الثلاثاء 21 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

مصر والانتفاض ضد التطرف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عقدت مكتبة الإسكندرية مؤتمرا شعاره: «العالم ينتفض.. متحدون فى مواجهة التطرف» (١٧-١٩ يناير ٢٠١٧). كانت المداخلات مزدحمة، والأجواء ملبدة، وعلى المتحدث أن يحسب حسابه، فالمشادات التى حصلت بين مدافع ومهاجم كدرت بعض النَّدوات. التزم عدد من المتدخلين بالمعلومة الطاردة للنعاس عن الجفون، بينما آخرون أكثروا من الإنشاء، فلا تأخذ منهم حقا ولا باطلا مثلما يُقال.
لم أكن أتوقع بعد محنة عدن وحضرموت، مع الاحتلالات القادمة والمتتالية من الشمال عليهما، أنه بقيت فيهما بقية، وإذا بناشطة وباحثة شابة حضرمية عدنية، قدمت مداخلة فيها رؤية ومعلومة، وأجادت الدفاع عنها بثبات، ومما قالته وسام باسندوة مخالفة للكثيرين من التبريريين: «ليس الفقر ولا غيره هو العامل الأول فى التطرف، فقادة التطرف انحدروا من أُسر غنية ومتوسطة، إنما سببه الفكر الدينى نفسه، من مناهج التعليم وإشاعة كُتب التدين المنحاز وخارج المعقول، الذى تُعبأ به رؤوس الشباب». كذلك طرح محمود الهباش، مستشار الرئيس الفلسطينى للشئون الدينية، رأيا وجيها فى اتخاذ المتطرفين لقضية فلسطين، والاستهتار الإسرائيلي، عذرا فى تصاعد التطرف الديني، فإذا كان العالم جادا فى إنهاء التطرف، فحل القضية الفلسطينية يأتى فى المقدمة.
ما زال رفعت السعيد، وهو يقترب من التسعين، والمعتقل فى أزمنة الدولة المصرية كافة، يهدد بالمعلومة الفاضحة للتعصب الديني، مع أن عليه حراسة خشية تنفيذ السلفية الجهادية لتهديدها له، وعندما استدعى لاعتلاء منصة الندوة، مرّ برجل سلفى يجلس فى الصف الأول، وداعبه بالقول: «اصعد معي»! فأطلقتها القاعة ضحكة مدوية! كان ختام الندوات حديثا للشيخ على جمعة، وعلى خلاف الأزهريين الشباب المشاركين، لم ينشغل بالدفاع والتبرير وإنما تحدث بوقائع عن الفتنة التى يوقدها الإسلام السياسى كلما ذوت نارها.
لا شيء أشهر من منارة الإسكندرية وحماماتها ومكتبتها فى أمهات التاريخ، كما لا شيء أكثر شيوعا من حرق الكتب فيها، عند دخول العرب المسلمين (نحو ٢٠ هـ)، وأنت أمامها تتساءل: أى كتب أُحرقت، كى يوقد شرارها حمامات الإسكندرية لستة أشهر؟ وعلى قدر البحث فى التواريخ لم يذكرها مؤرخو الفتوح ولا البلدانيون ولا كُتاب التاريخ العام، بداية من الطبرى (ت ٣١٠ هـ) واليعقوبى (ت ٢٩٢ هـ) إلى المسعودى (ت ٣٤٦ هـ) والنَّديم الوراق (ت ٣٨٠ هـ)، الذى خصص فهرسه للكتب ومؤلفيها، وحتى المتأخرون كابن الجوزى (ت ٥٩٧ هـ) وابن الأثير (ت ٦٣٠ هـ)، لم يذكروا شيئا عن الحادثة، مع أن هؤلاء لم يراعوا صالح العرب المسلمين عندما أرخوا لحروب الفتوح.
بدأت القصة بالطبيب موفق الدين عبداللطيف البغدادى (ت ٦٢٩ هـ) وجمال الدِّين القفطى (ت ٦٤٦ هـ)، وأخذها عن الأخير نصا ابن العبرى (ت ٦٨٥ هـ) - بعض الطبعات رفعت تلك الرواية مِن كتابه - ومِن المعاصرين نقلها الأب لويس شيخو (ت ١٩٢٧م) فى «مجانى الأدب فى حدائق العرب». على أن ابن العبرى يُشيد بعمرو بن العاص (ت ٤٣ هـ) وبانبهاره بالقِس الفيلسوف الذى طلب منه ترك كتب الدَّار الملوكية له، قال: «كان عمرو بن العاص عاقلا حَسن الاستماع صحيح الفكر» (تاريخ مختصر الدُّول)، إلا أن أوامر الخليفة جاءت مِن المدينة بحرق الكتب. إنها إحدى المختلقات، وهل كانت الكتب آنذاك بهذه الغزارة قبل الطباعة، وقبل إشاعة استخدام الكاغد تكفى لإيقاد حمامات الإسكندرية الكُثر لستة أشهر؟!
كان يمكن أن يحصل للمكتبة ما حصل للمُتحف العراقى مثلا، ودار المخطوطات ببغداد، صبيحة التاسع مِن أبريل ٢٠٠٣، وذلك فى التظاهرات العارمة والمارة بشارع المكتبة ضد نظام مبارك ثم «الإخوان المسلمين»، لولا أن الشباب الإسكندرى نظم طوقا حولها لحمايتها. هذا ما شاهدناه فى لقطات عرضها مديرها العام إسماعيل سراج الدين، سليل الأسرة الوفدية المعروفة.
انشغلتُ لحظتها بتذكر التراث العراقي، كيف تُحمى وزارة النّفط ولم يهتم الغُزاة ولا غيرهم بحماية ذخر العراقيين القدماء، وإرث حضارة تنافست متاحف العالم فى اقتنائه. قبل ذلك حقق الحصار (١٩٩٠-٢٠٠٣) غايته، وتدنى الاهتمام بالكتاب والأثر، حتى أوسمة الملوك المتأخرين عُرضت خارج العراق للبيع. كان ذلك مستهلَ ما فكرتُ فيه بين أروقة المكتبة، التى أُعيدت، بهذه الضَّخامة (٢٠٠٢)، على تلك السُّمعة المدوية فى التاريخ، مع الشائعة التى ظلت تجرحها.
إن أهميةَ مثل هذا المؤتمر، الذى يُعقد سنويا، لقاء النُّشطاء ضد التَّطرف والغلو، وطرح أفكار تصدرها المكتبة كراريسَ دوريةً، للفت أنظار العالم للمرحلة الحرجة التى وصلها التطرف، فلا حرج أبلغ من إشاعة الكراهية والدِّماء. أقول: مهما نأت مصر، أو عُسر حالها، تبقى للتنوير دارا، ومنها يبدأ الانتفاض على التطرف، فإذا كان أول المسامير لتسييس الدِّين غُرس فى أرضها، فإن أول المسامير فى نعشه قد غُرس هناك أيضا، «الإسلام وأُصول الحُكم». وللجواهرى «قصيدة إلى الشَّعب المصرى ١٩٥١»: «ووسعتِ أشتات الفنون كأنها/ فلكٌ يدور وأنتِ أنتِ المحورُ» «الدِّيوان».
نقلا عن العربية نت