السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحكومة العصرية ومقامات رفاعة الرمزية «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ونواصل ما بدأناه فى الجزء الأول من هذا المقال، فنقول إن رفاعة الطهطاوى ينزع- مع ابن مسكوية «ت ١٠٣٠م» وابن الأزرق «ت ٨٩٦م» وابن خلدون «ت ١٤٠٦م» وغيرهم من فلاسفة السياسة فى الحضارة الإسلامية وكذا بتاثير من فلاسفة العقد الاجتماعى توماس هوبز «١٥٨٨- ١٦٧٩» وجون لوك «١٦٣٢ – ١٧٠٤» وجان جاك روسو «١٧١٢- ١٧٧٨»- إلى تحديد حقوق الراعى والرعية، أى ما يجب على الحاكم فعله تجاه المحكومين وما ينبغى على المحكومين فعله تجاه الحاكم. ويقول: «فالملك يستحق من الرعية ما كان لازمًا لذاته الملوكية، بما فى ذلك إعانته على حمل أعباء المملكة، واحترامه وتوقيره، ومن حقوقهم عليه أن يكون أشد أمته قناعة ويظفر بتأييد معظمهم اقتناعًا بقدرته واستحقاقه، وهو عدوه الجبن والرخاوة فى تنفيذ القانون، ومع جمال هيئته وهندامه لا ينبغى له أن يكون أكثرهم مالًا، بل إن ثروته الحقيقية يستمدها من حسن تدبيره وكثرة إبداعاته وإنجازاته، وأن يكون دومًا جسورًا وجنديًا شجاعًا وقائدًا مغوارًا وسيفًا صارمًا على كل من يهدد أمن الوطن واستقراره، وأن يكون ميزانًا عادلًا أمام الرعية، وقاضيًا بالمقاصد الشرعية لصلاحهم وإصلاحهم وإسعادهم، وهذا لن يتحقق إذا سكنت فى روحة الأنانية أو شغلت ذهنه العصبية، ولا يحق له توريث الملك إلا بموجب العهود والمواثيق والشروط والقوانين التى مكنته من حكم الرعية، وخولت له اختيار من يخلفه من أبنائه على نفس الشروط، على أن يخضع الملك المرشح إلى امتحان من قبل الرعية الممثلة فى علمائها وحكمائها «أهل الحل والعقد» وأن يكون الامتحان وميدان المفاضلة فى النواحى العقلية والطباع الأخلاقية وقوة البنية الجسمانية» 
ويصف ذلك الطهطاوى على لسان الراوى قائلًا: «اجمعوا جميع الحكماء والعقلاء المشهورين لامتحان من يصلح للمملكة والرياسة وتجربة عقله وتدبيره وحكمته والكياسة، فالقصد تولية ملك قوى البنية والبدن ماهر لا يخطئ سهمه وغرضه الإصابة، ويكون عقله مزيدًا بالحكمة ومكارم الأخلاق والآداب المستطابة، ويكون دأبه الاستقامة». 
ويصف الطهطاوى مراسم تتويج الملك المنتخب، فيبين أنه بعد تمامه المسابقات الرياضية والفوز على أكثر المتسابقين فى المصارعة والسلامة البدنية، ينتقل إلى الاختبارات النفسية والعقلية، وذلك أمام هيئة من الفضلاء يتميزون باللطف والجد، وأطلق عليهم «أرباب الحل والعقد» متأسيًا فيما ذهب إليه كما ذكرنا بأرباب السياسة الشرعية ونوابغ فلاسفة نظم الحكم الغربية- ويقول عن خصال أهل الحل والعقد المنوطين باختيار الحاكم: «إنهم تجردوا عما يسيئ لعقولهم من مكدرات النفسانيات وشوائب أغراض المشيب، فلا تميل نفوسهم إلى الهوى ولا يغويها شيطان كغيرها من النفوس الجاهلة، فلا ينطقون إلا عن حكمة وأدب، وفصل الخطاب ونتيجة أعمارهم فى التخلق بالأخلاق الحميدة والآداب «وهم العلماء والفلاسفة»- أى هيئة ارستقراطية علمانية. 
ثم امتدح الطهطاوى دستور البلاد بقوله: «هذا كتاب فى الشرائع كريم يرشد الناس إلى سلوك الطريق القويم والصراط المستقيم لتنال الرعية الخير والسعادة، والأعظم منهم الذين بأيديهم كتب الأحكام التى يكون بها فصل القضاء بين الناس والإبرام، فهو أول من يحكم على نفسه بها ويجعلها هى الحاكمة عليه، ويستضئ بنبراس ناموسها الذى هو أبهى نبراس لديه، فالشرعية هى الحاكمة لا الملك، فالحاكم الحقيقى هو نصوص الدستور وأخلاق من يطبقونه باسم الرعية». 
ويفاضل رفاعة الطهطاوى بين أشكال الحرية (الفوضوية- الحرية المشروطة بالقوانين- الحرية المسئولة بحسن تصرف الأفراد وقناعتهم) فيبين أن الحرية الحقيقة يجب أن تنبع من الداخل- فالالتزام أصدق من الإلزام فالأول لا فكاك منه لأنه من الداخل، والثانى يحتاج لقوة تؤيده وتضرب على أيدى المنكرين والعابثين والمتلاعبين بالعقول- حرية عاقلة تتفق مع الأوضاع الكائنة والمصالح المرسلة لا تخالف شرعا ولا تنقض عهدا، ويقول: «إن أشد الناس تمتعًا بالحرية المطلقة من يستطيع أن يكون حرًا فى الرق نفسه وفى العبودية المحققة، وألا يخشى غير الله أحد فى البرية، والإنسان ذو الحرية الصحيحة هو المجرد عن كل خوف من المخلوقات وعن ميل النفس للذات والشهوات، يعصى نفسه وهواه، ولا يطيع إلا مولاه، ولا يفعل شيئًا قبل عرضه على ميزان العقل وصحيح النقل.... أما أشقى الناس فمن سلب الرعية حريتهم وبالقسوة سجنهم وسيسهم وقيدهم، وظن أن الملك لا يتحقق إلا بإذلال الرعية، وهو شقى أيضًا فلا ينفذ سهم الحق ولا صوت الصدق إليه من ازدحام النفاق والتملق عليه، فضل وعجز عن إدراك الفارق بين الحقوق وإدراك ما يجب عليه فعله إرضاء للخالق والمخلوق». 
وعندى أن رفاعة الطهطاوى تعمد عدم الفصل بين الكثير من الثنائيات «السياسة والأخلاق، الواقع والمأمول، المنقول والمعقول، المثال والواقع» بداية من تصوره لشكل الحكم، ثم صفات الحاكم وعلاقته بالرعية، وسلطة الأمة الممثلة فى أهل الحل والعقد والدستور ونصوصه ووعى الرأى العام، وأخيرًا فى مفهوم الحرية، وسوف نقتصر بهذا القدر من مقامات الطهطاوي، فقد انتقينا أهم الأفكار التى أراد غرسها فى وعى العقل الجمعي، ولاسيما- كما ذكرنا ما اتصل منها بالفلسفة الخلقية والسياسية وتشكيل عقول الطبقة الوسطى- فى ذهن صفوة المثقفين الذين سوف يحملون الراية من بعده للإصلاح وبناء مصر الحديثة، وذلك بعد تهذيب وتطبيق خطاب الاستنارة ليصبح مشروعًا وليس خطابًا لنهضة الأمة.