الإثنين 17 يونيو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

اللعب بنيران الفتنة وقت اللزوم

خزينة أسرار الدولة "٦"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان رئيس المباحث ينصت لعضو مجلس الشعب المنتخب حديثا فى دائرة مصر القديمة عام ٢٠٠٥ بدهشة واستياء فى نفس الوقت.. فقد حضر إلى مكتبه البرلمانى الجديد ذو اللحية الكثيفة وزبيبة الصلاة الداكنة اللون، للتعرف عليه بصورة أكبر والتقرب منه بشكل أعمق مما كان عليه أثناء الانتخابات.
فقد أصبح هو عضو مجلس الشعب عن الدائرة التى تقع فى نطاق عمل الضابط الذى أمضى فيها أكثر من ثلاث سنوات رئيسا للمباحث، قال له العضو البرلمانى المنتمى لجماعة الإخوان المسلمين بشكل رسمى رغم أن الجماعة لم تكن رسمية أصلا فى هذا التوقيت.. إنه يريد أن يتم التعاون بينهما فى توافق تام.. وأبدى رئيس المباحث الاستجابة والحماس المصطنع.. فقد كان على علم بما يدور فى الكواليس جيدا، ويعلم أن النظام استقر على دعم القوى الإسلامية بشدة فى هذه الفترة.. بعد أن ظهر على السطح قوى سياسية جديدة تدعو للتغيير تحت اسم «حركة كفاية» والتى ضمت مثقفى ومفكرى الوطن وشبابا غاضبا من الأوضاع السياسية التى كانت تشير إلى التوريث، والأوضاع الأمنية التى كانت تعلق تجاوزها على شماعة قانون الطوارئ الأبدى.. وأصبحت «كفاية» حركة «تخض».. لها صوت مرتفع وصل للبيوت والقصور وكاد يحيى من فى القبور.
وقد اهتز العرش وشعر الديكتاتور بالخطر، فما كان عليه حتى يحمى عرشه سوى فتح الأبواب المغلقة والتى تفتح وتغلق حسب الحاجة، وعلى رأسها باب «الإخوان» وباب «الفتنة الطائفية».. وانتشرت فى شوارع المحروسة لافتات «الإسلام هو الحل» حتى يضع الشعب أمام الاختيار المرهق «أنا ولا هما».
وهذا تحديدا ما جعل رئيس المباحث يبدى تعاونه التام مع البرلمانى الإخوانى، وقد كانت الأوامر قد صدرت إليه أيضا وبشكل واضح وكامل وصريح من رؤسائه برعايته ومساعدته وتقديم كل الدعم له!! ولكنه بعد دقائق قليلة أصابه الضيق والتوتر والوجوم.. حين بدأ البرلمانى التحدث عن أوجه التعاون المحتمل بينهما بكل ثقة، وكان المطلب الأول يحمل ما ينبئ بمستقبل لا يقل سوادا عن نواياه هو وجماعته تجاه هذا الوطن.. حيث قال صراحة للضابط «لازم نضع إيدينا فى إيد بعض ونتحد لإغلاق كل محلات الخمور فى هذه الدائرة، والتى انتشرت كثيرا فى السنوات الماضية ولازم نطبق شرع الله علشان يباركلنا»، صمت رئيس المباحث فى ذهول وهو يحاول ابتلاع ما قيل، وفى نفس الوقت حاول جاهدا استيعاب الرجل قدر الإمكان، لأن هذا الرجل الملتحى الذى أمامه لم يعد كما كان، فقد كان هذا الضابط فى فترة التسعينيات يلاحق من هم مثله، وهى الفترة التى شهدت نشاطا إرهابيا كبيرا كان يستهدف ضباط الشرطة بشكل واضح وصريح، ولهذا الضابط زملاء قتلهم ملتحون يشبهون هذا الجالس أمامه كثيرا.. ولكن الضابط يدرك جيدا أن الوضع تغير وعليه الآن أن يحتفى به لا أن يقبض عليه.. استطرد عضو مجلس الشعب «نفعل ذلك أولا ونتخلص من محلات الخمرة ثم علينا أن نمنع النصارى فى الدائرة من إقامة أى طقوس دينية وخاصة الكهنة والقسيسين فى الكنائس والأديرة خلال الأعياد وأيام الأحاد.. كفاية نجاسة بقى يا باشا»، وكان الضابط على وشك أن ينفجر ضحكا فى هذه اللحظة بشكل خاص، والسبب أن معاونه وهو ضابط مباحث شاب «مسيحى» وأحد رؤسائه فى إدارة المباحث الجنائية بمديرية أمن القاهرة «مسيحى» أيضا!!
ولكنه ابتلع حتى الضحك كما ابتلع الغضب من قبل فى الطلب الأول، فقد كان الطلب الثانى كوميديا حقا، فإن الدائرة بها العديد من الكنائس والأديرة الأثرية مثل «الكنيسة المعلقة، ودير القديس جرجس، وكنيسة الشهيد مرقوريوس المعروفة باسم أبو سيفين».. لدرجة أن محطة مترو الأنفاق فى هذه المنطقة اسمها «مارى جرجس».. أى أن المنطقة لها فى الأساس طابع قبطى تاريخى وبها جزء كبير من آثار وتاريخ مصر والتى تسمى «بالقاهرة القبطية»، ومن المستحيل محو التاريخ فى أى عصر وأى نظام أيا كان، فهى منطقة أثرية أكثر منها دينية ومحط أنظار السياح من جميع أنحاء العالم، كما أن هذه المنطقة يسكن فيها عدد كبير من الأسر المسيحية، إذن فإن طلب سيادة النائب الإخوانى مثير للضحك والسخرية فعلا.. ولكن طبعا نظام مبارك فى هذا التوقيت فى عام ٢٠٠٥ كان يرعى هذا المناخ الطائفى ويغذى مشاعر التفرقة الدينية، كما أنه كان يخلق الفتن الطائفية.
وخزينة أسرار الدولة خلال العهود المختلفة تضم أيضا أوراق سيناريو اللعب بالفتنة الطائفية.. كيفية صناعتها وتدبيرها وحبكها باحتراف.. وإخراجها وقت اللزوم وكانت تجيد اللعبة وتملك مفاتيحها وتخلقها بدقة منقطعة النظير، وكانت دائما تشعل نيرانها فى أوقات الأزمات السياسية، وكان مبارك ونظامه يغذى أيضا الشعور بالأقلية والاضطهاد عند الأقباط فقد تعلم من الإنجليز سياسة «فرق تسد»، وكان يريد من ذلك أن يشعر الأقباط أنه ونظامه الوحيد القادر على حمايتهم، وبالتالى يرفضون أى دعوة للتغيير، وكان أيضا يسرب عبر جهاز أمن الدولة شائعات حول ممارسة الأقباط للتبشير ودخول مسلمين فى الديانة المسيحية حتى يشعر المسلمون بالخطر ويحرقهم الغضب ومن ثم يضطهدون المسيحيين.. ولكن نيران غضب الفتنة تحرق جميع الأطراف.. ففى عام ٢٠٠٤ اشتعلت مصر بفتنة «وفاء قسطنطين» عقب ظهور «كفاية» بشهور حتى لا ينضم الأقباط لهذه الحركة ويشعرون بالخوف والاضطهاد ويتمسكون بمبارك.. فقد ارتعب من «كفاية» وأشعل نيران الفتنة فى الوطن لسببين الأول لضمان عدم انحياز الأقباط لحركة التغيير، والثانى لإلهاء الشعب عن هذه الحركة وانشغاله بأحداث كادت تدمر مصر.
وكان نظام مبارك يسير على نهج نظام الرئيس «السادات» فى ذلك، فقد صنع نظام السادات أحداث «الزاوية الحمراء» عام ١٩٨١ وهى فتنة طائفية أشعلت البلد بنيران كادت تحرق الأخضر واليابس، حيث استخدمها النظام فى ذلك الحين للتغطية على الاعتقالات السياسية التى شنها على السياسيين والمثقفين فى هذا التوقيت المعترضين على اتفاقية «كامب ديفيد» وسياسات الانفتاح الاقتصادى، وكان النظام قد أعاد الإسلاميين للحياة بعد أن كاد الرئيس «جمال عبدالناصر» يقضى عليهم، ومكنهم نظام السادات من مصر من جديد بل ودعمهم بقوة وجعلهم جبابرة على الأرض إلى أن قتلوه هو نفسه، قتلوا من أعادهم للحياة فقد حضر السادات العفريت وفشل فى صرفه حتى تمكن منه العفريت وقضى عليه، وكأنه عقاب إلهى.
ولكن مبارك كان قد أتقن اللعب بالنيران وعرف كيف يستخدمها دون أن تحرقه، وهو ما جعله يحترف لعبة الفتنة الطائفية ويشعلها وقتما أرادت مصلحته.. مصلحته هو فقط.
miramalash@gmail.com