الثلاثاء 14 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

صراع الحداثة والشعبوية في المشهد الأمريكي

يسألونك عن الدولة المدنية الحديثة (24)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أكدنا فيما سبق أن ديمقراطية الحكم مرتكز حقيقى فى بناء «الدولة المدنية الحديثة». ومن هنا تأتى «الانتخابات» كأداة، ليس إلا، لتحقيق الديمقراطية، متى كانت نزيهة وشفافة ومعبّرة بالفعل عن الإرادة الشعبية. غير أن «الانتخابات»، على هذا النحو، لا تُعد ضمانة حقيقية للوصول إلى الأفضل؛ ذلك أن الخيار للشعب، وليس للأداة التى يستخدمها فى سبيل تحقيق إرادته. وفى ذلك يمكن أن نضرب مثلًا مرت به التجربة الوطنية فى فصولها القريبة، حين اختار الشعب الدكتور محمد مرسى رئيسًا، ولم تكن خافية صلته بقيم تناقض إلى حد بعيد مبادئ «الدولة المدنية الحديثة»، الأمر الذى لم يستطع معه الرجل التخلص من قيمه وأفكاره ومعتقداته وقناعاته، بل وطقوسه؛ إذ حافظ على انتمائه للجماعة على حساب انتمائه الوطنى، واتخذ من كل السبل ما يحقق مفهوم «أخونة الوطن»؛ ومن ثم اتجهت الدولة معه إلى نموذج «الدولة الدينية» التى أسقطتها التجربة الأوروبية منذ مئات السنين، بعد أن عانت من ويلاتها لعقود طويلة زاخرة بالدمار والحروب، وصولًا إلى معاداة القيم الإنسانية التى يحملها كل دين سماوى، فسقطت أقنعة تحكم وتنتهك حرمات وحريات الإنسان بغطاء دينى كاذب. نخلص من المقدمة السابقة إلى أن «مدنية وحداثة» الدولة الأمريكية، وهى ليست محل شك، لم تكن مانعًا من وصول دونالد ترامب إلى موقع السلطة على رأس أكبر وأقوى دولة فى العالم. فالمشهد الأمريكى الماثل أمامنا ليس إلا النتاج الحقيقى لاستخدام أداة ديمقراطية، الانتخابات، تصحبها رغبة شعبية فى التغيير، لاحظ أن هيلارى موجودة فى المشهد منذ سنوات بعيدة، سواء كسيدة أولى للبيت الأبيض فى عهد رئاسة زوجها كلينتون، أو بحكم توليها وزارة الخارجية الأمريكية لسنوات فى ولاية أوباما الأولى، أو حتى باعتبارها سيناتور عن نيويورك، كما كانت السيدة الأولى لولاية أركنساس فى عهد تولى زوجها كلينتون منصب حاكم الولاية. من جهة أخرى، فإن بلوغ ترامب الرئاسة الأمريكية، ما هو إلا تأكيد للمد الشعبوى فى أوروبا، حيث مالت شعوب بعض الدول المهمة على الساحة إلى سحب ثقتها من النخب السياسية، ومالت بها ناحية شخصيات من خارج الإطار السياسى المعروف. ما يعبّر عن رفض الشعوب لسياسات العولمة، والرغبة فى العودة إلى حدود الدولة الوطنية. وفى ذلك تعتمد «الشعبوية»، كفلسفة سياسية، على نوع من الخطاب السياسى الذى يستهدف دغدغة مشاعر الناس، دون اكتراث بالمعلومات والحجج والبراهين المدعمة بالأرقام التى يستخدمها الخطاب السياسى للسياسيين المخضرمين من أهل النخبة. لاحظ هنا شعارات ترامب الانتخابية: أمريكا أولًا، أمريكا القوية، أمريكا للأمريكيين، وعلى هذا النحو حل رجل بلا خبرة سياسية، جاء من الصفوف الشعبية، إذ لم يكن أبدًا إلا رجل أعمال، مع عضوية غير فعالة فى الحزب الجمهورى، ما يمثل سحبًا حقيقيًا من رصيد النخب السياسية لدى الشارع. وعليه تخضع الدولة الأمريكية لاختبار صعب، لا بدائل كثيرة وسهلة فيه؛ ذلك أن للشعبوية وجهًا آخر، يصطدم بشدة مع قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة»؛ فليس من شك أن الشعبوية قادرة على إقناع الناس، فى كثير من الأحيان، بحتمية «السلطة المطلقة»، سواء للفرد، أو لفئة بعينها من الزعماء. وهو ما يتنافى تمامًا وما يحتويه مفهوم «الدولة المدنية الحديثة» من قيم ديمقراطية تدفع نحو التبادل السلمى للسلطة، والتعددية السياسية، وحرية الرأى والتعبير، وسيادة القانون، إلى غير ذلك من ملامح مميزة للمجتمعات التى نجحت بالفعل فى إنجاز «الدولة المدنية الحديثة». من هنا، نتوقع صراعًا أمريكيًا مثيرًا بين دعاة «الدولة المدنية الحديثة»، وما يطرحه ترامب من أفكار وسياسات تمثل الفكر الشعبوى المقابل للفكر النخبوى بانى «الدولة المدينة الحديثة»، بمؤسساتها الوطنية وفوق القومية. وبالفعل، لم تمهلنا التجربة الأمريكية طويلًا حتى بدأ الصراع شاهدًا على المبالغات التى شابت الفكر السياسى النخبوى حين اندفع يقسو على الطموحات الشعبية، فمنح مساحات واسعة للشعبويين، أمثال ترامب، الذى أعلن مرارًا أحقية العامل الأمريكى فى استعادة فرصة عمل سحبتها منه الشركات الأمريكية العملاقة حين اتجهت إلى خارج الحدود الأمريكية، باحثة عن الأيادى العاملة الأرخص، ومن هنا كان الفوز الكبير والمفاجئ لترامب فى الولايات الصناعية تحديدًا. هذا إلى جانب السور الحدودى المزمع إقامته بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك، بغرض منع المهاجرين من تجاوز الحدود إلى أسواق العمل الأمريكية، وفى ذلك نموذج بالغ الدلالة على الفكر السياسى الشعبوى، وخطابه السياسى القائم على اجتذاب مشاعر الناس. ورغم إقرارنا بفشل الحكم النخبوى فى كثير من جوانبه، خاصة الاقتصادية، جراء العولمة وسياسات الاستعمار الجديد، غير أننا لا نراهن على هزيمة دعاة «الدولة المدنية الحديثة» على الأراضى الأمريكية؛ ففى مواجهة قرار ترامب بمنع دخول ٧ دول إسلامية إلى الأراضى الأمريكية، ورغم أن القرار مؤقت، إلا أنه سُجل كانتهاك فاضح لقيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة»؛ ومن ثم نهضت فى مواجهة ترامب عشرات الدعاوى القضائية، محققة رقمًا قياسيًا غير مسبوق فى تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية. إلى جانب تجدد الهجوم الإعلامى على ترامب، وقد كان الإعلام الأمريكى والعالمى إجمالًا من أبرز المحذرين من فوز ترامب، إلا أن الخطاب الشعبوى الدافئ، غير ضعف المنافس، هيلارى، مكن الرجل من الوصول إلى البيت الأبيض. وعليه، فقد تحولت أصوات كثيرة، حتى من غير المعروفين بالدفاع عن الإسلام والمسلمين، إلى الدفاع عن حق مواطنى الدول السبع، الذى دهسته شعبوية ترامب، حتى بات للإسلام من يدافع عنه فى وسائل الإعلام الأمريكية، والغربية عمومًا، ونهضت كثير من الدول الأوروبية تعترض على قرار ترامب، وهم لم يتخلصوا بعد من إرهاب يزعم انتماءه للإسلام. والحق أنهم إنما يدافعون عن مدنية وحداثة الدول التى ينتمون إليها، فليس بمقدورهم هدم ركائز «الدولة المدنية الحديثة»، أو تجاوزها، خاصة فى ظل حكام ينتمون إلى النخب السياسية التى شكلت دعامة رئيسة فى الدفاع عن مبادئها الديمقراطية والإنسانية عمومًا. لكن الأمر قطعًا سيختلف إذا ما تمكنت «الشعبوية» من اقتناص مواقع مؤثرة فى القرار السياسى الأوروبى، وهو ما تتعرض له بالفعل عدة دول لعل أهمها فرنسا. الأمر الذى ينذر بعصر جديد يشهد صراعًا واسعًا بين حكم النخب، والحكم الشعبوى، الأول يدعمه ما تمكن من إرسائه من مؤسسات وطنية وقومية، والثانى بما يحمله من هموم وآلام سببتها سياسات النخب من أزمات اقتصادية. وعليه باتت الكيانات السياسية فوق الأممية، كالاتحاد الأوروبى، معرضة للخطر، لاحظ انسحاب بريطانيا، وما تلاه من دعوات مماثلة فى كثير من الشعوب الأوروبية الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى، وأخيرًا كانت تصريحات ترامب التى قلل فيها من أهمية الاتحاد الأوروبى، بل ومن حلف الناتو. وعلى هذا النحو تدعو «الشعبوية» إلى التقوقع داخل الحدود الوطنية انسحابًا من المشهد السياسى الإقليمى والدولى. ولأن التجارب الدولية مُلهمة بعضها لبعض، نُذكر بثورة القوى السياسية المدنية الوطنية، وكل مؤسسات المجتمع المدنى الوطنية، على كثير من قرارات الرئيس الأسبق محمد مرسى حين انتهك الدستور، وميّز جماعته، ولم يعد رئيسًا لكل المصريين، بل ممثلًا للجماعة فى قصر الاتحادية الرئاسي؛ فكان أن انتصر دعاة «الدولة المدنية الحديثة»، وسقط الرجل وجماعته، وتنحوا جانبًا من طريق الشعب، إذ راح يبنى دولته «المدنية الحديثة»، مفتتحًا طريقه بدستور ٢٠١٤ المؤسس الحقيقى «للدولة المدنية الحديثة»، الأمر الذى يحرص الرئيس السيسى على التأكيد عليه كثيرًا، دون أن تكف الأصوات «المتسلقة» الداعية إلى العودة خلفًا، سواء إلى حيث حكم الفرد وجماعته، أو حكم نخبوى فشل فى الاختباء خلف خطاب شعبوى استعاره دون قناعة حقيقية، ففقد مصداقيته على مدى ثلاثين عامًا، فلا هو حقق حكمًا نخبويًا ديمقراطيًا، ولا لاذ بشعبوية تمنحه شرعية. وإلى الأسبوع المقبل بإذن الله، نرصد معًا مآلات الصراع النخبوى/الشعبوى فى المشهد الأمريكى، وانعكاساته على قيم ومبادئ «الدولة المدنية الحديثة».