رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بالعربي

Le Dialogue بالعربي

شريفة أمهرار تكتب: المخابرات فى التراث العربى.. نهاية أبوطاهر القرمطى (الجزء الثانى)

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بعد أن تولى أبوطاهر الحكم فى البحرين خلفا لوالده بين عامى ٩١٢ و٩١٣ قام بالعديد من الغزوات ونهب مكة والمدينة ومنع الحج لسنوات عديدة كما دمر البصرة والكوفة وقد استولى القرامطة على العديد من العبيد كان منهم عبد فارسى قوى رفض الخضوع لسيده الأمر الذى دفع به لسؤال أبى طاهر ماذا يفعل بشأنه. التقى أبوطاهر بهذا العبد وانتهى الأمر بأن خلع على هذا العبد عباءة الأمام الخفى وأقسم له بالولاء. قدم أبوطاهر هذا الرجل للقرامطة على أنه الإمام المنتظر وطلب منهم القسم بالولاء له وسرعان ما أمر هذا الفارسى الغامض أبوطاهر بقتل العديد من وجهاء وجنرالات القرامطة. وعندما انتهى من عملية التطهير خشى أبوطاهر على حياته فقام باغتيال الإمام مما أدى إلى اندلاع حرب داخلية بين المدافعين عن الإمام وأهالى ضحايا الإمام من جهة وقرامطة أبى طاهر من جهة أخرى وبهذا التدمير الذاتى لم يعد القرامطة يمثلون أى تهديد يذكر للخلافة العباسية.
كيف أقنع هذا العبد الفارسى أبوطاهر بأنه الإمام الخفي؟ لقد أخبره بموقع كنز العائلة والذى لا يعلم بمكانه إلا والده الراحل أبوسعيد. وهكذا استطاع أن يقنعه بأنه يعرف أسرار القلوب والأشياء الخفية. ولكن كيف علم هذا الفارسى بوجود هذا الكنز؟ كان رجل يدعى ابن سنبر يرسله إلى معسكر القرامطة بهذا السر وأمره بالتنكر فى صورة الإمام الخفى واغتيال الرجال الذين حددهم له؛ ولعل ابن سنبر هذا هو الحسن بن سنبر حمو أبى سعيد ووالد أبى طاهر.
تفسير العملية
كيف لنا أن نستنتج أن هناك عملية استخباراتية واسعة النطاق قد تم إعدادها.. عدة أشياء جلعتنا نستنتج ذلك؛ الافتراض الأول هو تفوق أبى طاهر الذى هدد بغداد ثم حدث تغيير مفاجئ فى الموقف بعد تسلل عميل أجنبى إلى معسكر القرامطة وتحايله على قائده ودفعه إلى قتل المحتقنين. وكان نتيجة هذا حربًا داخلية بين القرامطة المؤيدين لـ«الإمام الخفى» الموالى لأبى طاهر وعائلات القرامطة المقتولين. ويبدو بذلك وبوضوح وجود عملية استخباراتية وأرسل ابن سنبر رجلًا إلى أبى طاهر فى ثوب عبد فارسى تم أسره فى الكوفة. لقد كان عليه إقناع أحد أبرز قادة القرامطة أنه الإمام الخفى وأن يغويه باغتيال شخصيات بارزة وذات نفوذ من القرامطة.
ومما لا شك فيه أن تسلل هذا العميل كان ناجحًا لأنه نجح فى اغتيال الغالبية العظمى من «الضباط الرتبـ« من القرامطة لدرجة أن أبوطاهر كان يخشى على حياته، وكان هذا العميل يدرك بالتأكيد أن مهمته لا نجاة معها فالنجاة من مثل هذه العملية معجزة بكل المقاييس.
ماذا نعرف عن هذا الوكيل؟ هو عند الطبراتى وابن العطار اسمه الأصبهانى وعند البيرونى اسمه ابن أبى زكريا الحمامى. وفى بداية مهمة أبى سعيد قتل مبشر ذو شعبية كبيرة من بنى سنبر: أبوزكريا. إن افتراض أن هذا الوكيل الفارسى ربما يكون هو ابن أبى زكريا ليس بالأمر الصعب وربما كان عبدًا لابن سنبر أو عميلًا مخلصًا. إنه بالتأكيد لم يكن من الطائفة الإسماعيلية ولا حتى سنى مثل الذى أرسله؛ فملابسه توحى بذلك طبيعة. كما أن أسلوب عملهم لا يتفق مع أسلوب السنة وليس هذا معناه أن السنيين لا يخالفون القوانين الدينية بل لأنه من حيث التوعية فإن هذا الأمر كان من الممكن أن يكون خطأ فادحًا.
وفق الشريعة الإسلامية السنية؛ من يأمر بالكفر هو كافر وهذا العميل الفارسى مذنب بنوعين على الأقل من الكفر: إضفاء الشرعية على ما يحظره القانون وادعاء العلم بكل شيء، والمصادر التى نظرت إلى القرامطة واتهمتهم بالإلحاد لم يأخذها المؤرخ فى الحسبان ولكن كل المعاصرين لهذه الفترة أكدوا وقوع هذين الفعلين وهذا ما سمح لهذا الوكيل بالوفاء بمهمته.
ومن الناحية القانونية، لا يمكن لعميل مخابرات سنى أو غير سنى أن يبرر انتحال صفة الإمام الغائب ودعوة الناس إلى طاعته والاستمرار فى دين يعتبره السنة هرطقة. وبالمثل فإن الإسماعى المؤمن لن يجرؤ على الادعاء بأنه إلامام الغائب ودعوة الناس لطاعته. وصحيح أن عدة أشخاص سبق أن انتحلوا صفة المهدى أو الإمام المنتظر مثل عبيد الله. ومع ذلك، لا يبدو أن ادعاء الوكيل يهدف إلى جذب الناس لقضيته أو لخدمة أى غرض آخر غير تحييد أبوطاهر. لقد كانت دوافعه وأفعاله مختلفة تمامًا عن دوافع الحاكم الفاطمى الأول. وبالتالى فإن رئيس العملية والوكيل لا يمكن أن يكونا من أهل السنة ولا من الإسماعيلية.


الأسلوب الذى استخدمه العميل للاقتراب من أبوطاهر يشير إلى خبرة واسعة فى التسلل والتخطيط الدقيق للعملية مسبقًا. ولابد أن ابن سنبر قد درب وكيله على أسلوب عمل القرامطة؛ فهم يدخلون المدينة ويذبحون وينهبون ما بوسعهم ثم يأخذون معهم المهزومين للعمل معهم. وفى الحقيقة، كان الهدف الأول للعميل الفارسى - الذى كانت صفاته الجسدية تمكنه من النجاة من هجوم القرامطة - هو أن يكون من بين الرجال الذين استعبدوا وبمجرد أن يتم له ذلك يجرى مقابلة مع رئيس القرامطة ليلعب عليه دور العبد المتمرد. الهدف من ذلك أن يضع سيدة فى موقف العاجز قليل الحيلة ويجبره على إرساله إلى زعيم القرامطة وبمجرد تخطى هذه العتبة؛ عليه إقناع أبوطاهر «بأسطورته». ومن أجل أن ينتهى اللقاء بيمين الولاء من أمير القرامطة إلى العبد صعب على رجل متمرس وفى ذكاء أبى طاهر أن يقع فريسة للتلاعب بسهولة. ولا بد أنه اقتنع بالعديد من الأسرار التى كشفها الوكيل الذى بمجرد أن يصل إلى هذه المرحلة عليه أن يبدأ المرحلة الأخيرة وهى مرحلة قمع أهداف ابن سنبر. مرة أخرى نؤكد أنه للقيام بذلك عليه أن يكون على دراية بأسلوب القرامطة حتى لا يثير الشك عليه أن يتصرف وفقًا لما توقعه القرامطة من الإمام المخفى. ولذلك فقد برر قتل الأشخاص المستهدفين بالنفاق الدينى الذى اكتشفه فى قلوبهم. وقد تمكن الوكيل من القضاء على عدد كبير منهم دون إزعاج ؛ لكن من الصعب أن يستمر هذا طويلا كان الخناق يضيق حول أبى طاهر مما جعله يخشى على حياته ويشكك فى شرعية هذا الإمام الجديد. لكن مقتل هذا العميل تسبب فى سقوط المزيد من الضحايا بين القرامطة الذين اختلفوا فيما بينهم حول أمره ولربما كانت وفاته جزءًا من المهمة. ومما لا شك فيه فإن العملية التى بدأت بتسلل العميل كعبد ثم كإمام مستتر أسفرت عن عدد كبير من عمليات القتل المستهدفةالتى استهدفت الرتب الأعلى من القرامطة. السؤال الآن من يقف وراء هذه العملية.
أصل العملية
من أجل معرفة من يقف وراء هذه العملية برمتها علينا أن نسأل من المستفيد من الجريمة. بلا تردد العباسيين ولاشك أن الخليفة المقتدر هو الذى يقف وراء هذه العملية؛ فلقد حاول بالفعل فى مناسبات عديدة تحييد التهديد القرامطى لكن دون جدوى. لقد استدعى المقتدر بعض القادة الأتراك وطلب العديد من جيوشه ولكن أيضا دون جدوى. كان أبوطاهر على أبواب بغداد تقريبًا عندما استولى على الكوفة. ومع ذلك، حتى لو كان تدخل بلاد فارس مفيدًا للخليفة فمن الصعب تصور سلطة سنية تأمر أى أحد بالادعاء أنه الإمام المنتظر أو أنه شريك لله فى العلم. ومن ناحية أخرى رأينا عبيد الله المهدى الفاطمى يدعى أنه المهدى النتظر. وقد أثبت التاريخ أن هذا الحاكم الفاطمى لم يتردد فى قمع منافسيه من الإسماعيليين أو من كل منافسيه. ورغم إدانة عبيد الله بشدة لأفعال قرامطة أبى طاهر رسميا إلا أنه دعمهم سرًا لأنهم يخدمون مصالحه. واستنادًا إلى روايات ابن حوقل وناصر خسرو وابن الجوزى وآخرين فقد أكد دى جويجى أن عبيد الله كان يقود القرامطة. لذلك لم يكن للخليفة الفاطمى أى مصلحة فى وقف تقدم القرامطة الذى قاده بنفسه أو حتى فى اختراع إمام خفى منافس.
الاحتمال الثالث قائم أن من الممكن أن يقوم بهذه العملية محارب قديم من القرامطة قريب من أبى سعيد أو شخص يمكنه أن يضع حدًا للتهديد الذى مثله أبوطاهر وجيشه لكى يجد حظوة لدى الخليفة العباسى. هذا هو الاحتمال الذى نميل إليه أكثر. لم يكن لعبيد الله أى مصلحة فى هذه العملية حتى لو كان بإمكانه التخلص من أبى طاهر الذى كان بمثابة منافس فى الإمامة.. هذا الاحتمال الثالث تؤكده العديد من المصادر.
ويرى دى جويجى أنه من الصعب تصور أن ابن سندر هو المحرض على مهمة الوكيل الفارسى لأن بنى سنبر سيستمرون بعده فى ولائهم للقرامطة. ولكن ما يؤمن به الأب ليس بالضرورة هو ما يؤمن به الابن. لا يمكننا تجاهل التورط المحتمل للحسن بن سنبر فى هذه القضية. كم عدد الآباء الذين كانوا معارضين لأبنائهم؟ عبد الوهاب والد محمد بن عبد الوهاب (مؤسس الوهابية) هو أحد الأمثلة على ذلك. فقد اختلف مع ابنه محمد بل وحذر الناس من فكره وبدعته. ربما اعتنق ابن سنبر المذهب السنى دون أى أمل فى التأثير على ابنه وربما جاء موقفه من جانب واحد. احتمال آخر: ربما ابن سنبر، بعد أن علم بما حدث مع حمدان كان سحبط وبدون التحول إلى المذهب السنى ربما وجد فرصة مثالية للحصول على مزايا الخليفة. وكيف يثبت صدقه إلا بخيانة قضيته القديمة؟ على أى حال، فإن مكانة ابن سنبر تمنحه الكثير من المصداقيه لأنه كان يعرف الكثير من المعلومات السرية عن صهره أبوسعيد وعرف بالضبط كيف يتعامل معه.
من له مصلحة غير العباسيين هذه العملية؟ هل هو انتقام شخصى لابن سنبر؟ ربما ذلك لانه أرسل رجلًا واحدًا فقط وأن هذه المهمةلم تتطلب الكثير من الجهد. لكن القرمطى لم يكن يجرؤ على هذه التمثيلية. المرجح أن ابن سنبر أراد أن يخدم مصالحه الخاصة بخدمة مصالح الخليفة. لذلك كان لابد من القيام بهذه العملية لصالح العباسيين ولكن بقيادة ابن سنبر. وليس من المستغرب أن يتصل بشبكة مخابراته الخاصة.كان لأبوطاهر عملاؤه فى العراق وبغداد والكوفة وكذلك فى جيش الخليفة وقد وصلت المعلومات إليه بسرعة عن طريق الحمام الزاجل.
ولا شك، أن وجود مصطلحات استخباراتية فى المصادر ليس شرطًا للكشف عن أنشطة البحث عن المعلومات أو لاستنتاج تدخل الاستخبارات؛ لكن ما هو ضرورى للباحث هو معرفة كيفية التعرف على مثل هذه الأنشطة وللقيام بذلك يجب أن تكون على دراية بالاستخبار ويمكن مساعدة الباحث المبتدئ من خلال تطوير طريقة تسمح له بتأكيد أو دحض استخدام الاستخبارات. وقد تكون هذه الطريقة عبارة عن مجموعة من الأسئلة على المؤرخ الإجابة عليها. واعتمادًا على الإجابات يمكن أن يستنتج بعد ذلك أن المعلومات الاستخباراتية متورطة أولا. يطرح هذه الأسئلة متخصصون فى المخابرات لأنهم أكثر خبرة من المؤرخين فى هذا المجال. مثال لهذا: فى معسكر معين هل كان هناك تدخل من وكيل خارجي؟ هل فرض هذا الوكيل قرارًا على الشخص الذى تسلل إليه؟ هل قتل أشخاص فى المجموعة؟ وهل له صلة بواحد أو أكثر من أعداء المعسكر المتسلل؟ هل تدخل فى لحظة استراتيجية؟ هل نتيجة تدخله ضد المعسكر المخترق؟ هل كانت لصالح عدوه؟ إلخ... هذه الطريقة التى تطمح إلى إلقاء الضوء على ما لا تقوله المصادر يمكن أن تسهل بشكل كبير البحث فى تاريخ الاستخبار.
وفى الحقيقة، الاستنتاج المستخلص من إجاباته حتى لو لم يكن قاطعًا فى جميع الحالات من شأنه أن يلقى الضوء على تطور الأحداث التاريخية المختلفة.. وهكذا قد يميل المؤرخ على الرغم من عدم وجود مراجع صريحة فى المصادر تدل على التدخل الاستخباراتى أو العكس.
معلومات عن الكاتبة: 
شريفة أمهرار.. طالبة دكتوراة فى تاريخ المخابرات (جامعة سيدى محمد بن عبد الله، فاس)، حاصلة على جائزة الباحث الشاب لعام 2010 من مركز الدراسات والأبحاث الفرنسى، وشاركت أيضًا فى تأليف كتاب «المخابرات والجاسوسية فى العصور القديمة والوسطى».. تواصل الكتابة عن عالم المخابرات فى تراث الأدب العربى.