رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

أستاذ جامعي: الراحل قاسم عبده كان يبحث عن جوهر وظيفة المؤرخ في أمته

المؤرخ قاسم عبده
المؤرخ قاسم عبده قاسم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

عبر الدكتور عمرو منير أستاذ كلية الآداب جامعة الزقازيق، عن حزنه الشديد لرحيل المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم، والذي وافته المنيه خلال الأيام الماضية قائلا: أجدها مهمة صعبة أن أتحدث عن مؤرخ جليل في مقام وقامة د.قاسم عبده قاسم لسببين، أولهما: طبيعة علاقتي الشخصية به، فهو لي بمثابة الأب والمعلم والعالم الفذ الذي أخذ بيدي منذ كنت طالبًا في الفرقة الأولى بكلية الآداب جامعة الزقازيق، وفتح لي ولكثير من أبناء جيلي طرائق العلم، وعلمنا كيف يكون الدرس، وكيف نتعرف إلى ذلك العلم الجامع الشامل، ألا وهو علم التاريخ فطالما جلسنا إليه في قاعات الدرس نستمع إليه ونتتلمذ عليه، فكان علمه موقفًا، وكانت ثقافته رؤية وكان منهجه تأصيلًا، وكانت كتابته تأسيسًا، وكانت أستاذيته التزامًا ومصدر إلهام لكل من يطمح أن يكون أستاذًا جامعيًا يسهم في بناء الجامعة والوطن، يشد أزرنا، يبث فينا الثقة والطموح، يحاصر مخاوفنا، يضعنا على الطريق، يجذر فينا الجدية في كل شىء يكسو أفكارنا البسيطة بعمق من رؤاه، مهاب فى كل شيء، معطاء بلا حدود، شجرة وارفة تظلل كل من يقترب منه، وإذ صحونا فجأة، فوجدناه تجاوز حدود واقعنا، سبقنا إلى عالم الأبدية والخلود، قبل أن نرتوي منه حد الامتلاء.

وتابع منير : السبب الثاني هو: سبب مهني يعود إلى شموخ القامة والقيمة التي نحن بصددها، فهو مؤرخ عليم وكاتب فذ.. تعهد أجيالًا كثيرة بالعلم والمعرفة، وفاض علمه حتى اجتاز الآفاق، وتعددت مجالات إسهاماته العلمية ما بين التاريخ والأدب، والموروث الشعبي، والترجمة... فبلغت مؤلَّفاته وكتاباته ما يزيد على المئتين ومعها تعددت علامات التقدير التي حصل عليها، فحصد جوائز عدة في الفكر والكتابة والترجمة لما تركه من رصيد من الأعمال العلمية التي سبق بها زمانه، وما حفره في ذاكرة عدة أجيال لا تفتأ تستعيد مواقفه الإنسانية والأخلاقية وفوق ذلك تعاملاته الأكثر رقياً ... كان نموذجاً للأستاذ الجامعي المُهاب في كل شئ.. كان رمزاً للوفاء والإخلاص والجدية وحب العمل والإبداع..

أوضح منير ان الدكتور قاسم كان شخصية أكاديمية فذة عملاقة مهذبة، وقد لا نجد فى قاموسنا كلمات نحسن بها التعبير عما خالجنا من شعور وإحساس حين تلهج ألسنتنا بذكراه في أحد أحاديثنا أو إذا تصفحنا واحدة من أعماله ومقالاته وكتبه ودراساته الحاضرة التى تمس كل أعمالنا وشواغلنا.

واستطرد منير قائلا : بدا  الدكتور قاسم طوال رحلته العلمية المشرفة عالِمًا يبحث عن جوهر وظيفة المؤرخ في أمته يتحيز لها وينحاز لقضاياها، ويعلن عن انتمائه إلى هذه الأمة مفتخرًا بذلك، ولكن ليس من هذا النوع من الفخر الذي يقعده متغنيًا بمجدها الغابر، أو بماضيها الذهبي، أو البكاء على أطلالها، وإنما بالبحث عن الحي في الأمة في عالم أفكارها وحياتها وفاعلياتها البحث عن ضرورات الإحياء، ومساراته فيها ملتزمًا بأصول ذاكرتها الحضارية الحافزة الدافعة الرافعة، رغبة منه لإحياء كل ما يعينها على البقاء والحياة والشهود. وفي إطار ذلك الفهم والوعي تحركت ثوابته الحضارية ورسالة المؤرخ العلمية لتتفاعل لتخرج أجندته البحثية كتابات تاريخية تحفز كل مناطق المسكوت عنه في التاريخ المصري... حمل هم مصر من دون أن يغيب هو عن مصر أو تغيب هي عنه، ليعبِّر عن أقرب درجات الانتماء إليها.

وجاءت كتاباته التاريخية لتعطي المؤرخ صورًا أكثر مصداقية عما حوته الكتابات ذات الصبغة الرسمية وكإضافة حقيقية إلى تاريخ مصر، بكل ما تتضمنه من إيحاء ودلالة وصدق لجزئيات الواقع الحياتي المجتمعي، في وقت ساد اغتراب العلم التاريخي وتجاهله وتهميشه لدور الناس والجماعات الشعبية في صنع التاريخ. فوجه تلاميذه في الدراسات العليا إلى التركيز على دور الصُّنَّاع الحقيقيين لتاريخ مصر والعرب ، ودراسة القوى الشعبية، ورؤيتها لذاتها وللأحداث من حولها وفي إطار ذلك الفهم والوعي تحركت ثوابته الحضارية ورسالة المؤرخ العلمية لتتفاعل لتخرج أجندته البحثية، التي حار البعض في تفسير مكوِّناتها أو مكنوناتها.. تعرض للظلم أحيانًا فلم يستسلم.. دخل السجون وخرج منها أشد عزيمة وأكثر مضاء.. ليواصل مسيرته متفائلًا من نجاح إلى آخر حتى أصبح أحد أهم رواد المدرسة التاريخية منذ الربع الأخير من القرن العشرين. رمز الأبوة الصادقة، العطاء بغير حدود، رمز المعرفة والنور، رمز الإنسان في فطرته الأولى، العلم والجمال والرفق عنوانه في كل موقف، هو أستاذ الجيل و أحد الرموز من بقايا الزمن الجميل عندما كان الأستاذ يزن جامعة كاملة.. وأهم ما بقي من العصر الزاهر للجامعات المصرية.. والنخبة من أساتذة الجامعات و آخر ما بقي عندنا من حصاد المعرفة الحقيقية والعلم الأصيل.. ، كان قيمة معرفية تضعنا من جديد أمام إمكانية الفرح -ثانية- بوجهنا الذي حاولوا تضييعه منذ انعدام فترة العافية كحلم عابر. ولنكشف عبر كتاباته وترجماته المتعددة عن قدرة الشيخ المؤرخ قاسم عبده قاسم على النفاذ إلى روح مصر، ولِمَ لا؟! وهو المعفَّر بأديم ثقافة وتراث وتاريخ هذا الشعب. ما أصعب الأيام من دونك أستاذي الغالي.

رحم الله تعالى أبي وأستاذي ومعلمي الخالد د. قاسم عبده قاسم.