السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«هكذا أفكر».. بيت الأشباح

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
"من الجدير بالتوقف هنا فكرة أن الخيال العلمي في تاريخه القديم قد نشأ في كنف الخطاب الفلسفي، فنحن نذكر ضمن العشرة كُتّاب الضروريين في التاريخ القديم للخيال العلمي أسماء مثل تلك التي ذكرناها أعلاه، وهم جميعهم فلاسفة قبل كونهم مشتغلين على عوالم التخييل التي نلحقها بهم. وهذا يدلنا بوضوح على حميمية الصلة بين الخيال العلمي والخطاب الفلسفي، صلة تدعمها الموضوعات التي أسلفنا الإشارة إليها: الإنسان- الله- الزمن- الموت- المصير.
ليس جوهر المسألة في أسماء جمعت التخييل إلى التدليل، أو جماليات السرد إلى فعاليات الدرس، الجوهر متعلق في الواقع بطريقة النظر إلى الحقيقة؛ أي في الميكانيزمات العميقة للوعي بالعالم، في ترتيب افكارنا، في طريقتنا غير الواعية في فهم عالمنا وتشكيل خطابات معينة حوله. أي بتجربة الوعي عند الإنسان وبخصائص مدارج حدوث المعرفة عنده...إذ يبدو أن هنالك نمطين من الحقيقة؛ الحقيقة السردية والحقيقة الدرسية، حقيقة التحليل وحقيقة التمثيل...
في بعض محاوراته يقف سقراط قبالة رفقائه الطلبة بعد مقاطعة ما متسائلا: والآن ماذا تريدون أواصل عرضي أم أروي لكم حكاية؟
الطريق إلى الحقيقة قد يتأتى مما يسميه الله "ضرب الأمثال" من خلال رواية أقاصيص مرتبة حسب استراتيجيات عاقلة عالمة عاملة ، كما تتأتى من خلال العرض الفلسفي المعهود المعتمد على التحليل والبرهان والاستقصاء والتمثيل المجرد والصيغ العقلية التجريدية."
يأتيني هذا النص من كتابي السابق "أفق الدراسات الثقافية"، تماما مثلما تفعل الأشباح: تخرج من كتاب وتدخل في كتاب آخر بواقعية الأشباح المهيمنة المعروفة.
تنويعات
في الملهى الليلي الذي هو بيتي اسهر كثيرا. أنا المريض بضغط الشرايين والذي من المفروض أن أترك الليل للجسم كي يرتاح... بيتي ملهى ليلي – حسب تعبير صديقي ورفيق رحلتي العقلية الفيلسوف الجزائري الشاب جمال بلقاسم - أو هو بيت للأشباح كما تقول زوجتي – الشاعرة وسيلة بوسيس- التي علقت ذات يوم على الصمت المخيم على البيت في أوقات كثيرة من اليوم والذي لا يقطعه شيء عدا أصوات الفلاسفة والكتاب؛ الأشباح الذين حينما يحضرون يهيمنون على البيت و يستحوذون على كل الاهتمام. 
الشبح غياب يلبس ثوب الحضور، ولكنه غياب شديد الحضور فهو يصبح في لحظة ما أشد حضورا من كل حضور.
صوت ما يقول من هنالك: الشعر يكسر جدار الحتميات و يتلاعب باللوغوس. الشعر يعيش على الإمكانيات المستحيلة في المسارات والتي هي في الحقيقة مسارات ممكنة للاحتمالات المتحولة بفعل الولع المرضي بالهروب من غرفة "وهم" الحقيقة إلى غرفة "الحقيقة الأزلية المطلقة" للمجاز.
من قال هذا؟ هايديغير أم أنا؟ تراه ريلكه أم أندري بريتون؟ 
لم أعد أذكر، ولا يهم كثيرا أن أذكر.
الأشباح تعرف بدرجة الإثارة التي تثيرها لا ببطاقات هويتها. والجمال هو الإثارة وليس تعريفا في قاموس أو جملة أنيقة في كتاب مصاب بحمى الظهور.
الأشباح كيان مكتف بذاته ولا أحد يقول للشبح: من علمك أن تكون شبحا. كذلك كل من يتعلمون الشعر جيدا يعجزون عن كتابته. الشعر حالة نصاب بها؛ تماما كالهوية. 
الشعراء وحدهم يولدون شعراء– حينما يولدون كذلك – ولا يموتون إلا وهم شعراء.
صوت آخر يأتي من بيت الأشباح هذا (أم تراه الملهى الليلي الذي تصدح فيه موسيقى الأدب والفلسفة بلا سبب وتنقطع ليجيء غيرها بلا سبب)...يقول: المعاني كواكب سيارة لا تهدأ ابدا. ولا تتعطل. ولا يتم ركنها أبدا. لها دوما هدف تسير صوبه. تحركها استراتيجية محكمة وتدفعها قوة كبيرة. هنالك ذكاء كبير يستوطن المعاني ويدفعها صوب الشعر لأنه هو وحده القادر على إخراجها من عدمية الجمهورية الأفلاطونية إلى حركية المسارح الإغريقية. الجمهورية مكان يوطوبي (اليوطوبيا هي اللامكان كما سيعلمنا طوماس مور) ولا يعول عليه كثيرا، أما الشعر فيسير في الأسواق، يعرفه الناس ويقفون تحية وتصفيقا وتهليلا له.
لماذا لا يهلل الجمهور للفلاسفة على المنصات؟
لا شبح يجيب. الأشباح لا تجيب هي تتكلم فقط. تشبه أن تكون اصداء بلا أصوات تصدر عنها. لا تصاب بعرضية الصوت ولا بهشاشة الصدى.
صوت آخر يقول: لا داعي لكل هذه الجلبة، الفلسفة والشعر كلاهما تجربة في التلاعب بالحدود. الحياة مسألة عتبات و حدود والشعر والفلسفة يعملان دوما على دفع الحدود أبعد؛ على نبذ حد لتعويضه بآخر. على تغيير زوايا النظر القديمة لأجل تعويضها بأخرى. أليس السطر الشعري اختراع لحد جديد في اللغة؟ 
السطر الشعري قانون لغوي جديد، وما يحدث في اللغة هو عينه ما يحدث داخل الحياة، وإنما أمر الحياة إذا أرادت شيئا أن تقول للشعر: كن. فيكونان. 
ماذا عن التاريخ؟
نحن نعي التاريخ كمدرسة أكثر جدية من الشعر وأقل تهويما في التنظير وأقل تلاعبا بالقناعات الواضحة من الفلسفة، فهل أننا مخطئون في تقدير أساطير الأولين هذه؟
من كتابي السابق يأتيني شبح صوته كصوتي يقول: "حينما نقف على الحدود الرابطة بين النص التاريخي والنص السردي التخييلي نكون بصدد الربط بين طرفين: التفكير من خلال التدليل والسببية والصلات المنطقية الخاضعة للسلاسل العللية المعروفة في الخطاب الفلسفي والخطاب العلمي، وكل ما أحالنا على مقولات الواقعية، والتفكير من خلال التخييل اي باختراع صورة عن الواقع تمنحنا إمكانية ثرية لخلق تقابلات نفكر من خلال تموقعنا في المسافة بين الطرفين المتقابلين جراءها. سيكون هنالك في النهاية طرفان اثنان: أحدهما هو المسجل للحياد عن راهن الواقعية و راهن الرواية التاريخية إلى ممكن الالتقاء بينهما، وثانيهما المسجل للحياد عن راهن السرد التخييلي المخاتل و المرتكز ارتكازا تاما كاملا على عامل الإيهام بالحقيقة، سعيا صوب سرد تلاعبي يكذب و يكشف أكاذيبه مرتكزا على إحداث لذة اكتشاف الأكذوبة، و اللذة الأكبر التي هي متعة رؤية عمل يتشكل تحت أعيننا."
هنالك حكمة خطابية كبيرة أدركها أشخاص من أمثال: جيمس جويس ويرجينيا وولف، إنها طريقتهما المعروفة في تفتيت التجربة البشرية، في تقديم صور عن الحياة الداخلية التي يبدو في اعمالهما دوما ثابتة متكررة. 
شبح ما يقترح: الحياة هي الموت بشكل شاعري. من قال هذا؟...ليست مشكلة كبيرة. الاشباح تقول ولا تهتم بالمؤلف. المؤلف هو الشبحية نفسها. المؤلف مسألة زمنية والشبح منشغل بالحقيقة وبالخلود. الشبح وحده المتحرك والخلود للمتحرك كما نعرف.
الأخبار تقول إن فيرجينيا وولف كانت تشبه الشبح في حياتها؛ صامتة، منزوية، تكتب في عزلة، مريضة باستمرار، نعيش على الحد بين الحياة والموت، وحدها الكتابة كانت تعطي صوتا للشبح الذي كانته وولف، المرأة التي صورت عالما شاسعا يبدو أنه لا شيء يحدث فيه، ولكن عالم لاشيء فيه يظل على حاله. عالم فيه كثير من التقاطعات بين الحكايا الصغيرة، التي يضيء بعضها بعضا، ويحور بعضها بعضا...عالم ينتهي إلى كسر أفق المجتمع البشري.
أليست حياة خؤلاء الشباح ذات الكابع الشعري حياة فلسفية؟
لا يهم، فالأشباح غير معنية بالأسئلة. هي حمالة أجوبة فقط.
خلاصة القول:
من الجميل المثير للتأمل ما أورده الفيلسوف الألماني ايريك اورباخ في كتابه البديع "ميميزيس؛ حول تمثيل الواقع في الأدب الغربي" قوله: "لدينا ثقة أكبر في التوليفات التي يتم الحصول عليها من خلال تعميق الظروف اليومية أكثر من المعالجة العالمية ، التي يتم ترتيبها زمنياً ، والتي تتبع هدفها من البداية إلى النهاية ، وتسعى جاهدة إلى حذف أي شيء خارجي مهم و يسلط الضوء على نقاط التحول الكبيرة في الحياة لجعلها مفاصل المؤامرة "
الشعر والرواية أكثر صلابة في أذهاننا من التاريخ والفلسفة إذن، وإن كانت السبل القائدة صوب الحقيقة (يا لها من كلمة هشة في هذا العالم!) تظل بالفعالية نفسه، أوربما يقول شبح أخر إنها تظل بالعجز نفسها لأن حقيقة الأشباح تحيل على الخيبة دائما في العالم القديم الذي لا يزال يسمى "الواقع".