الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

دقيقة حداد

رانيا حجازي
رانيا حجازي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعد مرور يومين على الفاجعة بباريس أستعد الويك إند للرحيل بثقل غريب ومتابعة دائمة تخللته لتطور الأحداث.. أعود إلى عملى.. متجهمة الوجه ذائعة العينين..أتخيل نظرة غير مقصودة لأفسرها أنها مقصودة وأسمع حروفًا أو همهمات أجمعها في أوهامى وأكون كلمات.. أترقب ولا أسمع غير صوت أنفاسى.. تبدو الحياة طبيعية، وكل يلقى علىَّ تحية الصباح.. ترى هل يلقونها بطيب خاطر أم مضطرين حتى لا يخضعوا في عقلى لسلسلة من الاتهامات بالعنصرية.
لا يتحدثون عما حدث.. لا يناقشونه لا يصرخون في وجوهنا اخرجوا من بلادنا.. لماذا أنتم صامتون؟.. أريد أن أفتح رءوسهم لأرى ما فيها.. لماذا هذا الصمت المطبق الغريب.. ولكن ترى لو اطلعت على ما في قلوبهم كنت سأرتاح أم كنت سأعذب أكثر.. ترى لو تكلموا وأظهروا غضبهم هل كنت وكل عربى مسلم هنا سنتركهم أم كنّا سندافع وبشدة وهم يهاجموننا بشدة حتى نتعارك ونتقاتل.. حسنًا فعلوا وصمتوا حتى لا يفتحوا جراحًا تنزف من زمن في الخفاء.
صوته المزعج استدعى انتباهى ذلك الرجل الإفريقى ينهر سيدة فرنسية لماذا تنظرى لى هكذا.. ترى هل كانت تنظر له فعلًا أم تخيلاته أنه متهم حولت النظرات العادية إلى نظرات شك وريبة.
اتصلت بصديق مصرى بباريس طمأننى أننى لست الوحيدة التي تنتابها هذه الأحاسيس وطمأننى أننى ما زلت أحتفظ بعقلى أو بما تبقى منه على الأقل حين قال لى إنه خرج إلى الشارع بالأمس مع أولاده، لكنه كان يلتفت حوله ويتساءل ترى هل ينظرون لى.. ترى هل لاحظوا ملامحى العربية.. هل سيهاجموننى ويتهموننى؟
كيف يمكن أن تكون مجنيًا عليه وجانيًا في نفس الوقت.. كيف يمكن أن تكون أزمتك أنك تخاف الإرهاب مثلهم وتحزن عليهم مثلهم ومتهم بالإرهاب في نظرهم؟
لن تجد أي تجمع في فرنسا إلا وفيه عرب.. ستجد العرب بين الفرنسيين في كل مكان في الاستاد والمطاعم والمسارح.، ستجد جثثنا بينهم ودماءنا ممزوجة بدمائهم بعد كل تفجير.. فكيف يمكن أن نكون في نفس الوقت الفاعل والمفعول به؟
في الثانية عشرة ظهرًا توقفوا جميعًا عن الحركة والكلام في جميع أنحاء فرنسا دقيقة صمت وحداد.. دقيقة استرجعوا فيها كل مشاهد ضحاياهم وترقرق الدمع في العيون.. كلهم على اختلاف أحاسيسهم وأفكارهم ومعتقداتهم اصطفوا دقيقة حدادًا توقفت فيها الحياة كما توقفت في أجساد بريئة منذ يومين في باريس كلهم نسيج واحد متساندين في الأزمات.. في تلك اللحظة حمدت الله أنها كانت فقط دقيقة.. حتى لا ينخرط بعضهم في النحيب، وحين عاد ابنى الصغير عشر سنوات من المدرسة قال إنه وقف دقيقة حدادًا ولكن أحد زملائه قال له إن الإرهابيين كان بينهم مصرى.. فشرحت له أن هذا الكلام غير حقيقى.. ترى كيف لطفل في هذه السن أن يرد سهام أطفال في عمره تحدث أهاليهم أمامهم عن مكنون قلوبهم الذي أخفوه عنا كبالغين مثلهم يمكننا الرد والدفاع.. ترى هل سيلاحظ أهلهم أن بين الضحايا مصريين أم أن كل ما لاحظوه هو وجود جواز السفر المصرى إلى جوار جثة تفجرت، ولم يبق منها غيره على قيد الحياة... ترى هل علموا أن صاحبه أصيب ولم يكن إرهابيًا؟
هناك لحظات تفقد فيها رغبتك في اقتناص دفاعات لتقدمها للناس.. كان بين الضحايا مصريون... نحن أيضا ضحية إرهاب داخل بلادنا وخارجها.. لو أننا سنعد ضحايانا نحتاج إلى سنوات حداد.