الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حين تبكي أسنة الأقلام

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في ليلة ممطرة كثر رعدها في السماء، حيث لم ينقطع سيلها المتدفق، ورياحها العاصفة، حتى أن الكهرباء قد انقطعت عن البلدة بأسرها.
أصوات الرياح لها دوي مرعب، فكأنها تصطدم بجسم يقابلها في الفضاء هناك خارج المنزل، ها وقد خيم الظلام بستاره على المكان من كل ناحية.
سكون كبير، وصمت مخيف، حتى أن الأجسام رغم ثقل الملابس تكاد أن ترتجف من البرد القارص.
وإذا بطرقات على باب المنزل، فدلفت لأتبين من بالخارج، فإذا بي أجد رجلا كبيرا قد تجاوز الستين عاما بسنوات قليلة.
قد علا الشيب ملامحه، ومعظم شعر رأسه.
نحيف الجسد، وسيم الوجه، غير أن الأيام قد أخذت من وجهه وكادت أن تخطف وسامته جراء هموم الحياة ومتاعبها،هكذا شعرت،وهذا ما وقر بداخلي، لا شيء غير أنني أجيد قراءة الوجوه، فراسة جبلت عليها فطرتي، لا باختياري وحيلتي!
ما هي غير لحظات من الحديث، عرفت أنه جاء يقصدني.
فدلف إلى منزلي، حيث رخات المطر ما زالت على بدلته المتهالكة من نوائب الدهر وفواجع الأقدار.
كان يرتدي بدلة قديمة الصنع،وكأنها امتداد لعشرات السنين،وكأنه لا يملك غيرها.
جلس معي في حجرة الضيافة، وقبل أن يبدأ حديثه أجهش بالبكاء، فأيقنت ساعتها أن ورائه حكاية كبيرة..
هدأت من روعه، وجعلت أتحدث مطيبا خاطره وهل هناك أفضل من جبر الخواطر.. فمن سار بين الناس جابرا للخواطر أدركته عناية الله في جوف المخاطر ناولته منديلا ورقيا كي يجفف دموعه المتناثرة على جنبات وجهه.
كان مائدة العشاء ممتدة فتناول معي الطعام والشراب ثم بدأ حديثه...
بأنه تخرج من كلية الحقوق منذ عشرات السنين ولم يعمل بالمحاماة وعمل بالقطاع الخاص وتزوج وانجب أربعة بنات، هن ما بين المرحلة الثانوية  والجامعية، حيث أنه تزوج متأخرا نظرا لظروف الحياة.
كان مقيما بهم في شقة يملكها في القاهرة القديمة(قاهرة المعز لدين الله الفاطمي)ونظرا لأنه وقع ضحية في قضية نصب كبيرة دحيث كان ضامنا بحسن نيته كاد أن يحبس لولا أنه عرض شقته السكنية للبيع،وكان هذا هو الخيار الأوحد،كي لا يترك بناته وزوجته يواجهن مصيرهن في تلك القاهرة التي لا ترحم!
باع شقته السكنية وأثاث منزله وانتقل إلى شقة بالإيجار في حي آخر بعيدا عن ملاحقة عيون من يعرفهم بنظراتهم القاسية.
لم يستطع الصمود أمام أعباء الحياة، لا سيما وقد ضعف جسده الهزيل، وآذنت شمس حياته على الغروب!
وأنه قد جاء من القاهرة إلى هنا حيث شقيقه يطلب منه حقه الشرعي في ميراث والده.
فما كان من الأخ إلا أن اوصد الأبواب في وجهه متذرعا بسقوط حقه في الميراث لعدم المطالبة به منذ عشرات السنين.
فكانت خيبة الأمل، وكانت المفاجأة من شقيقه الذي غررت به الحياة الدنيا.
فعلى حد قوله مساحة الأرض لا تتجاوز بضعة قراريط من الأرض الزراعية،ولم يطالب بها قبل ذلك لأنه كان في غناء عنها رغم ظروف الحياة معه...
وظل شقيقه يأكل منها ويعيش ويتقاضي ثمن محاصيلها كل هذه السنوات الطويلة!
ذهبت في صحبته في ظلام الليل وتحت رخات المطر إلى شقيقه ولكن دون جدوى.
قررت له بأني معه دون مقابل حتى يحصل عن حقه الشرعي والقانوني بصفتي محاميا فذرفت دمعه من عينيه فباردته سائلا  كي اخفف عنه:لو تبدلت الأدوار وكنت أنا مكانك وأنت مكاني هل كنت ستتأخر عن مساندتي؟
طلبت منه رقم هاتفه فقرر أنه قام ببيعه في جملة ما تم بيعه لمواجهة أعباء الحياة!
فأعطيته رقمي بعد أن قرر أنه سيسافر إلى القاهرة وسيحضر بعد اسبوع لعمل التوكيل القضائي لي كي أتحرك قانونيا.
مضت الأيام ولم يحضر وما زالت طيفه يراود خيالي يوما بعد يوم وشهر بعد شهر..
حتى دق جرس هاتفي ليلة أمس لتقرر لي صاحبة الصوت أنها ابنة(م)الذي كان عندي منذ عام أو أكثر..
وأنها قد حصلت على رقم هاتفي من بطاقة أرقامي والتي كان قد تحصل عليها مني حين زيارتي..
وأنه قد عاجلته المنية في اليوم التالي حيث اصيب بارتفاع في ضغط الدم أدى إلى جلطة في المخ مات على أثرها.
لم يكن اتصال ابنته بأخف من اللقاء الأول بوالدها شهيد لقمة العيش والأخ المتغطرس الذي منعه حقه على قيد الحياة.
مات الرجل وكأن روحه أبت أن تعيش في هذا العالم الملوث بالجفاء وقطيعة الأرحام وأكل الحقوق.
وقعت كلماتها لي عبر الهاتف وكأنها سهام متتالية قد أخذت من عقلي وتفكيري.
مات الرجل وكأن لعنة روحه ستظل تطارد من قطع رحمه،ومن أكل حقه ومنعه منه بلا رحمة أو شفقة.
لا سيما وقد شدد الإسلام على تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فحرّم كل نوع من المعاملات فيه أكل الأموال بالباطل، أو هضم للحقوق حفاظًا على حقوق الناس، وصيانة للمعاملات من أن تتسرب إليها دواعي الظلم والقسوة، التي تتنافى مع روح الرحمة والتعاون، التي جاء بها الإسلام وحث أتباعه عليها في العديد من المواقف والتعاليم.
ما قيمة الحياة ونحن نتصارع ونقتتل عليها ؟
ما قيمتها وتحت الأرض ضحايا أكل ذوي ارحامهم حقوقهم ؟
و كيف يعيش أمثال هؤلاء اللقطاء  حياتهم بلا أدنى تأنيب من الضمير ؟
هذا الصراع المخيف لم يخلقنا الله من أجله،بل خلقنا لنتراحم ونتعاون ويعاضد بعضنا البعض، لا ليعض بعضنا بعضا!
حياتنا زائلة،ورحلتنا طالت أم قصرت فلها نهاية حتمية...فماذا نحن فاعلون؟
علمني ضميري دائمًا أن كلمة الحق يجب قولها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، ورسالتي المهنية بل وكإنسان هي الدفاع وحماية حقوق  الغير وأن أكون صوته المسموع ما استطعت إلى ذلك سبيلا.