرج إليه أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن، واعتمدوا منه فى الأردن مُعترفين بخطاياهم» (متى 3: 5). هذا الإقبال الكبير مِن قِبَل اليهود على معمودية يوحنا المعمدان، لَمْ يكُن اعتياديًا، بل كان مُفاجئًا. لأنَّ اليهودى لَمْ يكُن يَقْبل أن يعتمِد أبدًا. 
فالمعمودية التى كانت مُمارسة مُتَّبَعَة فى الدِّين اليهودي، كانت تُفْرَض فَقَط على المُهْتدين إلى الإيمان اليهودى مِن الأديان الأخرى، الذين يرغبون فى اعتناق اليهودية ليصيروا مِن شعب الله المُختار. فمعمودية المُهْتدين هذه، كانت ترمز إلى تطهير قَلْب وحياة الناس الخطاة من غير اليهود، لكنَّها لَمْ تكُن تُطبَّق على اليهود، لأنَّهم اعتبروا أنفسهم مِن شعب الله المُختار وأنَّهم أولاد إبراهيم غَيْر المُحتاجين للمعمودية. إلاَّ أنَّ الأمر غَيْر الاعتيادى الذى حَدث فى معمودية يوحنا للتوبة، هو أنَّ أولئك اليهود الذين لَمْ يقبلوا فى السَّابق أن تُطبَّق المعمودية عليهم، قَد أقْبلوا الآن بأعداد كبيرة ليَعْتمدوا مِن يوحنا المعمدان مُعترفين بحاجتهم إلى التَّوبة والرجوع إلى الله لينالوا غفرانه. وهذا معنى أساس يتضمَّنه مفهوم معمودية يوحنا المعمدان للتوبة.
لكننا نسأل إن كان الناس أولئك المعتمدين من المعمدان قد أدركوا حاجتهم للتوبة ولمغفرة الخطايا فأقبلوا للمعمودية. فلماذا أقبل المسيح الرَّب إلى المعمودية كما أقْبَل الناس آنذاك؟ فيقول لوقا: «ولما اعْتَمَد الشَّعب اعْتَمَد يسوع أيضًا» (لوقا3: 21). فهل للسبب نفسه؟ حاشا وكلاَّ. فهل يُعقل أنَّ الذى يستَقْبل التائبين ويَغْفر خطاياهم يحتاج للتوبة؟ طَبْعًا لا، فيسوع الرَّب، الله الذى تجسَّد وحلَّ بَيْننا، لَمْ يكُن بحاجة للتوبة ولمَغْفرة الخطايا. إذًا فلماذا صمَّم ذاك الذى كان بلا خطية ولَمْ يوجد فى فمه غش، أن يعتمد مِن يوحنا المعمدان كما كان الناس يعتمدون؟ لقد أقبل المسيح للمعمودية ليقدِّم نموذجًا عن حاجة الإنسان إلى الله، وللتَّضامُن مع الناس فى هذه اليَقْظة الروحية الجديدة، لكى يؤكِّد حاجتهم وحاجة كلّ إنسان لاختبار حضور الله فى حياته مِن خلال توبته واعترافه بخطاياه. فى هذا السياق يمكن أن نفهم جواب المسيح ليوحنا المعمدان عندما حاول مَنْعه مِن المعمودية مِنْ قِبَلِه، فأجابه: «اسْمَح الآن، لأنَّه هكذا يليق بنا أن نُكَمِّل كل بِرٍّ، حينئذ سَمَحَ له» (متى 3: 14 و15). فالمسيح الرَّب لَمْ يكُن يُفكِّر فى نفسه بمَعْزل عن الناس، بَلْ كان كلّ همّه التفكير فى جميع الناس، وتلبية حاجاتهم، ولا سيَّما الروحية منها. لهذا اعتمد معهم واعتمد لأجلهم، ليقدِّم فى معموديته درسًا لاهوتيًا عميقًا تعبِّر عنه معنى معموديتنا، ألا وهو حاجتنا القُصوى إلى حضور الله فى حياتنا. ويَصِف البشير متى معمودية المسيح، ويقول: «فلمَّا اعتمد يسوع صَعِدَ للوقت مِن الماء، وإذا السَّموات قد انْفَتَحَت فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة وآتيًا عليه، وصوتٌ مِن السَّموات قائلًا هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت» (متى 3: 16 و17).
وقد علّق اللاهوتى الإنجيلى «بولتمن» على حدث معمودية المسيح قائلًا: (إنّ حدث المعمودية يوجِّه أنظارنا، لا إلى ما عَنَت المعمودية للمسيح، ولكن إلى ما تعنيه لنا). ففى حواره مع نيقوديموس حَوْل الدخول إلى ملكوت الله، قال المسيح له: «الحقّ الحقّ أقول لكَ إنْ كان أحد لا يولَد مِن الماء والروح لا يَقْدر أنْ يدخُل ملكوت الله» (يوحنا 3: 5). وقد فَهِمَت الكنيسة أنَّ هذا القول إشارة إلى المعمودية المسيحية بالماء والروح القدس، التى من خلالها ندخل الكنيسة كجماعة الإيمان لنُصبح مواطنين فى ملكوت الله.
وبالنسبة لمعمودية الماء، يَقول الرسول بولس إنَّ معموديتنا بالماء، وإنْ اتَّخَذَت مُمارستها أشكالًا مُتعدِّدة، فهى ترمز إلى اتِّحادنا مع المسيح فى موته وقيامته. وحتى يوضِّح هذه الفِكْرة، استخدم صورة المسيح وهو يعتمد فى نَهْر الأردن، فقال للكنيسة: «أمْ تَجْهلون أننا كل مَن اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لمَوته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للمَوت، حتى كما أُقيم المسيح مِن الأموات بمَجْد الآب، هكذا نَسْلُكُ أيضًا فى جِدَّة الحياة؛ لأنَّه إنْ كنَّا قَدْ صِرْنا مُتَّحدين معه بِشِبْه مَوْته، نَصير أيضًا بقيامته» (رومية 6: 3-4). فنزول المسيح فى الماء يَرْمز إلى الدَّفن والمَوْت، وخُروجه من الماء يرمز إلى القيامة والحياة. وبالتالى يقصِد بولس أنْ يقول إنَّ معموديتنا بالماء تَرْمز إلى دَفْنِنا وإماتَتِنا لخطايانا مع المسيح، وخروجنا معه من الماء، يَرْمز إلى قيامتنا معه أبرارًا إلى حياة جديدة. أمَّا بالنسبة لمعمودية الروح القدس، فاستخدام يوحنا المعمدان لكلمة «نار»، «هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» (لوقا 3: 16) تشير إلى مدى فاعلية وتأثير معمودية المسيح بروحه القدوس، عندما نتَّخذه ربًَّا ومُخلِّصًا لحياتنا. فالنار تُطهِّر وتُنظّف وتُزيل ما لا يستطيع الماء أن يُنظِّفه ويزيله. والنار تدفىء، وتَخْلق قوة دفع كبيرة. وهكذا فإنَّ معموديتنا بالروح القدس (أى امتلاءنا مِن حضوره بالإيمان)، تطهِّرنا وتنظِّفنا وتزيل من حياتنا كلّ خطايا الفساد والأنانية والكبرياء وغيرها، وتجعلنا قديسين كما هو قدوس. معمودية الروح القدس تخلق فى حياتنا قوة، كقوة النار، فتدفئنا بدِفء حرارة محبة وسلام ورجاء المسيح. معمودية الروح القدس تخلق فينا قوة دفع كبيرة لتكريس قلوبنا وأفكارنا وإرادتنا له، فنخدمه بغَيْرة وأمانة وإخلاص. إنَّ الروح القدس الذى حلَّ على المسيح أثناء المعمودية مُترافِقًا مع صوت الله الذى أعْلَن بنوَّة المسيح له، هو نفسه يُعلن بنوَّتنا له عند معموديتنا بالروح القدس. وهذا ما أكَّده الرسول بولس فى (رومية 8: 14) «لأنَّ كل الذين ينقادون بروح الله فاؤلئك هم أبناء الله، إذْ لَم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بَلْ أخذتم روح التَّبنِّى الذى به نَصْرخ يا أبا الآب». 
بالايجاز، وممَّا تقدَّم حول معمودية المسيح لتكميل كلّ بِرٍّ، وتعليم المسيح والرسول بولس حول ارتباط معمودية المسيح ومعموديتنا فى المسيح، هناك بَعْض المعانى الجوهرية التى يجب أنْ نتذكَّرها حول المعمودية المسيحية بالماء والروح: فالمعمودية تشير إلى حاجة الإنسان القُصوى إلى حضور الله فى حياته.
والمعمودية بالماء ترمز إلى اتِّحاد المؤمن بموت وقيامة المسيح للعَيْش معه فى جدَّة الحياة. والمعمودية بالروح القدس، التى هى عمل المسيح فينا بالإيمان، تطهِّرنا من خطايانا، وتدفئ قلوبنا بحرارة سلامه ورجاءه، وتعلن أننا أولاد الله، وتَخْلق فينا قوَّة دفع كبيرة لخدمة ملكوته.