الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

3 مقالات "مجهولة" بقلم "الآنسة أم كلثوم"

ام كلثوم
ام كلثوم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كان الأمر مفاجئًا بالنسبة لى على الأقل، أن تكون الست أم كلثوم قد كتبت للصحافة المصرية، بينما كان معروفًا عنها أنها تخشى الصحافة، وتوافق بعد عناء طويل على إجراء حوارات صحفية.

احتفظت «الست» بعلاقة خاصة مع الأستاذ مصطفى أمين، وبحسب ما تقوله المؤرخة الموسيقية، رتيبة الحفنى، فإن «أم كلثوم» تزوجت من «أمين» سرًا، وأمضت معه 11 عامًا، وكان عقد زواجهما فى يد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.

على مدار نصف قرن من تربعها على عرش الغناء العربى حتى يومنا هذا، عرف الجميع أنها «تغنى» إنما أن تكون كاتبة فالأمر جد مفاجئة، لكن كما قال مصطفى أمين: فالست تمتلك قدرات ذهنية، وبلاغة وسرعة بديهة تؤهلها لتكون صحفية بارعة، هنا نعيد نشر 3 مقالات نشرتها «أم كلثوم»، نقلًا عن جريدة «السفير» اللبنانية، ونُشر الأول فى مجلة «الكواكب»، والثانى فى صحيفة «أخبار اليوم»، والثالث فى مجلة «آخر ساعة»، وذلك تزامنًا مع الاحتفال بعيد ميلادها، بعد غد الثلاثاء.


1- جمهوري

شتان بين ذلك اليوم الذى وقفتُ فيه لأول مرة أغنى فى حفلة عامة فى القاهرة عام 1925 وهذه الأيام.. كنت فى ذلك اليوم أحس أننى أقف أمام لجنة امتحان، وصحيح أننى كنت كالتلميذة التى حفظت دروسها (صم)، ولكن كان هناك دائمًا شعور بالخوف من جمهور المستمعين.. حتى أننى لم أنم فى تلك الليلة بعد أن انتهت الحفلة على خير ما يرام، ولكن على مر الأيام والحفلات صرت أجد لذة كبرى فى الوقوف أمام الجماهير، وانقلب الأمر فأصبحتُ أشعر وكأننى مُدرسة والمستمعين هم التلاميذ، وإننى لأجد متعة طيبة فى أن أراقب الجمهور الذى يستمع إلىّ، وأدرس بعض شخصياته النادرة الطباع، وكأننى أشاهد فيلمًا مسليًا، ومن هؤلاء الذين أتسلى بمراقبتهم فى أثناء حفلاتى الغنائية:

الرومبو:

وهو شخص رقيق جدًا، ما أكاد أبدأ الأغنية حتى يضع يده على خده، ثم يستمع إلى فى شرود عميق، وبين كل مقطع وآخر يرتفع صدره وينخفض فى تنهيدة تعبر عن مبلغ أساه، وأراه سابحًا فى الفكر والتنهيدات، ثم يفيق فجأة حين يسمع تصفيق المستمعين، ليشاركهم التصفيق، وأحيانًا أرى هذا المستمع «الرومبو» جالسًا إلى جانب «جوليت» وعندئذ يضيف إلى ما يفعله بعض النظرات يصوبها إليها بين حين وآخر، ليرى تأثير عبارات الأغنية على وجهها، وأشعر به فى هذه اللحظة كأنما يقول لها: إنت سامعة؟

وما دمت قد تحدثت عن المستمع (الرومبو)، وأتحدث عن نوع آخر من المستمعات وهي:

العاطفية

وهى إنسانة أراها تجلس فى مقعدها قبل أن أبدأ الغناء وقد راحت تصلح من تواليت وجهها، وبعد قليل أجدها وأنا فى عز الأغنية قد أخرجت منديلًا من حقيبتها وراحت تجفف دموعها، وتفرح إذا كانت عبارات الأغنية مفرحة، وفيها لقاء بين الأحبة، وتبكى إذا كانت عباراتها تصف لوعة الهجر وطول الحرمان.. فإذا ما انتهت الوصلة كان وجهها من فرط التقلبات العاطفية فى أشد الحاجة إلى عملية «تواليت» أخرى.

وثمة نوع آخر من المستمعين هو:

العصبي

وهذا المستمع كثيرًا ما يضحكنى بتصرفاته، فهو عادة يكون هادئًا جدًا قبل أن أغني، ثم يَطرب فتهتاج أعصابه ويصيح بين كل مقطع وآخر بكلمات «أعد» و«كمان يا ست»، ولا يكتفى بذلك بل يتنطط على مقعده من فرط النشوة ولا يبدى إعجابه بالتصفيق كغيره، بل يقذف بطربوشه فى الهواء. أذكر أننى لاحظت فى إحدى الحفلات أن هذا المتفرج حضر حاسر الرأس بغير طربوش فقلت فى نفسي: «الحمدلله فلن يكون هناك طرابيش تقفز فى الهواء»، ولكن ما إن أنهيت أحد مقاطع الأغنية، حتى رأيت صاحبنا يختطف طربوش جاره ثم يقذف به فى الهواء! وبمناسبة الحديث عن (العصبي) يجدر بى أن أتحدث كذلك عن مستمع آخر أحب أن أسميه:

البطانة

فهذا المستمع لا يلذ له الاستماع لى إلا وهو يردد معى الأغنية التى أغنيها، ولست أدرى لماذا.. أهو يتدرب على الغناء؟ أم أنه لا يطرب من صوتى وحده؟ وفى بعض الأحيان أجد تسلية لطيفة فى مشاهدة هذا المستمع وهو يتمايل يمينًا وشمالًا وقد تقلصت عضلات وجهه، وبرزت عروق رقبته، وهو يحاول أن يمشى معى فى الغناء، وكثيرًا ما أتوقف أثناء الغناء فجأة قبل أن أتم المقطع لألاحظ ما سيفعله، فأراه عندئذ يلتفت حوله وهو يبتسم، كأنما يدارى خجله عن جيرانه المستمعين، ولا بد أن أتحدث أيضًا عن ذلك المستمع الذى لا أدرى إن كان سخيفًا أم ظريفًا أم الاثنين معًا.. ذلك هو:

المهرج

وأكاد أشك فى أنه يحضر حفلاتى ليستمع إلى غنائى أكثر من رغبته فى أن يثير حوله انتباه الناس، إن هذا المستمع ينفرد بين بقية المستمعين بأسلوبه الغريب فى إبداء الإعجاب، فهو لا يصفق بيديه، بل يأتى معه بقطعة الخشب ليدق بها على الأرض، أو المقعد كلما انتشى طربًا، وهو لا يقول «أعد»، ولا «من الأول يا ست» مثل غيره، بل يطلق (زغرودة) طويلة تثير الضحك فى جنبات المسرح! وهناك الكثير من أنواع المستمعين، الذين يستحقون أن أتحدث عنهم، غير أن الحديث عنهم قد يستغرق صفحات المجلة كلها من هؤلاء يتألف الجمهور الذى يحبنى وأحبه.

مجلة "الكواكب"


2- حينما أغني

غنيتُ وأنا طفلة صغيرة لا أعرف من أمور الدنيا إلا ما يعرفه الأطفال. غنيتُ وأنا لا أشعر بما أقول، ولا أحس بحلاوة النغم فى فمي، ولا أعرف هزة الطرب فى قلبي، وكنت إذا صفق الناس عَجِبت، وسألت نفسي: لماذا يصفقون؟! وهكذا لا أستطيع أن أقول إننى عشقت الغناء طفلة، أو أن أدعى أننى كنت أردد القصائد والموشحات بدلًا من البكاء، لقد غنيت لـ«اللقمة» لا لـ«النغمة».

غنيت لأعيش، لا للفن ولا لإلهة الفن الجميل، وعندما كنت طفلة أغنى فى الأفراح كانت أمنيتى أن تحدث مشاجرة واحدة على الأقل بين المدعوين، أو بين أصحاب الفرح لأتفرج، وأستريح من عناء المغنى! والليلة المتعبة عندى هى التى تمر بسلام، فلا يحدث فيها ضرب، ولا يقع جري، ولا ترتفع فيها الكراسى فى الهواء، ولا تتكسر الفوانيس على رءوس المدعوين، ففى مثل تلك الليلة الهادئة كنت أضطر أن أكرر القصيدتين الوحيدتين اللتين كانتا كل محصولى من «الغناء» فى تلك الأيام! كنت أصعد إلى المسرح لا يهمنى شيء، ولا أبالى بشيء، ولا يخيفنى شيء.. وأى شيء يخيف طفلة صغيرة لا تعى ما تفعل، ولا تفهم كلمة واحدة مما تقول.

كبرتُ وبدأ حظى يكبر معي، وبدأتُ «تذوق الفن»، عند ذلك بدأتُ أتهيب المسرح، وأرهبه، وأخشاه، وأشعر كلما غنيت أننى مقبلة على امتحان رهيب، وأن المستمعين هم أولئك الممتحنون الذين لا يرحمون، ولا يتساهلون، ولا يقبلون عقد امتحان ملحق للراسبين، وقد يحدث أحيانًا أن أذهب إلى حفلة من الحفلات، وأنا على أتم الاستعداد لها «مزاج رائق، وصحة طيبة»، فلا أكاد أفتح فمى للغناء حتى أتمنى لو أخذوا منى كل ما أملك، وعتقونى لوجه الله.. ولا أغني، وفى بعض الليالي، قد تكون صحتى ليست على ما يرام، ومزاجى لا يصلح للغناء، وإنما أذهب لأداء واجب، فلا أكاد أفتح فمى حتى تترقرق دمعة فى عيني، وتظل حائرة، ثم لا ألبث أن أنسى الناس وأغنى لنفسي، وقد أفتح عينى وأنظر للجمهور ولكننى لا أراه! وأتصور المكان ليس فيه أحد سواي، لا أسمع أصوات التصفيق، ولا صيحات الاستحسان، فإذا كررت مقطعًا فإنما أكرره لأننى أريد ذلك، لا لأن صوتًا ارتفع يقول لي: «كمان».

فى مثل هذه اللحظات أغنى وأنا أحلم، وتصبح القطعة الغنائية قطعة من قلبي، فإذا قلت «سافر حبيبي» فإننى أتخيل أن لى حبيبًا، وأنه أسلمنى للألم والعذاب، وإذا أنشدت «غنى الربيع» أحسست أن الدنيا كلها ربيع يُغني: الطيور تغني، والأشجار تورق، والوجوه تبتسم، والنسيم يراقص الغصون على أنغام الطير، وأرى الورد نعسان حقًا، والكون يشاركنى فرحي، والجو «كل لحن بلون».. ثم أتلفت وأبحث عن الحبيب الذى تخيلته فلا أجده، وأشعر أنه غاب عن قلبى الحائر، وأناديه: «كلمني»! وأذكره بالماضى الذى أعيش فيه، وأقول له: «طمني»، وأسأله عن حال فؤاده. هل قسا وأنا صابرة؟ هل غضب وأنا راضية؟ ثم أنظر حولى فإذا أنا وحيدة حقًا، وإذا الأزهار جفت فوق الغصون، وإذا الشمس غابت من أفق الأحلام، وإذا الأرض صحراء جرداء لا فيها زرع ولا ماء، وفى بعض الليالى أنتهى من غنائى وكأننى أنتهى من حلم، فيوقظنى تصفيق الجمهور فى نهاية المقطوعة، فأحس بالرعدة فى جسمي، وأشعر شعور النائم حين يستيقظ بعد حلم رائع ويتمنى لو أنه لم يفتح عينيه، وعاش إلى الأبد فى ذلك الحلم الجميل! وهناك ليلة فى عمرى لا أنساها تختلف عن كل ليالى حياتي، ليلة أن غنيت فى النادى الأهلي، وكانت ليلة العيد، وأقبل الملك فاروق، مفاجأة.. أحسست عندئذ أن فى قلبى عيدًا سعيدًا، وأن فى قلبى موسيقى تعزف بأعذب الألحان، وأحسست فى الوقت نفسه برهبة، وخوف. وحِرتُ ماذا أغنى فى حضرة الملك؟! ورحت أغني.. ولم أشعر بشيء بعد ذلك، ولم أعرف أننى أجدت، ولم أعرف أننى فشلت. بعد ذلك بأيام كنت فى محطة الإذاعة، أسمع الشريط الذى سجلت عليه أغانى الحفلة، فأغمضت عيني، ورحت أسمع، ولم أتمالك نفسي، فوجدتنى أصيح: الله.. يا أم كلثوم!

"أخبار اليوم" 25 نوفمبر 1944


3- موسم النرفزة

ألم تلاحظوا أن كل إنسان فى مصر أصبح عصبيًا هذه الأيام؟ الوزراء عصبيون، والصحافيون أشد عصبية من الوزراء، والزعماء «متنرفزون» والشعب أكثر نرفزة من الزعماء، والنساء ساخطات، والرجال غاضبون، والإضرابات فى كل مكان، وكل إنسان فى مصر يقول: «شكل للبيع»! وليس السبب فى كل هذا الغلاء كما تُصر الصحف، ولا السبب الحركات الشيوعية، والمفاوضات والخلافات الحزبية.. ولكن اكتشفتُ السبب الوحيد فى كل ما نراه الآن من عصبية الشعب المصرى هو التليفون! تصور مثلًا وزير التجارة يستيقظ فى الصباح ليشرف على حالة الغلاء.. ويسأل عن صحة البرتقال والسكر والزيت! ويطلب الوزير فى التليفون وكيل وزراء التجارة، فيرد عليه حلاق صحة السيدة زينب، ويتنرفز وزير التجارة ويعود ليطلب رقم الوكيل فيرد مستشفى رعاية الأطفال فى إمبابة! ويضرب وزير التجارة السماعة بشدة ويعود فيطلب نمرة وكيل التجارة، وهنا يسمع ردًا متقطعًا، وأزيزًا متواصلًا، ثم صراخًا فى الأسلاك، ثم طقطقة فى السماعة.. فإذا تَحمل الوزير كل هذا ولم يُصب بالإغماء، جاءت النمرة مشغولة! وتزداد عصبية وزير التجارة ويعود إلى طلب الرقم من جديد، فإذا الوكيل لا يرد، ويعجب الوزير كيف أن الوكيل ليس فى مكتبه، فيزداد عصبية، ويطلب سكرتير الوكيل، وبعد أن ينقطع التليفون سبع مرات، يعلم أن الوكيل موجود فى مكتبه من الصباح الباكر، فيطلب أن يحادثه، فيحول له السكرتير «السكة»، ثم يسمع الوزير صوت الوكيل، وهو يبدو من بعيد كأنه وزير تجارة مراكش يتكلم مع وكيل وزارة الصين! ويصرخ الوزير ليسمعه الوكيل، ويتنرفز الوزير والوكيل والسكرتير، الذى يتدخل كل خمس دقائق فى الحديث ليصلح السكة، وليتوسل لسنترال الوزارات ألا يقطع محادثة معالى الوزير.. ويهدأ الجو وتنتظم المحادثة، ويبدأ الوزير فى ذكر ما يريد أن يقول للوكيل.. وفجأة يدخل صوت فى التليفون ويصيح: أنا أبوعوف.. أنا أبوعوف.. عم محمد البقال موجود؟ ويصرخ وزير التجارة: عم محمد مين يا جدع! ويتدخل السكرتير ويقول: إنت بتتكلم مع وزير التجارة، ويقول الصوت ببرود عجيب: خلى محمد البقال يكلمنى يا وزير التجارة! ويتنرفز الوزير والوكيل والسكرتير، وأبوعوف أيضًا، ويذهب الوزير إلى مكتبه وأعصابه فوق جلده والعصبية تركب السيارة معه بجوار السائق بدلًا من الساعي! ويدخل الوزير مكتبه بهذه الحالة، فيتخانق مع التجار، ويتشاجر مع المستهلكين، ويختلف مع الموظفين، ويزداد الغلاء! ووزير الخارجية كذلك.. يبدأ صباحه مبكرًا، فيتكلم فى التليفون مثلًا طالبًا سفير إيطاليا، وبعد أن يقول له: «هاو دو يو دو؟» وأهلًا بحلفائنا الأعزاء، يكتشف أن هناك لخبطة فى الخط، وأن الذى يرد عليه هو سفير روسيا، ولما كنا ضد الشيوعية، فإن الوزير يسرع ويقفل السكة، ثم يعود الوزير فيطلب رقم السفير البريطاني، وإذا الذى يرد عليه هو حانوتى باب الخلق! ويسأله الوزير عن موعد الجلاء مثلًا، فيجيبه «الساعة الثالثة من ميدان الإسماعيلية»، ويحاول الوزير عبثًا أن يتصل بمكتبه، ولكن المكتب لا يرد، ثم يرد المكتب، ثم تنقطع المحادثة، ويتنرفز الوزير، ويذهب إلى مكتبه عصبيًا، فيتخانق مع سفير بريطانيا، وأمريكا، وروسيا، وسفير اليمن أيضًا.. وتخرج الصحف تقول: إن علاقتنا مع الدول كلها سيئة، وهى لا تعرف أن المسئول التليفون! وزير المالية هو الآخر ضحية مصلحة التليفونات.. يطلب مثلًا نادى رجال البوليس، ليبلغهم سرًا أنه قرر زيادة مرتباتهم، و«ما تقولش لحد»، فتختلط المحادثة بتليفون نادى الأطباء، فيطالبون هم الآخرون بإنصافهم، فيحاول أن يبلغهم تليفونيًا أنه أجاب طلباتهم «وما يقولش لحد»، فتختلط السكة بخط نقابة المهندسين.. ويسمعون المحادثة، فيثور المهندسون ويطالبون بإنصافهم، ويطلب الوزير مثلًا شركة سعيدة ليبلغها أنه قرر منحها إعانة مالية، فيظهر أن النمرة التى جاءت هى نمرة مشيخة الأزهر، ويقول الوزير: «سعيدة» فيرد شيخ الأزهر: سعيدة، ويبلغ المشايخ البشرى، ثم تصدر وزارة المالية بلاغًا تكذب فيه أنها قررت إعانة الأزهر، فيقوم العلماء ولا يقعدون، ويعرفون مسألة إعانة شركة سعيدة ويقولون: إن الإعانة تكفى لإنصاف الأزهر والمعاهد الدينية وهيئة كبار العلماء! ويتنرفز وزير المالية وتتنرفز معه الميزانية وتضرب الطوائف.. وأنا شخصيًا ضحية التليفون، وما أنا إلا فرد من هذا الشعب العصبي، أستيقظ فى الصباح نشيطة متمتعة بكامل صحتي، وأمسك سماعة التليفون فإذا بأعصابى تتحول إلى شبكة تليفزيونية ملخبطة، أسمع وَزًا، ثم يعود الوز، ثم يختفى كأنه يلعب معى لعبة «حاورينى يا طيطة»، وأعيد السماعة إلى التليفون وأبدأ فى تهدئة أعصابى وإقناع نفسى بأن أزمة التليفون ستُحل بعد سنتين كما تُبشرنا الصحف، ثم أمسك السماعة فأسمع الوز فأفرح، وأسرع فأدير قرص التليفون بالرقم الذى أريده.. وفجأة يسكت التليفون، فأضع السماعة وأبدأ من جديد، وبعد ٢٥ محاولة تقريبًا، أنجح فى إدارة الرقم الذى أريده، وإذا بالكهرباء تتوقف ثم أسمع الجرس يدق، وأقول: هالو، ويقول صوت: هالو مين؟ أقول: أنت عاوزة مين؟ يقول: إنت عاوزة مين، أقول: إنت اللى طلبتنى يقول: أبدًا إنت اللى طلبتني.. ويفقد الصوت أعصابه فجأة، ويقول: يا ستى إنت اللى طلبتي، إحنا ناس مشغولين، إحنا ناس متجوزين، ما تجيبلناش مصيبة ع الصبح! وأتضايق وأشتمه، ويشتمنى، وأتنرفز ويتنرفز.. ويتنرفز الشعب المصرى الحليم! وأعالج نفسى بالأدوية المهدئة، ثم أمسك التليفون وأطلب صديقتي، فترد عليَّ بعد طلوع الروح! وما أكاد أقول: صباح الخير.. حتى يرد علي سبعة أشخاص فى وقت واحد، وأسمع صوتًا يقول: اقفلى السكة! وصوتًا ثانيًا يقول: يا محمد أفندى ما تنساش الفراخ، وصوتًا ثالثًا يصرخ: ده بقى راديو مش تليفون، وصوتًا رابعًا يصرخ: يا الدلعدى خلينا نتكلم، وصوتًا خامسًا يقول: بعتوا القطن بكام؟ فيرد سادس ويقول: وإنت مالك يا بارد، إسمع يا محمد أفندي، ما تنساش الفراخ! فيصيح سابع بحالة عصبية: اقفلوا السكة خلينا نتكلم! ويشترك السبعة فى مناقشة حادة، وتنتهى بأن يشتموا بعضهم البعض ويقفلوا التليفون.. عصبيين.. متنرفزين.. غاضبين.. مضربين. وهكذا تعودت الآن أننى إذا طلبت رقمًا فى التليفون لا أقول «هالوه»، وإنما أقول: سيداتي... سادتي!

مجلة "آخر ساعة" 31 يناير 1951

من النسخة الورقية