الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

لا رؤيا بعد اليوم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى ٢٠٠٣ كان المحافظون الجدد الأمريكيون أصحاب الرؤيا العربية انطلاقًا من العراق. دعوتهم النبوية كان مفادها التالى: أزيحوا صدّام حسين وأقيموا الديمقراطية فى بلاد ما بين النهرين، يتحول العراق نموذجًا جاذبًا لشعوب المنطقة التى تعثر، بعد طول انتظار، على خلاصها.
تلك الدعوة الرسالية حفزتها أسباب وعوامل كثيرة ومتفاوتة. إلا أن أحدها كان بالتأكيد البحث عن الانسجام الذى يبحث عنه عادةً المؤمنون. ذاك أن الضجر إنما بلغ أوجه من الشذوذ العالمي المنسوب إلى العرب عن وجهة كانت قد بدأت تشق طريقها الكوني العريض، وجهة الديمقراطية. وكان من السهل تبيان ذلك بتعداد السنوات، مما يحبه الألفانيون: فصدام وحزبه يحكمان العراق منذ ١٩٦٨، وحافظ الأسد وحزبه، ثم ابنه، يحكمون سوريا منذ ١٩٦٣، ومعمر القذافى يحكم ليبيا منذ ١٩٦٩، و«شرعية يوليو» معمول بها فى مصر منذ ١٩٥٢.
لكن الضجر من وضع مضجر والحماسة للانسجام والتناسق لا يكفيان لإحلال الرؤيا محل الرؤية، والإيديولوجيا محل السوسيولوجيا، والخلاص المطلق محل الواقع باحتمالاته المحدودة. هكذا انفجر العراق وتكشف أن ضيق ذات اليد لا يتيح طلب العلى على النحو الذى تراءى لطالبيه.
المحافظون الجدد كانوا ثوريين من الخارج أكثر مما كانوا محافظين. إلا أن ثوريًا من الداخل كان قد سبقهم ببضعة عقود فى التلويح باجتراح المعجزات. فمع جمال عبدالناصر بدت الوحدة العربية وتحرير فلسطين ودولة العدالة والمساواة على مرمى حجر. وكان ما كان مما انتهى بهزيمة ١٩٦٧ المطنطنة التى اضطلعت بأحد الأدوار فى صعود المستبدين المذكورين أعلاه، وبدور ضخم فى نشأة الإسلام الراديكالي.
وكان النفط، بدوره، مُنشّطًا للرؤيا، فبدا زحفُ الملايين إلى الخليج بحثًا عن غد يقيم فى النعيم كمثل ملحمة توراتية. وفى حضن المشاريع العملاقة والمدن السابحة فى الضوء، انفجرت العظمة عُظامًا. فهنا يولد «الأوّل» من كل شيء، ويبقى هكذا لا تطويه النهايات. لكن الأرقام والوقائع وأوضاع السلع والتبادل، مما لا تعيره العظمة انتباهها، كانت تدفع فى اتجاهات أخرى.
وأيضًا فى اتجاهات أخرى كان واقع الطوائف والمناطق والإثنيّات يدفع الثورات العربية، آخر تعابير الرؤيا التى لفحت منطقتنا. فطلب الحق والعدالة، بعد طول كبت وطول انتظار، جعل الأعناق المشرئبة إلى السماء لا ترى الأرض، حارمًا بعض الأفكار والمشاعر تواضعها، ومُضعفًا الاستعداد للنقد والمراجعة وتقاسم الحقائق مع السوى.
وفى «داعش» تجسدت ذروة الرؤيا التى صار لها جيشها المقاتل ودولتها. وإذ تراءى قيام الساعة على قاب قوسين أو أدنى، حل الخراب على عاصمة «الخلافة»، الموصل، حلوله على شقيقتها الحلبية إلى الغرب منها. ومن مدننا وحواضرنا هامت على وجوهها قوافل المعذبين والبؤساء التى أُتخمت بشتّى أنواع الرؤيا، باحثة عن كسرة خبز تقايض بها تلك الفراديس المزعومة. وأمام هذا الانكشاف المريع قد يتكاثر بيننا مكتشفو الله أو العائدون إلى الطبيعة أو المستسلمون لأسرار وخبايا مقدسة. لكن ما يفوق هذا البؤس بؤسًا أن يقل عدد المتسائلين: لماذا تزدحم منطقتنا بمشاريع الرؤيا، بدل الرؤية، فيما الأبواب موصدة والانهيار متلاحق ومديد؟
وحده «حزب الله» مد يده إلى السؤال، ولم يتردد فى تقديم جواب خارق: إنّه... «زمن الانتصارات»، وكفى الله المؤمنين.
نقلًا عن الحياة اللندنية