السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

بعد 16 عامًا على رحيله.. عبد الرحمن بدوي يملأ الدنيا ويشغل الناس

عبد الرحمن بدوي
عبد الرحمن بدوي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مع اقتراب الذكرى السادسة عشرة لرحيله عن الحياة الدنيا، يتجدد الجدل الصاخب حول الدكتور عبد الرحمن بدوي أحد ألمع المثقفين المصريين والعرب ككل، فإذا بهذا الفيلسوف الكبير والأكاديمي المتعدد الاهتمامات؛ يملأ الدنيا ويشغل الناس.
وعبد الرحمن بدوي الذي ولد في شهر فبراير عام 1917 ببلدة "شرباص" في محافظة دمياط وقضى في القاهرة يوم 25 يوليو 2002 هو بحق من أغزر المفكرين انتاجا ثقافيا في مصر والعالم العربي، وقد أصدر أكثر من 150 كتابا ما بين تأليف وترجمة وتحقيق، غير أن مذكراته التي صدرت عام 2000 في جزءين أثارت ومازالت تثير الكثير من الجدل لحدة الانتقادات التي وجهها لرموز في عالم السياسة وشخصيات شهيرة في الحياة الثقافية المصرية والعربية.
وكان أول كتاب لعبد الرحمن بدوي قد صدر في عام 1939 عن الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه بعنوان "نيتشه" لتتوالى كتبه التي تشكل علامة خالدة في الثقافة العربية وتتناول في أغلبها شخصيات ومواضيع وقضايا فلسفية وأدبية مثل: "آداب الفلاسفة" و"ارسطو" و"افلاطون" و"ابن رشد" و"ابن عربي" و"اشبنجلر" و"الأدب الألماني في نصف قرن"، و"الإنسانية والوجودية في الفكر العربي"، و"التعليقات لابن سينا"، و"المؤامرة والحب"، و"تاريخ التصوف الإسلامي"، و"حياة هيجل" و"شوبنهاور". 
وإذ يذهب البعض لاعتبار الدكتور عبد الرحمن بدوي أول فيلسوف وجودي مصري لتأثره الكبير بالفلاسفة الوجوديين في أوروبا وعلى رأسهم الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، فإن عنوان أطروحته للدكتوراه كان "الزمان الوجودي"، فيما تنسب عدة مصادر لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قوله عند مناقشة هذه الأطروحة بجامعة القاهرة يوم 29 مايو 1944:"لأول مرة نشاهد فيلسوفا مصريا".
ولئن عرفه قسم الفلسفة بكلية الآداب في جامعة القاهرة كطالب نابغ ومدرس وأستاذ لا يشق له غبار، فإن الدكتور عبد الرحمن بدوي قام بتأسيس قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة عين شمس كما تألق كأستاذ في معهد الدراسات الإسلامية بجامعة السوربون الفرنسية الشهيرة ضمن مسيرته الأكاديمية والثقافية البالغة الثراء والمتعددة المحطات. 
وكأحد أهم أساتذة الفلسفة في الجامعات المصرية والعربية الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي أجاد إلى جانب العربية عدة لغات أجنبية من بينها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والفارسية واللاتينية والإسبانية واليونانية.
وعلى تعدد كتبه؛ ها هو الجدل يتجدد بقوة عبر منصات الصحف ووسائل الإعلام قبيل حلول الذكرى السادسة عشرة لرحيله ويتركز على مذكراته الصادرة بعنوان "سيرة حياتي" والتي تضمنت آراء بشأن رموز وشخصيات اعتبرها البعض "صادمة"، فيما وصفت الكاتبة سناء البيسي بطرافة مفرداتها واستعانتها بقول أولاد البلد: "لسانه زي الفرقلة"!
غير أن هذه الكاتبة الكبيرة في جريدة "الأهرام" لاحظت أن هذا المثقف الكبير وأستاذ الفلسفة اللامع؛ "تعرض للتجاهل والتحجيم واسدال الستار ووأد كل ما يأتي على ذكره وذكراه"، رغم "الاعتراف غير المعلن بتفرده وأنه أستاذ أساتذة الفلسفة في العالم العربي".
وهكذا سكت الجميع عن "تقريظ الحصان البري الجامح الذي لم ينجح أحد في استئناسه"؛ على حد وصف سناء البيسي التي اعتذرت بأنها لا تستطيع "سرد كل ما جنح إليه بدوي من طول لسان وافتراءات" طالت في نظرها العديد من الرموز والشخصيات العامة والثقافية والأكاديمية مثل أستاذ الفلسفة الراحل الدكتور زكي نجيب محمود الذي ذهب عبد الرحمن بدوي إلى أن "مستوى كتاباته لا يزيد على مستوى طالب في المرحلة الإعدادية".
وأعادت للأذهان أن عبد الرحمن بدوي لم يوفر في هجومه وانتقاداته البالغة العنف شخصيات مثل الشيخ محمد عبده والمفكر العملاق عباس محمود العقاد وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين والكاتب والأديب أحمد أمين والطبيب الجراح الشهير علي إبراهيم، فضلا عن ساسة في حجم سعد زغلول ومحمود النقراشي ومصطفى النحاس والدكتور محمود فوزي.
وإذا كان الدكتور عبد الرحمن بدوى صاحب المقام الرفيع في عالم البحث والفكر والمكانة المحفوظة في تاريخ الفكر العربي قد هاجم هذه الأسماء الكبيرة من أعلام الثقافة المصرية والعربية بأعنف الألفاظ، فليس من المدهش ان يصف الكاتب الصحفى الراحل أحمد بهاء الدين بأنه "شيوعي قح يتلون بألوان مختلفة بحسب الظروف"، أو يقول عن الكاتب الراحل عبد الرحمن الشرقاوي انه "متعدد الأطوار يدور من اليمين إلى اليسار ويجمع بين عمامة الإسلام وكاسكيت الشيوعيين".
أما رأيه في المفكر الراحل وأستاذ الفلسفة الدكتور زكي نجيب محمود، فهو: "راح يكتب مقالات أدبية سطحية في مجلة (الرسالة) معظمها تلخيص بسيط ساذج من كتاب ول ديورانت (قصة الفلسفة) وهو كما يدل عليه اسمه كتاب تافه جدا، سطحي جدا يتوجه لعامة المبتدئين في الثقافة"!
وفي هذه المذكرات التي أحدثت دويا وتداعيات ورياح غضب لم تتوقف؛ يسخر عبد الرحمن بدوي من الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية في المرحلة الناصرية ورئيس الوزراء في مطلع المرحلة الساداتية.
وكان الكاتب المصري الراحل ورئيس تحرير مجلة "الهلال" الأسبق مصطفى نبيل قد اعتبر من قبل أن هذه المذكرات بمثابة نوع من الأخذ بالثأر، فيما قال الكاتب والناقد اللبنانى جهاد فاضل إن عبد الرحمن بدوي لجأ للصراحة اللفظية غليظة القلب وحطم رموزا تاريخية لها مكانة رفيعة في الوجدان المصري والعربي.
ويتساءل جهاد فاضل: "هل سر ذلك أنه عمل كثيرا ونال قليلا، أم لأنه موهبة نادرة لم تنل التقدير الكافي؟"، فيما يشير إلى أن أحدا لا يستطيع أن ينكر فضله على الثقافة العربية، فالكتب التي ألفها وترجمها وحققها كثيرة إذ أنه ترك لنا مكتبة تحتل مكانة علمية كبيرة.
وفي مجلة "العربي" الكويتية التي تعنى بالقضايا الثقافية، كان وزير الثقافة المصري الأسبق والكاتب والناقد والأكاديمي الدكتور جابر عصفور قد تناول طرفا من علاقته بالدكتور عبد الرحمن بدوي أثناء عملهما معا في ثمانينيات القرن الماضي كأستاذين بجامعة الكويت.
وضمن ذكرياته عن عمله بجامعة الكويت وتحت عنوان فرعي: "نوادر عبد الرحمن بدوي"، قال جابر عصفور إن بدوي كان من أبرز أساتذة قسم الفلسفة في كلية الآداب بهذه الجامعة، غير أنه كان يعمل حينئذ تحت رئاسة تلميذه الدكتور فؤاد زكريا، فيما يقول: "لم يسترح نفسيا للطريقة المتعالية التي يتحدث بها عبد الرحمن بدوي"، في لقاءات جمعت بينهما.
ويخلص القارئ إلى أن العلاقة بين عبد الرحمن بدوي وجابر عصفور كانت "متوترة"، فيما ينقل عصفور عن الدكتور فؤاد زكريا قوله له عندما ذهب ليشكو له من تصرفات بدوي: "رغم أنني رئيس القسم الذي يعمل فيه الدكتور عبد الرحمن بدوي ورغم أنه أستاذ لي وأحترمه كل الاحترام، فإنه لم يقل لي صباح الخير أو تحية من هذا القبيل لست سنوات مضت". 
ولم يغفل عصفور وصف الدكتور عبد الرحمن بدوي بالبخل الشديد، وهي صفة تحدث عنها غيره أيضا، فيما ينقل وصف فؤاد زكريا للدكتور بدوي بأنه "رجل سيئ الظن بالبشر كما أنه لا يحب الصحفيين ومن في حكمهم".
وفي مواجهة الانتقادات الحادة التي طالت عبد الرحمن بدوي في الآونة الأخيرة قال الكاتب الدكتور عبد الرشيد محمودي إن بدوي سيظل هدفا للنقد "وإن كان هذا النقد يفتقر في معظمه إلى ترتيب صحيح للأولويات"، موضحا أن "الاهتمام بالفيلسوف المصري الراحل ينصب أساسا على الجوانب السلبية من شخصيته وأعماله".
ورأى عبد الرشيد محمودي المعروف باهتماماته الثقافية الموسوعية في جريدة "الأهرام" إن هناك ما يبرر تلك الانتقادات السلبية، فالعيوب المستهدفة في حياة الرجل واضحة ولا يمكن الدفاع عنها ومن ذلك استعلاؤه وأحكامه الظالمة والجارحة على كثير من أعلام عصره وزملائه وحدة طباعه وشدة بخله وتقتيره على نفسه"، أو تغليبه "الكم على حساب الكيف" في كتبه وأعماله، وكذلك "الاطناب المخل بالتناسب والاتساق".
وقال محمودي: "لقد أتيح لي بحكم دراستي للفلسفة أن أطلع على بعض أعمال بدوي واستعين بها في كتاباتي كما أتيح لي عندما عملت في منظمة اليونسكو بباريس ان التقيه واقترب منه شيئا ما"، موضحا أن بدوي كان "يتحاشى التقارب ويقاوم من يحاول الاقتراب منه على الصعيد الشخصي".
وأشار إلى أنه قام ذات يوم بإهداء بدوي نسخة من كتابه "كتابات طه حسين بالفرنسية"، وكان يطمع في تعليقاته على محتويات الكتاب أي مقالات طه حسين وعلى جهد المؤلف الذي اكتشف تلك المقالات ونقلها إلى العربية؛ "ولكن شيئا من ذلك لم يحدث"، موضحًا أنه اكتفى حينئذ بتصحيح خطأ ورد في الكتاب بشأن أحد التواريخ في حياة الأديب الألماني الأشهر جوتة.
وتابع: "قلت لنفسي: هذا هو التصرف المتوقع من عبد الرحمن بدوي.. أنه ينأى بنفسه عن الغير"، معتبرا أنه كان فيما يبدو يعاني من "جفاف حياته العاطفية ولم يعرف عنه أنه كان له أصدقاء خلصاء"؛ ليكون الانطباع الرئيسي الذي خرج به عبد الرشيد محمودي عن الدكتور بدوي أنه "رجل وحيد أو متوحد وهذا التوحد كان من صنعه إلى حد ما إذا تذكرنا برنامج العمل الرهيب الذي فرضه على نفسه منذ بداية حياته العلمية". 
وفيما يشير عبد الرشيد محمودي إلى جفاف الحياة العاطفية للدكتور عبد الرحمن بدوي الذي لم يتزوج أبدا، توميء الكاتبة سناء البيسي لإعجاب بدوي بالمطربة الراحلة اسمهان وحرصه على زيارة قبرها، كما تومئ لمشاعر حب أبداها حيال فتاة ألمانية تدعى "يوهنا جابلر"، فضلا عن علاقة رومانسية مع "الفاتنة الهولندية هندريكة"، التي تقول سناء البيسي إنه تعلق بالأدب الهولندي من أجلها.
غير أن عبد الرشيد محمودي الذي كتب من قبل عن عبد الرحمن بدوي في كتاب صدر منذ نحو عشر سنوات بعنوان "أدباء ومفكرون"، استدرك قائلا: "إلا أن التركيز على الجوانب السلبية في حياة الرجل وأعماله من شأنه أن يصرف الانتباه عما هو مهم حقا؛ أي إنجازاته الفكرية واسهامه في اثراء الفكر العربي وأن ينسينا أن بدوي كان رغم كل شيء أكبر أستاذ للفلسفة وأهم فيلسوف في العالم العربي في القرن العشرين".
ومضى محمودي في الحديث عن صاحب كتب "دون كيخوتة"، و"ربيع الفكر اليوناني"، و"عيون الحكمة"، ليقول إن الأعمال الفلسفية النظرية للدكتور عبد الرحمن بدوي مثل "الزمان الوجودي"، و"هل يمكن قيام أخلاق وجودية؟"، و"دراسات في الفلسفة الوجودية"، مازالت تنتظر من يتناولها بالتحليل والنقد.
وإذ ينوه محمودي إلى تنوع الاهتمامات الثقافية لصاحب "فاوست"، و"فلسفة الحضارة"، و"فن الشعر الأوروبي المعاصر"، وتعددها ما بين اهتمامات فلسفية وأدبية ودراسات تاريخية وموسوعية ومشاريع للترجمة، فإنه يبدي أسفه لأن بدوي "لم يركز على بحوثه الفلسفية النظرية".
والسبب في عدم تركيز بدوي على بحوثه الفلسفية النظرية كما يرى محمودي أنه كان "مدفوعا برغبة عارمة في كسر كل الحواجز وتحدي كل العقبات والالمام بكل شيء وتحقيق ما لا يستطيع غيره تحقيقه".
ومن الممكن أن يقال أيضًا إنه كان يشعر بأن هناك مهمة تاريخية كبرى ملقاة على عاتقه وأنها تدعوه هو وحده إلى النهوض بها وهي مهمة التمهيد لدراسة الفلسفة دراسة جادة، وكان يريد في ما يبدو أن يجعل من نفسه جسرا تستعين به الأجيال التالية من الطلاب والباحثين بغية العبور إلى مراحل جديدة من الابتكار، ولقد وفر لهم بناء على ذلك تلك الأدوات اللازمة وشق لهم الطرق التي يمكن أن يسلكوها وحدد لهم الغايات والمقاصد البعيدة التي ينبغي السعي إليها ومازالت تلك الكتب الجسور في حاجة إلى الدراسة الفاحصة وتدعو إلى الإفادة منها؛ كما يقول محمودي.
ومن جانبها رأت البيسي أن "قيمة الفيلسوف بدوي الحقيقية أنه يمثل جسرًا بين الحضارات الغربية والشرق من خلال قدرته الفائقة على مخاطبة العقل الغربي دفاعا عن الإسلام وفي فضحه لأخطاء حركة الاستشراق".
وقالت: "ومن هنا يرفرف الفيلسوف بجناحين: الأول يأخذه إلى سماء الفكر الأوروبي ليحاور الثقافة الغربية كواحد من أبنائها والثاني يطير به نحو الينابيع البعيدة في التراث العربي الإسلامي فيكشف عن مناجم الذهب التي دفنها جهل المحدثين"، ومن ثم فلا غرابة إذا وجدناه يكتب عن أفلاطون وأرسطو وشبنهاور وكانط وجوتة ولوركا وبريخت ونيتشه، كما يكتب عن ابن رشد وابن باجة وابن طفيل والفارابي ورابعة العدوية وابن عربي.
ويبدو أيضا أن جهاد فاضل يعود ساعيا لالتماس العذر لبدوى فيقول: "من الطبيعى لمثقف مثل بدوى عاش ما لا يقل عن نصف عمره في باريس وبقية مدن أوروبا ألا يضطر للجوء إلى المجاملة عند حديثه عن زمانه وأهل ذلك الزمان.. لقد أنف من المجاملة ولجأ إلى الصراحة الفظة".
وأيا كان الأمر، فإن أحدا ليس بمقدوره أن ينكر الحضور الثقافي المتوهج للدكتور عبد الرحمن بدوي حتى بعد 16 عامًا من رحيله عن الحياة الدنيا.. ورغم أي مآخذ على حدة وجموح انتقاداته أحيانا فإنه يبقى في تاريخنا الثقافي علما من أعلام الثقافة العربية وصاحب أفكار ورؤى فلسفية لن تموت.