رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الصناعات اليدوية المصرية.. مسيرة إبداعية مميزة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تحول الصيف الحالي إلى علامة مميزة وباعثة على التفاؤل في مسيرة إحياء الصناعات الحرفية والمنتجات التراثية المصرية عبر مبادرات رائدة وأنشطة متعددة تعبر عن إدراك أصيل لأهمية تلك الصناعات المتصلة اتصالا وثيقا بقطاعات متعددة في الثقافة والاقتصاد والسياحة.
وعالم الصناعات اليدوية "بخياله وأياديه الذكية" يقع في قلب المخيال الاجتماعي للأمم فيما تتحرك مصر بمبادرات على أعلى المستويات لحماية التراث وإعادة إحيائه بينما تعد الصناعات اليدوية والمنتجات التراثية جزءا أصيلا من الصناعات الإبداعية.
وتلك الصناعات تتضمن طيفا واسعا من الأنشطة يدخل فيها ما يعرف "بالحرف الجميلة" مثل الحفر على الخشب والزجاج والفخار والمشغولات النحاسية والسجاد ومنتجات الكروشيه والقلائد والحلي والقناديل والمشكاوات وكلها منتجات أبدع فيها المصريون عبر تاريخهم المديد.
وإلى جانب أحياء شعبية مصرية كحي الحسين حيث تتجلى مشغولات الحرفيين المهرة وتتناثر الورش المتصلة بالصناعات التراثية الإبداعية في الخانات "كخان جعفر" و"الدرب الأصفر" ناهيك عن خان الخليلي وهي ورش تشكل في الواقع "مدارس حرفية لأجيال جديدة" فإن مصر تزدان بمراكز تشكل علامات في هذا العالم وتحتضن مبادرات رائدة على هذا الصعيد "كمركز الفسطاط للحرف التقليدية".
وفي هذا المركز "بحي مصر القديمة" تتأهل أجيال جديدة من المبدعين في الحرف التقليدية والتراثية وتتوهج مواهب مصرية في مشغولات الحلي والصدف وأعمال النحاس والخزف والخيامية كما يجري تنفيذ مبادرات تلبي مطالب واقتراحات طرحت في مناسبات متعددة حول ضرورة "الاستفادة من شيوخ الحرفيين وكبار الأسطوات لتدريب أجيال جديدة في عالم الصناعات اليدوية والمنتجات الحرفية والتراثية".
وفيما أعلن "صندوق التنمية الثقافية" التابع لوزارة الثقافة عن مد فترة المشاركة "بمبادرة صنايعية مصر" للتدريب المهني والحرفي بمركز الفسطاط حتى التاسع والعشرين من شهر أغسطس الجاري ، فمن نافلة القول ان دعم الصناعات اليدوية والحرف التقليدية والتراثية يعني دعم "القوة الناعمة لمصر" بقدر ما ينطوي على مكاسب اقتصادية تحققها بالفعل الدول التي قطعت أشواطا بعيدة على هذا المضمار.
وفي "قرية تونس" على ضفاف بحيرة قارون بمحافظة الفيوم تنعم العين بفنون "الفخار" التي يتعلمها الصغار في "مدرسة للخزافين" فضلا عن ورش قدمت مواهب مصرية استحوذت بابداعاتها في هذا الفن التراثي على الإعجاب قي معارض عالمية كما اشتهرت منتجات تلك القرية المصرية من الفخار في دول أوروبية من بينها بلجيكا وفرنسا.
والأمر لا يقتصر على الفخار ففي هذا الصيف احتضنت قرية تونس برنامجا صيفيا لتعليم الحرف اليدوية لمدة أربعة أسابيع وتضمن هذا البرنامج أعمال النحاس والسيراميك ناهيك عن الخزف وكلها أنشطة تتميز بها محافظة الفيوم.
وتبنت هذا البرنامج الذي اختتم في السابع عشر من شهر أغسطس الجاري في سياق جهود مكثفة لدعم جهود إحياء الصناعات والحرف اليدوية في الريف المصري منصة "فن جميل" الإبداعية الداعمة للتراث والتعليم والفنون التي أسست في شهر فبراير الماضي وينشط فيها فنانون "باتيليه القاهرة" ويتركز جانب كبير من أنشطتها على رعاية الحرف اليدوية فيما يقع مقرها الرئيس بالقاهرة في "مركز الفسطاط للفنون والحرف التقليدية".
ولا ريب أن "العصر الرقمي" يتيح إمكانات متعددة لتسويق المنتجات الحرفية والتراثية المصرية عبر شبكة الإنترنت وتوظيف قدرات الشباب للاستفادة من تلك الإمكانات فيما باتت مواقع ثقافية كساحة الأوبرا حاضنة من حين لآخر لمعروضات لافتة لشباب مصري.
وكان المجلس التصديرى للصناعات اليدوية في مصر قد أعلن في مطلع شهر أغسطس الجاري أن المستهدف من الصناعات اليدوية "تحقيق نمو في صادرات القطاع تصل نسبته إلى 15 في المائة خلال عام واحد" وهو العام الأول لتنفيذ "البرنامج الجديد لدعم الصادرات".
وإذا كانت الصناعات جزءا أصيلا من الصناعات الثقافية الإبداعية فإن هذه الصناعات الإبداعية كقطاع حيوي في الاقتصاد العالمي تتضمن مجالات شتى مثل الفن التشكيلي والتصميمات والحرف اليدوية والعاديات والتحف والأزياء والأفلام والفيديو والتصوير الفوتوغرافي والألعاب التفاعلية والإعلانات والبرمجيات والموسيقى وتهتم بشكل جذري وحاسم بالابتكار.
ووفقا لما ورد في كتاب "صعود الطبقة المبدعة" لريتشارد فلوريدا وهو استاذ جامعي امريكي وباحث ومنظر في الدراسات الحضرية فإن الاستثمار المنتظم في الأبحاث والتطوير للإبداع بالولايات المتحدة ارتفع من خمسة مليارات دولار عام 1953 إلى أكثر من 250 مليار دولار في بداية الألفية الجديدة.
وحسبما ذكر الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق فإن الأرقام الدولية المجمعة تفيد بأن حجم السلع والخدمات الثقافية المصدرة سنويا يقدر بنحو 640 مليار دولار، وتستحوذ الولايات المتحدة وحدها على نحو 142 مليار دولار من صادرات هذه السلع والخدمات الثقافية وبشكل ما يفوق ما تصدره من سلع وخدمات في مجالات الزراعة والطيران.
وفيما تهيمن الولايات المتحدة على مجال الصناعات الإبداعية فإن هذه الصناعات الإبداعية القائمة على التفكير بصورة غير تقليدية وإنتاج أفكار جديدة بعيدا عن النمطية تسهم بنسبة قدرها 3 في المائة من الاقتصاد الخاص بالاتحاد الأوروبي وتبلغ القيمة السوقية لهذه الصناعات هناك نحو 500 مليار يورو ويصل عدد العاملين فيها لنحو ستة ملايين شخص.
وفي بريطانيا تقدم الصناعات الثقافية والإبداعية دخلا قوميا يزيد أربع مرات عن الدخل الذي تقدمه الزراعة وصناعة صيد الأسماك وأعمال الغابات فيما تقدر نسبة العاملين في هذا القطاع الثقافي والإبداعي بنحو 6,4 في مائة من مجموع القوة العاملة في البلاد.
وأشار الدكتور شاكر عبد الحميد إلى أن بنك الاستثمار الأوروبي يقوم بتقديم الدعم للصناعات الإبداعية في دول الاتحاد الأوروبي وتمويل دراسات الجدوى لهذه الصناعات فيما تجاوز إنفاق الصين على هذا النوع من الصناعات في عام 2009 الـ97 مليار دولار.
والصناعات الإبداعية موضع اهتمام عالمي خاصة في عالم الشمال كما يتجلى في الصحافة الثقافية الغربية التي باتت تتحدث باستفاضة عن المدارس والاستثمارات وخطط العمل والمحفزات والإنجازات في هذا القطاع الثقافي الذي يقوم على الإبداع وتلبية متطلبات البشر للجمال كما أن بلدا كالهند بات يحتل مكانة متقدمة للغاية على مستوى الصناعات الإبداعية التي تحظى أيضا باهتمام زائد في إندونيسيا.
وتوجيه الاهتمام نحو الصناعات اليدوية التي تقع في قلب الإبداعية المتصلة بقوة بالسياحة يمكن أن يجعل من "مصر المبدعة" مركزا أو محورا لمنطقة تشكل قلبا ثقافيا عالميا جنبا إلى جنب مع كونها قلبا صناعيا وتجاريا وسياحيا في عالم القرن الواحد والعشرين وبما يحقق العائد الأمثل من استغلال الموقع العبقري لمصر الخالدة.
وثمة اقتراحات متعددة طرحت عبر الصحف ووسائل الإعلام المتعددة حول إمكانية تمويل المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر للصناعات اليدوية بقروض مصرفية بسيطة ومتواضعة الفائدة لدعم هذه الصناعات التي تحظى بفرص نجاح في التصدير وينتشر العاملون فيها على امتداد الخارطة المصرية.
والصناعات اليدوية في مصر تتنوع بصورة تعبر بوضوح عن مدى ثراء الشخصية الإبداعية المصرية حتى أنها تحافظ على مهن مثل "صناعة البراميل الخشبية" من الاندثار ويتمسك أصحابها بمثل تلك المهنة الفريدة صامدين في مواجهة "طوفان البراميل المعدنية والبلاستيكية منذ سبعينيات القرن الماضي".
ونظرة لمواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيس بوك" تكشف عن مبادرات شبابية بالتعاون مع أصحاب وشيوخ المهن التراثية لتوثيق الصناعات اليدوية المصرية وخلق فرص عمل للشباب من خلال ورش عمل مجانية.
ولاريب أن الصناعات اليدوية والحرف التراثية بقدر ما تعزز العلاقة بين الأجيال الشابة والتراث المصري المضيء تبرهن على قدرة المصري المعاصر في إبداع المزيد من الأفكار التي تتجلى في منتجات مبهجة وجاذبة للسائحين.
والمشهد الحالي للصناعات اليدوية المصرية يكشف عن مشاريع تحمل الكثير من الإشارات الدالة لحقيقة تنوع الصناعات الإبداعية وتطورها وإمكانية أن تكون محفزا لمزيد من المشاريع الصغيرة التي تسهم في توفير فرص العمل للشباب على وجه الخصوص وتفرز منتجات مصرية تعبر عن النجاح في إدارة التنوع كما تعبر ببلاغة وبساطة عن "معنى لقاء الأصالة والمعاصرة في إطار الهوية المصرية، وإن عرف بعض أساطين الصناعات اليدوية في ورش مصرية وخاصة في القاهرة المعزية بلمسات فريدة من أجواء ألف ليلة وليلة في منتجاتهم التراثية وابداعات في نقش حكايات التراث على النحاس المطعم بالفضة فإنهم في الواقع يقدمون مزيدا من الإجابات لأسئلة طرحها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين منذ عام 1937 في كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر" كبلد يمتلك ما يكفي من "القوة العاملة الإبداعية" ويتميز دوما بانفتاحه الثقافي.
ولاريب أن مشاريع المدن الجديدة كنافذة مصرية فسيحة على العالم تشجع المناخ المواتي للصناعات الإبداعية وتيسر الانتقال السريع للمعرفة والأفكار في عالم يتجه اقتصاده اليوم في الجوهر إلى "الاقتصاد الإبداعي".
ومع هذا الصيف الذي شهد مبادرات رائدة وجهودا مخلصة لدعم الصناعات اليدوية المصرية فإن المشهد يؤشر بوضوح لإمكانية أن تتحول هذه الصناعات إلى مصدر مهم للدخل القومي بقدر ما تتسق مع الرسالة الحضارية لمصر الخالدة.