الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

باحث شاب جلس على مائدة اللاهوتيين الكبار

باحث شاب جلس على
باحث شاب جلس على مائدة اللاهوتيين الكبار
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
روبير إيليا: التقليد محور الخلاف بين منهج المسكين والبابا شنودة 
البابا تواضروس بدأ مقاومة الفساد بمحاولته تقنين أوضاع المزارع والمنشآت الربحية
طاقة الفساد تستمد قوتها من غياب الوعى عند الشعب


ظهر مؤخرًا بين الشباب القبطى جيل جديد يقتحم كهوف العلم الكنسي، ويتخطى حواجز كثيرة وضعت منذ قرون تحيط بعلم اللاهوت، ومن بين هؤلاء لمع نجم الباحث الشاب روبير إيليا، فقد أدهش الوسط الكنسى لصغر سنه وعمق أفكاره وكتبه، لذلك يمثل نموذجًا لمستقبل البحث فى الكنيسة، ويعطى الأمل بأن المقبل أحلى، وفى هذا الحوار نقترب أكثر من عقل مرتب منظم.
< ما الدافع الذى قادك للبحث اللاهوتى؟
- تنقسم إجابة هذا السؤال لشقين، لا يقلان أهمية عن بعضهما، أولًا: إننا نؤمن بأن كل إنسان مسيحى هو لاهوتى فى الأصل، بل وفيلسوف بحسب ما قاله القديس إكليمندس السكندري، كونه لاهوتيًا، لأن لفظ لاهوت باليونانية يعنى «الكلام عن الله»، فكل مسيحى هو وارث الكلمة «اللوغوس» الناطق بالروح القدس عن اللاهوت.. وفيلسوف، لأن أيضا كلمة فلسفة «فيلو سوفيا تعنى حب الحكمة»، وكل إنسان مسيحى هو محب للحكمة، لأن «اللوغوس» هو الحكمة الحقيقية النازلة من فوق، من الآب السماوي، فهذا ليس أمرًا مقتصرًا على شخص فى الكنيسة ولا مقتصرا حتى على الإكليروس من رجال الكهنوت فقط.. بل إننا نؤمن بأنه كما أن كل الكنيسة كهنة، فأيضًا كل الكنيسة فلاسفة ولاهوتيين بشكل أو بآخر.. وإن كان يوجد تهميش وتعطيل وتعجيز متعمد يحدث للشعب القبطى لإشعاره بالعجز وعدم الاستطاعة أمام دراسة اللاهوت والدراية به، لأسباب يطول شرحها.
ثانيًا: ما يتعلق بجانبى الشخصي، لا أرى اللاهوت بكونه منفصلا عن أى من سائر مناحى الحياة، نحن نرى حقيقة ذواتنا، حقيقة العالم والحياة، حقيقة الآخر بنور اللاهوت الذى ينيرنا فى الكنيسة، كل شىء ينجلى بوضوح عند تأمل سر المسيح، وهذا بالحقيقة تعليم أرثوذكسى أصيل ليس من عندياتي.
فى مرحلةٍ ما اطلعت على مدارس لاهوتية- فلسفية عدة، بدايًة بأصول الفلسفة اليونانية ثم المعاصرة، مرورًا بالديانات الشرقية، والتى أقرب للفلسفة من الدين بمفهومنا، وحتى التيارات اللاهوتية المسيحية بمختلف أنماطها، ولكنى لم أجد الحقيقة تنجلى بشكل ذاتى ومُطلَق سوى فى الإيمان المسيحى القديم، أى الأرثوذكسي.
< وهل البحث اللاهوتى الآن يعتبر مجالا للشباب أم للشيوخ؟
- هنا يجب أن نميِّز بين البحث وحب النهل من منابع الكنيسة، والذى اتفقنا أنه من طبيعة كل مسيحى، بل واحتياج قائم عند كل مؤمن فى الكنيسة، وبين سلطان «الحل والربط»، الذى هو فقط لمن هم قائمون على ذلك باختيار الكنيسة وبموهبة روحانية.. ونحن نصلى لذلك فى القداس الإلهى لأجل «الآباء الذين يفصلون كلمة الحق باستقامة».. لا أقدر مثلًا أن أقول من ذاتى كذا هو الإيمان الصائب أو كذا، إما أن أستقى فيما أقره الآباء المساقين بالروح القدس فى التقليد المقدس.. أو أن أنتظر آبائى المعاصرين أن يفصلوا الحق باستقامة.
< وكيف ترى عبارة «بينما يتباحث اللاهوتيون يتسلل البسطاء إلى ملكوت السموات أو الجنة»؟
- توجد مشكلتان رئيسيتان بهذه العبارة، أولًا: أنها تقسم الكنيسة لفريقين «بسطاء» و«فئة أخرى أقل إيمانًا»، والمشكلة الثانية أنها تفترض أن اللاهوت أمر معقد.. وبالتأكيد الافتراضان يجانبهما الصواب، الكنيسة ليست فئات، كل المسيحيين بسطاء، وكل المسيحيين يحبون اللاهوت ويحيونه ويعاينونه فى الكنيسة وكتابات الآباء والكتب المقدسة التى يحبونها ويلازمونها كل وقت.
ولكن تعليقى على هذه العبارة، أن الواقع أثبت أنها محاولة لتحييد اللاهوت الكنسى الأرثوذكسى عن الحوارات لصالح التقليد المبتدع والمستجد الذى يميل إليه البعض ويرتكن إليه، فاللاهوت الحقيقى أبدًا ليس معقدًا، وأبدًا ليس مادة للجدل والتعقيد، بل هو محبب جدًا لكل نفس تحب الله بالحقيقة وترغب فى رؤيته.
< ما تعريف «علم الآباء».. وما أهميته للكنيسة؟
- أكاديميًا، هو دراسة كتابات وأقوال آباء الكنيسة فى القرون الأولى داخل سياقاتهم الزمنية والثقافية.. إلخ، ولكن داخل الكنيسة، الأمر يختلف بعض الشىء.. حيث إنه لا «علم» بالمفهوم الأكاديمى داخل الكنيسة، والذى يقوم على الدراسة والدراية الفكرية.. فلنا، كأرثوذكس، الآباء هم أعضاء فى جسد المسيح، ونحن فى شركة معهم، ليست شركة فكرية فحسب، ولكن شركة كيانية كاملة، لهذا فالتأمل فى كتابات الآباء ذو أهمية شديدة فى الكنيسة، إذ إنهم الناطقون بالتقليد المقدس، ويمثل علم الآباء للكنيسة أهم دعامات عمودها الفقري، إن جاز التعبير، والذى هو التقليد المقدس، الذى يحفظها به الروح القدس فى شركة واحدة ومسيرة واحدة لا تحيد عنها، والأهم الإيمان واحد، لا يتغير فى القرن الأول عن القرن الواحد والعشرين.
< ما الفرق بين أقوال الآباء وقوانين الآباء؟
كلمة «قانون» عند الآباء يُراد بها أنها كالمسطرة التى تقيس استقامة أو انحراف أى شىء بجانبها.. ولم يكن يُقصَد بها أنها قانون الخارج عنه يُعاقَب، لذا فكثير من الآباء، بالأخص الذين أسسوا حيوات رهبانية كانت لهم قوانين.. وتوجد أيضًا قوانين الرسل، وتوجد قوانين المجامع.
فقوانين الرسل والمجامع موضوعة للكنيسة ككل، لذا الكنيسة كلها تقدس تلك القوانين كميزان إلهى للحق.. أما القوانين التى كانت تقتصر على مكان أو وضع معين، أو زمن معين، كما أوضح مجمع قرطاجنة فى القرن الرابع، فلا يجب أن نُلزِم الكل بها.
أما أقوال الآباء، فهى كل ما قاله الآباء للتعليم أو للصلاة، وهو نافع لحياتنا الروحية، إذ إن الآباء القديسين بلغوا الكمال الروحي، فكل ما نأخذه عنهم «روحيًا» هو نافع بل وحيوى لنا.
< كيف ترى مستقبل البحث فى الكنيسة القبطية؟
- مبهم تمامًا، أغلب الشباب محبط وفاقد للأمل فى تهيئة أى مناخ للبحث الأكاديمى برعاية الكنيسة.. الكثيرون، وأنا منهم، يتطلعون بأمل نحو قداسة البابا تواضروس، إذ إنه أبدى رغبة حقيقية فى تشجيع التيار التعليمى فى الكنيسة.. ولكن، الواقع حتى يومنا هذا هو أن المهرجانات والأنشطة والرحلات تبدو لأغلبية القائمين على الأمور أهم وأكثر فائدة للكنيسة من البعثات والمراكز العلمية القائمة على الترجمة ونشر الأبحاث الأرثوذكسية.
وتوجد طاقة كبيرة وإمكانيات حقيقية عند الشباب القبطى للتخلص من حالة الجهل والتغييب والتغرب عن الأرثوذكسية التى نحياها، ولكن يبدو أنه لا توجد خطة أو نية لدى الكنيسة لرعايتها.. فكل الحراك الشبابى الحالى هو نتاج مجهودات مستقلة لدى شباب يتحمل كلفة الطباعة والنشر، ناهيك عن البحث ذاته لما فيه من كلفة شراء المراجع الأجنبية الغائبة عن المكتبة الكنسية العربية.
فنحن نتعجب بشدة عندما نجد الكنيسة لا تهتم بتخصيص أشخاص للبحث والتعليم الكنسى وإنتاج الكتابات الأرثوذكسية التى تحتاج لها الكنيسة اليوم، بل يقع الحمل بوطأته كلها على استعداد الفرد للاقتطاع من وقته ومعيشته ليقوم على هكذا عمل.. أرى أنه أمر يدعو للتعجب أكثر من أى شىء.
< لماذا لا يقبل الأقباط على الكتابات البحثية العميقة؟
- لعوامل كثيرة، قد يكون أهمها، هو حالة التغييب التى يغرق فيها القبطى حتى أذنيه، فهو لا يؤمن بأنه يقدر على فعل أى شىء أو تغيير واقعه، فيهرب لسير القديسين، والتى بالتالي، امتلأت فقط بالمعجزات الغائبة عن حياته والتى يشتاق لها.
ثم إن الأمر عرض وطلب، يوجد متربحون كثر من هكذا منتجات، سواء الأفلام أو الكتيبات، وهم يتلاعبون بمشاعر الإنسان القبطى ويقدمون له هذه الفانتازيا على أنها الأرثوذكسية، وتظل دورة رأس المال تحكم.
وأخيرًا، لأنه لا يوجد بديل حقيقى وقوى حاضر فى المكتبة القبطية..أعنى أنه لو ترك القبطى هذه الكتب، هل يوجد بديل أرثوذكسى آبائى مبسط يقدرون على أن يستقوا منه تصورًا عن الحياة الكنسية الحقيقية؟ للأسف، لا يوجد قصور حقيقى فى هذا الجانب، نحن لا نملك سوى ترجمات عن النصوص الكلاسيكية الآبائية، والتى ترجمها مركز دراسات الآباء بمجهود جبار وتحت ضغوط يكافئهم الله عنها، وبعض الدراسات القليلة هنا وهناك.. وانتهى الأمر.. فلابد من توفير بديل أرثوذكسى حقيقى ونشره فى المكتبات وأظن أن هذا ليس صعبا على الكنيسة إن أرادت.
< أين تكمن الاختلافات بين منهج الأب متى المسكين والبابا شنودة؟
- يمكن تلخيص الاختلاف فى نقطة واحدة بسيطة وهي: التقليدية، الأب متى المسكين كان أمينًا جدًا فى بحثه عن التقليد، ولاحظ أن الظروف فى بداية حياة الأب متى لم تكن تساعد على ذلك، كانت المراجع الآبائية فى غاية الندرة، إن وجدت، ولم يكن يوجد أى شخص قائم على توفيرها أو تنظيم البحث عنها وفيها، وفى وسط كل هذا ترهبن الأب متى وأنتج كتابً «حياة الصلاة الأرثوذكسية»، الذى كان ولا يزال وسيظل من علامات الروحانية الشرقية الأرثوذكسية، كتاب يلخِّص سيرة الأب متى فى انطلاقه للاهوت من الصلاة والحب الإلهى وأقوال الآباء.
على الناحية الأخرى، يبدو لنا جيدًا أن ذات الظروف التى أنتجت شخصًا كالأب متى يخطئ مرة فيصحح مساره ويصيب مرات.. تخرج لنا أيضًا الأنبا شنودة الثالث. فخرجت لنا كتاباته بعيدة عن التقليد ولا تعتد به، 
ولهذا كان الصدام محتمًا، بين سلطة لا تعترف بالتقليد، تشوه الليتورجيا -العبادة - والطقس الكنسى والرهبانى، وتحرم لاهوتيى الكنيسة القلائل، وبين روحانية تتفتح فى وادى النطرون مستعيدة الحلة القديمة للقديس أبومقار لابس الروح.
< كيف ترى وجود مجموعات وصفحات إلكترونية كـ«حماة الإيمان» تخرج للساحة مؤخرًا؟
هذه المجموعات أبعد ما تكون عن أن تكون دارسة لأى شىء، وأى مبتدئ فى الدراسة اللاهوتية يدرك الأخطاء الفادحة التى يرتكبونها كلما فتحوا أفواههم أو صفحاتهم.
ولكن المُحزِن فى الأمر أنهم يجدون تمويلًا وتشجيعًا، بل وتوجيهًا من بعض الأساقفة الذين يستعملونهم كذراع إلكترونية للضغط على قداسة البابا، بل وإهانته حينًا، ولتكفير وهرطقة كل من يدرس اللاهوت الأرثوذكسى الذى يفضح عوار تراثهم أحيانًا أخرى.
وأتذكر العظة التى وصفهم بها قداسة البابا، بأنهم «صفحات صفراء»، وأنه لا يوجد شىء اسمه «حماة الإيمان»؛ لأن الإيمان لا يحتاج لحامٍ.وكانت هذه الكلمات لقداسة البابا تمثل تحذيرًا أبويًا لهم ليرجعوا عمَّا يفعلونه، خاصة بعد أن كتب بعضهم منشورات شامتة فى استشهاد الأنبا إبيفانيوس، وشك كثيرون فى تورطهم بشكل غير مباشر فى التحريض، أنا لا أعلم حقيقة أىٍ من هذا، ولكن جاءت كلمات البطريرك بمثابة رسالة واضحة لهم بأن ما يفعلونه غير مقبول كنسيًا.
< كيف ترى الخروج من الحالة العصيبة التى تمر بها الكنيسة الآن؟
- أرى أن الكنيسة يجب أن تعمل على محورين، لا يمكن الاستغناء عن أحدهما، الأول أن ترعى الشباب الذين يمثلون أملًا للخروج من ظلمة التراث البائد، وتضع خطة حقيقية وتصورًا واقعيًا لكيفية وضع طاقاتهم للعمل واستثمارها، وتأسيس ساحة حقيقية للحوار الكنسى والتعرض للقضايا محل النقاش، بدون التعرض لتكفير وهرطقةـ بل وتهديدات أحيانًا، كما هو حادث الآن.
والثانى، لابد من مواجهة الفساد الإداري، والذى يحميه البعض مستغلين سلطانهم الروحي، والذى فى سبيل حمايته والانتفاع من ورائه، يتم استغلال القضايا اللاهوتية كحجة للتصفيات المعنوية التى يقومون بها فى حق كل من يقاوم هذا الفساد.
وأظن أن قداسة البابا بدأ بالفعل بمقاومة هذا الفساد بمحاولته تقنين أوضاع المزارع والمنشآت الربحية، التى كان يتفرد البعض بإدارتها والتربح منها، مما أثار هياج بعض «الصفحات الصفراء» عليه.
فالكنيسة محكوم لها بالحياة لا الموت، ولكن طاقة الفساد تستمد قوتها من غياب الوعى عند الشعب، وهذا الوضع بسهولة ينحل، ويرتفع إن عاد الوعى الكنسى المستقيم للشعب المحب للمسيح.. إيماننا ورجاؤنا أن يحفظ الله الكنيسة بصلوات قداسة البابا وحكمته ورعايته، ويعطى حكمة وتدبيرًا صالحًا لكل الرعاة والأساقفة والكهنة والخدام.