السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تعليم أمريكا.. شيكا بيكا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت المدارس والجامعات الحكومية المصرية هي المؤسسات الراقية التي تسعى جميع الأسر لإلحاق أبنائها بها، وكانت تستقطب طالبى العلم من الدول الأخرى.. أما التعليم الخاص فكان ملجأ الطلاب الفاشلين الذين لا يمكنهم مستواهم العلمى من الالتحاق بالمدارس والجامعات الحكومية العريقة التي لها قواعد صارمة للالتحاق واشتراطات يسعى الجميع لمحاولة اجتيازها.. وقد روت السيدة منى جمال عبدالناصر أنها التحقت بالجامعة الأمريكية اضطرارًا لعدم حصولها على المجموع الكافى الذي يؤهلها للالتحاق بالجامعة الحكومية!! وقد تبدل الحال الآن وتراجع التعليم الحكومى وأصبح مثيرًا للشفقة شكلًا وموضوعًا.. وتحول التعليم بشكل عام إلى تعليم طبقى، الأغنياء يدفعون آلاف الدولارات سنويًا في المدارس الأجنبية، والفقراء لا يجدون سوى التعليم الحكومى المجانى الذي لا يكلف مالًا، ولكنه لا يقدم علمًا أيضًا.. أما الطبقة الوسطى فأصبحت تتحمل ما لا طاقة لها به أملًا في حصول أبنائها على تعليم راقٍ..ورغم أن التعليم الأجنبى ليس جديدًا على مصر، حيث ظهر منذ أواخر القرن التاسع عشر، إلا أنه أصبح يمثل خطرًا على الهوية والثقافة العربية بعد الانتشار الواسع للمدارس الأمريكية، والتي تتمتع بنظم أبسط في التعليم والتقييم فتكون نتيجة طلابها أعلى من المدارس الأخرى، وبالتالى توفر فرصًا أكبر وأفضل عند الالتحاق بالجامعات، وهو ما جعل كثيرًا من الأسر تسعى لإلحاق أبنائها بها، رغم أن الناتج الفعلى لأغلبها لا يختلف عن المدارس الأخرى، وكثير من طلابها يتخرجون فيها لا علم ولا ثقافة ولا إجادة للغة العربية أو الإنجليزية، ولكن الانبهار بنمط الحياة الأمريكى يجعل الأسر المقتدرة تهرول نحو تلك المدارس متناسين أن خضوعها لإشراف المؤسسات الأمريكية ليس للجودة، وإنما لضمان تحقيق الأهداف التي أنشئت تلك المدارس من أجلها، والكارثة أن تلك المدارس في الواقع لا تخضع للرقابة الفعلية من الحكومة المصرية، وبالتالى فالدور الذي تلعبه أخطر كثيرًا مما نتخيله، وهو ما يجاهر به المسئولون الأمريكيون دون خجل، وتكفى شهادة مدير معهد واشنطن الأسبق «روبرت سالتوف»، الذي كان يتولى قسم السياسة والتخطيط الإستراتيجي وأحد المسئولين عن السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث قال: «إن المدارس الأمريكية في المنطقة العربية ليست مجرد صروح تعليمية راقية المستوى، ولكنها السلاح السرى لأمريكا في معركة الفكر وأمركة المجتمعات العربية».. أي أنه استعمار ولكن بغلاف أنيق، بعد أن أثبت الاستعمار التقليدى فشله على مر السنين، وبالتالى وجدوا أن الاستعمار الفكرى أجدى.. وهو ما اتبعته الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت، وحرص أن يأتى معه على رأس الحملة بعدد كبير من العلماء والخبراء في جميع المجالات.كذلك الاحتلال الإنجليزى عام ١٨٨٢، والذي حاول إحكام قبضته على المصريين من خلال التعليم أيضًا.. فحين سألت القيادة البريطانية «اللورد كرومر» عن احتياجاته من أجل إحكام السيطرة على البلاد، طلب إمداده بخبراء في التربية والمناهج. فالمشكلة في مدى إدراكهم لأهمية التعليم والسيطرة على الفكر، وانبهارنا بهم وبأنظمتهم، مما يجعلنا نساعدهم في تحقيق أهدافهم ونعمق من قدراتهم في السيطرة علينا. ومنذ انتشار مفهوم العولمة ليعطى دلالة إيجابية عن تحول العالم لقرية صغيرة، لم نكن نتخيل أن يكون مفهومها الحقيقى هو الأمركة، ويا ليتنا حصدنا ثمار التقدم، وإنما لم يأتنا منها سوى الضرر بدءًا من الوجبات السريعة «الجانك فوود» التي تسبب الأمراض، و«المشروبات الغازية» التي تسبب هشاشة العظام، والبنطلون الجينز الذي يؤدى إلى العقم، ومواقع التواصل الإلكترونية التي أوقعتنا تحت رقابتهم فأصبحت الشعوب شبكات تجسس لهم، وصولًا إلى نظام تعليم يهتم بالمظهر لا بالجوهر، وخير دليل على ذلك ما تشهده الجامعات والأكاديميات المصرية من محاولات ظاهرية للإصلاح ورفع مستوى جودة التعليم، والتي يعتمدون فيها على عدة إجراءات أهمها تطبيق نظام «الساعات المعتمدة»، والذي ظهر أواخر القرن التاسع عشر في أمريكا ويعتمد على تحديد عدد الساعات التي تستلزم دراسة كل مادة، فتتحول المادة الدراسية من خلاله إلى ساعات محددة بعد اجتيازها يكون الطالب قد أنهى إحدي المواد حتى في حالة رسوبه في باقى المواد.. والهدف الظاهرى منه توحيد النظم التعليمية في العالم، مما يسهل عمليات التنقل بين الجامعات، ولكن ما وحدة القياس التي يتم بناء عليها تحديد الساعات التي تستلزم كل مادة؟ بالطبع صاحب الاختراع هو من سيضع النموذج وآليات تنفيذه. فنجد العالم كله يسير على نهج الولايات المتحدة وقواعدها في التعليم. والسؤال هل تطبيقه سيؤدى لرفع تصنيف الجامعات المصرية ويجعل العالم يعترف بها؟ وهل سيوفر للطالب المصرى الانتقال لأى جامعة حول العالم؟ وهل سيمنح بالفعل علامة الجودة للنظام التعليمى؟..فليس معنى اختيار الطلاب للمواد الدراسية والأساتذة بأنه سيؤدى لجودة التعليم، لأنه قد يدفع الأستاذ لتقديم رشوة تعليمية للطلاب حتى يقبلوا عليه، والتي يمكن أن تتمثل في تسهيل المقررات والمناهج وتخفيف الأعباء الدراسية.. وبالتالى يصبح معيار الاختيار وفقًا لمدى السهولة وليس طبقًا لقدرات الطالب.. وقبل كل ما سبق يجب أن نسأل أنفسنا: هل الطالب الأمريكى قدوة يحتذى بها؟ فالتعليم لن ينصلح بمحاولة استنساخ النظم الأمريكية التي لم يأتنا منها سوى الخراب، وعلينا أن نحاول استعادة النظم التعليمية العريقة التي أنجبت عظماء أثروا الحضارة الإنسانية وما زلنا نفتخر بهم.