الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: العاهرة في الأدب المصري.. الضرورة والإدانة "9"

مصطفى بيومي يكتب
مصطفى بيومي يكتب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إلى قرب نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كانت الدعارة العلنية قائمة فى مصر، ثم صدر القرار بإلغاء الدروب والبيوت المرخص لها بممارسة النشاط غير الأخلاقي، الذى يصطدم مع الثوابت الدينية والاجتماعية، وهو ما قوبل بالتهليل والإعجاب والتصفيق والإشادة، لكن النتيجة العملية لم تكن على النحو الذى يتوهمه المؤيدون المتحمسون، ذلك أن الدعارة السرية، غير الخاضعة للإشراف الحكومى والرقابة الطبية، تنتشر وتتوحش، وليس مثل النص الأدبى فى قدرته على التعبير عن مسيرة الدعارة وشخصية العاهرة فى مراحل مختلفة من التاريخ المصرى الحديث، فهو يعيد إنتاج الواقع ويسلط الضوء الساطع الكاشف على أسراره وخباياه. تتوقف الدراسة التى تُنشر فصولها تباعًا عند شخصية العاهرة فى إبداع: يحيى حقي، نجيب محفوظ، عبدالرحمن الشرقاوي، رفعت السعيد، بهاء طاهر، رفعت الفرنواني، علاء الديب، إسماعيل ولى الدين، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، عمرو عبدالسميع، علاء الأسواني. فى التواصل مع نصوص هؤلاء ما يكشف عن تشابك الخطوط فى الظاهرة المعقدة، ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. الدفاع عن الدعارة والعاهرات ليس مطروحًا أو ممكنًا بطبيعة الحال. 
سعدية، فى «أزمنة من غبار»، عاهرة تعمل وتقيم فى منطقة عمالية شعبية، فى العشرين من عمرها، عند الظهور الأول فى أحداث الرواية: «تعمل فى مصنع للملابس الجاهزة فى العتبة. لم تكمل دراستها الإعدادية».
على صعيد الملامح الشكلية والجسدية، تتسم سعدية بقدر من الجمال، فهى نحيفة القوام ذات بشرة تميل للسمرة وعينين سوداوين واسعتين يزيد حلاوتهما حاجبان مقرونان مُعتنى بهما، ومن الناحية الموضوعية تبدو حريصة على النظافة: «فلا توجد شعرة واحدة تحت الأبط، ولا أسفل البطن».
فى أتوبيس «٢٣» تبدأ علاقتها مع شريف، طالب بكالوريوس هندسة، وهى من تبادر بالتواصل معه: «وتحتك به عامدة كلما ازداد الزحام أو توقف الأوتوبيس فجأة».
التقط الشاب الإشارة، وبدأ فى الحديث معها همسا خوفا من أن يلفت انتباه أحد الركاب، ثم نزلا معا فى محطة المؤسسة.
شاب محروم ذو رغبات جنسية مشتعلة مكبوتة، لن يمانع فى الاستجابة بطبيعة الحال، ومن المنطقى أن يتبعها فى الأجواء المظلمة التى تتوافق مع القيود المفروضة فى ظل حرب.
الاستنزاف والمخاوف من الغارات الإسرائيلية، ١٩٦٩: «دخلت سعدية منفردة إحدى الحوارى المتفرعة من شارع الصفتى حيث يقبع منزلها المهترئ، ثم فتحت باب شقتها الملاصقة للسلم فى الدور الثالث. وبعد دقيقتين كان شريف يدخل الشقة نفسها، إذ اتفقا قبل أن يصلا إلى الحارة أن تسبقه بخطوات حتى لا يلحظ أحد الجيران دخولهما معا».
تتسع الحياة للحرب والدعارة والحرمان الجنسي، فهكذا ينبغى أن تسير الأمور، وليس مستغربا أن يكون اللقاء الجسدى الأول بينهما حسيا خالصا عنيفا، غير مسبوق بتعارف أو حوار، جائع يحترق، ومحترفة تمارس عملا مألوفا. مهنتها لا تخفى عليه، وعندما ينفردان فى الشقة المتواضعة الفقيرة يبدأ الاشتباك الذى يجسد حرمانا طويلا وشهوة طاغية تبحث عن التنفيس: «انقض الشاب الهائج على الفتاة اللعوب تقبيلا وعضا كيفما اتفق، وبحركة عصبية بسبب ارتباكه نزع عنها ملابسها بسرعة البرق، بينما لم ينجح فى حل أزرار قميصه، بعد أن ألقى جانبا من ملابس الجزء الأسفل من جسده! وعلى كنبة خشب سيئة التنجيد استلقت سعدية على ظهرها، عارية تماما، وهى مندهشة من تهور فريستها، فى حين راح شريف يلتهم الجسد الأنثوى بشراهة جعلته ينهى مهمته الذكورية فى ثلاث دقائق وسط بحر من العرق واللزوجة وبقايا رائحة شطة مقلية!».
بعد نهاية المعركة الأولى، التى تشهد صراعا بين تهور الذكر واستسلام الأنثى، يتسع المجال لمعرفة الوجه الإنسانى لسعدية، ضحية الأب المستهتر وزوجة الأب التى تقودها إلى الاحتراف، وتتاجر بها فى غفلة من الأب اللامبالي!.
ضياع أسري
لم يكن شريف يملك إلا عشرة قروش، يعطيها للعاهرة التى لا ترفض المبلغ المتواضع ولا تساوم أو تحتج، وإذ يسألها عن «أهل البيت»، تكشف إجابتها عن طبيعة المناخ الأسرى الذى يقودها إلى الضياع: «حكت له سعدية كيف فقدت أمها وهى فى العاشرة من عمرها، وأن أباها عامل النسيج لا يحب فى الحياة إلا ثلاثة أشياء: الحشيش والنساء و«الشطة»!. وحين طلب شريف توضيحا لما هو مقصود بـ«الشطة»، قالت له:
«الشطة» الخضراء.. يجب أن يأكل أبى منها كل يوم نصف كيلو مقليا فى الزيت، وقد قام بتطليق زوجتيه لأنهما لم تراعيا هذا الأمر كما ينبغي!.
فهم شريف من حكاية سعدية أن أباها تزوج ثلاث مرات بعد وفاة أمها، وأن اثنتين من زوجاته راحتا ضحية «الشطة» الخضراء، أما الثالثة، فكما أكدت له هى التى جرجرتها إلى سرداب الرذيلة، بعد أن أيقنت أن الزوج الحشاش فقد سيطرته على مجريات الأمور داخل منزله!.
السقوط فى مناخ كهذا مبرر منطقي، بل إنه يبدو حتميا لا مهرب منه ولا نجاة. الأب غارق مستغرق فى ذاته وملذاته التى تقوده إلى الغيبوبة واللامبالاة، وفى حالته هذه لا يمكن أن يرى ما حوله، فهو لا يرى إلا ما يريد أن يراه، واستثمار الزوجة الثالثة لابنة زوجها يتوافق مع إدراكها أنه غائب مُغيَّب لا خوف من تطفله على التجارة العلنية التى تُمارس بالقرب من غرفته: «ومن عجب أن كثيرا ما جاء رجلان معا، واحد لسعدية، والثانى لزوجة أبيها، لينالا حظهما من المتعة، بينما كان الأب غارقا فى نوم عميق. مخنوقا بالحشيش والشطة، فى غرفة مجاورة لا يدرى على الإطلاق أن هناك رجلين يضاجعان فى اللحظة نفسها زوجته وابنته فى الغرفة الأخرى من المنزل».
الإسراف فى إدانة سعدية والتحامل عليها ليس عادلا، ذلك أن مقاومة السقوط فى مناخ كهذا ليس ميسورا، والعمل المتواضع فى مصنع الملابس الجاهزة لا يدر عائدا مشبعا بالضرورة. لا يعنى هذا أنها تنعم بحياة الثراء والترف، فالدعارة فى منطقة شعبية فقيرة لا بد أن تكون محدودة الموارد، فضلا عن نهم زوجة الأب التى تستحوذ على النصيب الأكبر من العائد القليل: «المبلغ يتراوح بين خمسة وعشرين وخمسين قرشا، تستولى على معظمه زوجة الأب. ومع مرور الأيام وتراكم الخبرة أصبحت سعدية تعرف كيف تحتفظ لنفسها بثمن السطو على جسمها كاملا، مرة بالاشتباك مع زوجة أبيها ومواجهتها وإصرارها على أن القروش القليلة التى يدفعها شحاذ اللذة هى حق لها وحدها، ومرت بممارسة الرذيلة بعيدا عن البيت. كذلك عرفت سعدية كيف تدفع عن نفسها أذى الذين يمتطونها، فكانت تعض من يعضها، وتسب من يسبها!».
«البؤس» و«الشقاء» و«العذاب»، وغير ذلك من المفردات المشابهة، تعبر عن جوهر حياة سعدية وصراعاتها المتنوعة مع زوجة الأب الجشعة والزبائن الشرسين الساديين، فضلا عن الأب ذى الوجود السلبى الهش المدمر. التحايل ضرورى للظفر ببعض المكاسب الصغيرة، والتسلح بالقوة أداتها لمقاومة ما تتعرض له من عدوان وأذى. العلاقة مع مهندس المستقبل القريب بمثابة الاستثناء الذى تتشبث به لأنها تتحقق معه وتسعد بالحس الإنسانى الذى لا تجده مع الآخرين، وخلال عام من العلاقة مع شريف يتخذ الأمر مسارا مختلفا: «كانت سعدية قد بلغت حد الهوس بالشاب الذى اصطادته فى أتوبيس ٢٣ قبل نحو سنة. وقد امتنعت، بعد شهرين من أول لقاء، عن أن تأخذ منه أى مليم مقابل استقباله المنتظم بين فخذيها، إذ اعتبرت أن مجرد قبوله التعرى أمامها ومنحها ورود رجولته اليانعة بمثابة هدية لأزهار أنوثتها لا يليق أن تتقاضى أجرا عليها».
للامتناع عن تقاضى الأجر دلالته النفسية التى تؤكد إنسانية سعدية وجوعها المبرر لتواصل إنسانى يرمم بعض أطلالها جراء الانغماس فى حياة بلا مذاق، ومقارنة سلوك الشاب الجامعى المهذب بالزبائن الذين تتعامل معهم، من العمال، يؤكد أن الفارق شاسع بلا ضفاف: «لا يشبه أحدا من عمال النسيج وورش الحدادة التعساء الذين يتوافدون على جسدها بانتظام، بينما رائحة الدخان تفوح من أفواههم، أما أيديهم فملوثة بالشحم والزيوت. كان الواحد من هؤلاء يهم بها قبل أن يكمل نزع ملابسها، أو تتمكن من خلع ملابسه، وكأنه يؤدى واجبا ثقيلا عليه أن ينجزه فى أسرع وقت ممكن، مخلفا وراءه آثار عض وصفع على الوجه بينما روائح الشتائم القبيحة تفوح فى سماء الغرفة. وكانت سعدية لا تسمح لأى من هؤلاء أن يلمسها قبل أن يدفع ثمن لذته مقدما بعد أن اكتشفت أن الرجل يتردد كثيرا فى إعطائها المبلغ المتفق عليه بعد أن يتخلص – مسرورا – من عذابات الجسد».
القذارة والغلظة والروائح الكريهة والقسوة والخداع؛ ملامح شائعة عند الفقراء الغلاظ الذين تتعامل معهم سعدية وتصارعهم. تعساء معذبون ينهشون بلا رحمة تعيسة معذبة، والحسية الجافة الطاغية كفيلة بأن تقتل المشاعر والأحاسيس الإنسانية. الأمر عندهم «واجب ثقيل» محاط بالتوتر والقلق، مغلف بالقبح والابتذال والسوقية، فكيف إذًا لا تحب شريف وتتعلق به وتمنحه كل خيرات جسدها بلا مقابل مادي؟. لا شك أن الطالب الشاب بدوره يتعاطف معها ويشفق عليها، لكن الحب ليس مطروحا: «كانت بالنسبة له مجرد امرأة تمتلك السر البيولوجى لإطفاء شهوة شاب فى الثالثة والعشرين من عمره. صحيح أنها لقنته خبرة التعامل مع النساء فى السرير، إلا أنه كان يمتلك من الفطنة ما يحول دون أن تتحول شفقته على فتاة داعرة بائسة إلى حب يكوى القلب ويقلق الروح».
شريف مسلح بالعقل والوعى والحسابات العملية، بعيد عن الإسراف العاطفى المندفع. يعرف حدود العلاقة ولا يتجاوزها، فلا متسع فى جدول أعماله للوقوع فى حب عاهرة. العلاقة جنسية خالصة، ولأنه يضيق بالبيت القبيح المشبوه المزعج الذى يلتقيها فيه، فإنه يبحث عن مكان أفضل، ويجد بغيته فى شقة صديقه بدوى فى شبرا البلد: «حيث لا أحد فى المنزل هذا المساء كما أكد له بدوى حين أعطاه مفتاح الشقة».
لقاؤهما هذا، الذى لا يكتمل ولا يصل إلى الذروة، مستحيل النسيان، فبعد قليل من بدايته العاصفة تنطلق الصرخات المزلزلة المنبئة بخبر رحيل الرئيس جمال عبدالناصر!.
قسوة الزمن 
ما الذى يفعله الزمن بسعدية؟!. بعد سنوات طوال من اللقاء الذى يجمع بين شريف والعاهرة البائسة، يلتقيان فى شوارع المصادفات، والفارق هائل بين ما كان وما هو قائم بعد أكثر من ربع قرن:
- يا أستاذ... يا أستاذ.
- التفت شريف نحو صاحبة الصوت، فلم يعرفها.
- ألا تذكرني.. أنا سعدية.
- «ياه.. ما أقبح الزمن». هذا أول ما قاله شريف لنفسه وهو يتأمل تجاعيد أول امرأة أذاقته تفاح أنوثتها. سعدية.. عزبة عثمان وشبرا البلد.
سعدية.. ابنة الحشاش، وبائعة الهوى للجائعين من عمال وصنايعية شبرا الخيمة البائسين»!.
- ياه.. أى زمن يا سعدية، وماذا تفعلين هنا الآن؟
- إذا لم تخنى الذاكرة فهى قد بلغت ٤٧ عاما الآن.. سعدية وأتوبيس ٢٣.. وبدوى، وموت جمال عبدالناصر.. ياه ٢٧ عاما مرت على ذلك اليوم المشهود.. آه يا سعدية من أى كهف فى جبال أيامى خرجت؟.
ما أقبح الزمن حقا!. التجاعيد تغزو وتنتشر وتهيمن، والاقتراب من الخمسين يحيل سعدية إلى عجوز لا صلة تجمعها بالشابة القديمة مانحة اللذة وبائعة الهوى. التغيير الذى يطول المهندس شريف إيجابى يتوافق مع مسيرته المهنية الناجحة والإيقاع المختلف لحياته، والأمر مختلف جذريا عندها: «كانت أمراض الدنيا كلها تتسكع فى وجهها، وهى منكمشة من البرد أمام كومة من الجرجير والفجل والخس، تبيع منها ما يكاد يسد الرمق».
بلا أولاد ولا زوج ولا أحد، فقد امتص الرجال رحيق جسدها وتركوها للأمراض المزمنة وحزمة جرجير!.
اقترب منها شريف وانحنى وهو يمد يده بالسلام:
- «كيف حالك يا ست سعدية؟».
لا مفاجأة فى المصير الذى تؤول إليه سعدية، والنهاية تقليدية متوقعة، فما الذى يمكن أن يبقى لها بعد حياة قوامها القسوة والقهر والسقوط فى هاوية الأمراض المزمنة؟. لا شيء إلا المنحة المالية التى يهبها شريف، وعندئذ يتردد صدى دعائها له بالصحة والسعادة وحفظ الأولاد!.